إذا راقبتَ الحمَّالين وطريقةَ عملِهم تجدُهم يرفعون أوزاناً كبيرة لا تتناسب مع حجمِهم وقوتهم العضلية، لكنهم يكتسبون مهارةً مميزةً تمكنُهم من نقل أشياءَ ثقيلةٍ والتغلبِ بها على السلالم صعوداً وهبوطاً، وأهمُّ نقطة في تلك المهارة هي سيطرتهم على مركز الثقل لتلك الأشياء، مركز الثقل الذي يُدعى بالتعبير الفيزيائي مركزٓ المقاومة أو مركز الدوران.
لكن العبرة من استعراض تلك الفكرة، هي ما تستعمله حفنةٌ قليلة من أجهزة الاستخبارات الدولية للسيطرة على الحكومات والمجتمعات الخاضعة لسيطرتها من تقديرها الصحيح لمركز الثقل في تلك الدول والمجتمعات المستهدفة…
و لتقريب المفهوم أكثر إلى الإخوة القراء، علينا أن ندرك المعنى الحقيقي لسياسة فرق تسد التي تمكنت خلالها الإمبراطورية البريطانية والفرنسية وقبلها الإسبانية والهولندية والبرتغالية من السيطرة على العالم الذي تفوق مساحتُه وسكانه مساحة تلك الدول وعدد سكانها بعشرات بل حتى مئات الأضعاف .
بذل الكولونيل توماس إدوارد لورنس و المستكشفة غيرترود بيل ومركز استخبارات الشرق الأدنى البريطاني الذي كان مركزه القاهرة، جهداً جباراً لإيجاد مراكز التوازنات في دولنا، التي صنعوها ورتبوها حسب مصالحهم، فحصروا العائلة الهاشمية في الأردن، ومكنوا آل سعود على حساب آل رشيد … أما في الهند، فصَّنْعَ البريطانيون الرموز الدينية والاجتماعية، وكرَّسوا فكرة الطبقية المقتبسة من الديانة الهندوسية التي تقسم المجتمع إلى خمس طبقات، وسيطروا على مراكز التأثير في المجتمع الهندي. في الهند التي يوجد بها أكبرُ أقلية مسلمة بتعداد يقارب 350 مليون نسمة تهيمن الطبقات على الحياة اليومية؛ ابتداء من الأشياء البسيطة جداً، مثل( ماذا تأكل؟ وأين تأكل؟ ومع من تأكل؟) وصولاً إلى قرارات مصيريّة مثل الزواج وشراء منزل.
يقسم النظامُ الطبقي الهندوس إلى أربع طبقات رئيسة هي: البراهمة، كشاتريا، فايشيا، والشودرا. على قمة الهرم الطبقي تتربع طبقة البراهمة (ومعظمهم من المدرسين والمثقفين ويُعتقد أنهم جاؤوا من رأس الإله براهما)، ثم كشاتريا (المحاربون والحكام ويعتقد أنهم من ذراعي الإله)، ثم فايشيا (وهم التجار الذين جاؤوا من فخذيه)، وفي أدنى السلم الطبقي يأتي الشودرا (الذين جاؤوا من قدمي براهما). وتقع طبقة الداليت (أو المنبوذون) خارج هذا الهرم الطبقي.
وتنقسم كل طبقة رئيسة بدورها إلى حوالي 3,000 طبقة و 25,000 طبقة فرعية بناء على المهن. وينتمي معظم مليارديرات الهند إلى طبقة فايشيا، في حين يستمر البراهمة في السيطرة على المناصب العليا في القضاء وقطاع التكنولوجيا المزدهر.أما تاريخياً فاكتفى البريطانيون بالسيطرة على الطبقات الثلاث الأولى وعلى رأسهم طبقةُ المهراجات ليسيطروا على خامس أغنى اقتصاد في العالم، وبلد عدد سكانه يفوق عدد سكان بريطانيا بعشرات الأضعاف. ومن الطبقات الأولى سيطروا على مراكز توازن معينة أغنوهم وعززوا مكانتهم وحافظوا لهم على مكتسباتهم ومن خلالهم أفقروا الشعب، ولم ينجُ المسلمون من تلك الطبقية، بل حتى أنهم اتبعوا طريقة الهندوس نفسها، فقسموا المسلمين لطبقات ووضعوا في أعلاها أحفاد العرب الفاتحين!
في سوريا صنع الفرنسيون أسطورة سليمان مرشد، ودرسوا الأقليات في سوريا ولبنان، فوضعوا الأقليات في قلب مركز التوازن في مجتمعاتنا، ولم تدركِ الأكثريةُ السنية إلى يومنا هذا أهميةَ هذا الموضوع!
عندما تمسك مركز التوازن تحتاج إلى جهد قليل وقوة أقل للتحكم بالمجتمع والدول كيفما تشاء، عندها يصبح بضعة رجالِ استخبارات يجلسون على بعد آلاف الكيلومترات يستطيعون التحكم بالمجتمع والدولة والحياة الاقتصادية والثقافية والدينية من خلال تحريك مراكز التوازن يمنة ويسرة وللأعلى والأسفل! في العراق أخطأ المحافظون الجددُ عندما حلوا الجيش وأجهزة الاستخبارات التي كانت مركز التوازن الذي سيطر على العراق سنةً وشيعةً وكرداً، وأقسموا بعدها ألا يكرروا الخطأ في سوريا وباقي الدول العربية، فتغيير مركز التوازن بآخر مكلفٌ ويحتاج إلى وقت وتضحيات كثيرة، هم في غنى عنها. وأغلب الظن أن بيروقراطيي مراكز التحكم الغربية، كم كانوا يتمنون لو أن الملك عبد العزيز يملك من الأبناء ما يمكنهم من الاستمرار في استلام الحكم لخمسين سنة للأمام، لكن -الله غالب- لذلك كان لابد من تلك الانعطافة القاسية التي تنقل الحكم للجيل الثالث، وعليه فإن ما جرى ويجري في المملكة ينطبق عليه المثل القائل :”مرغم أخاك لا بطل”!
هذه الأداة التشخيصية تفسر لنا الكثير من الظواهر والحوادث التي نبذل في فك أسرارها و التكهن بمآلاتها الجهد الوفير، لكنها بالتأكيد أبسط من ذلك بكثير . وعندها يمكن تفسيرُ سبب توريث الحكم لبشار ، و سبب اغتيال الحريري، والدافع وراء سيطرة فرنسا على جبهة تحرير الجزائر، وعلو كعب المذهب الصوفي أيام الاستعمار القديم، وعلو السلفية أيام الاستعمار الحديث، و أبعاد إستراتيجية الفوضى الخلاقة التي أجتاحت دولنا بعد غزو العراق، وأسباب تعويم طبقة الجيش المصري والاستخبارات على حساب طبقة البرجوازية الملكية، وانعكاسات الصراع السني الشيعي و مفهوم تصدير الثورة الخمينية و محورية القضية الفلسطينية…
في هذا السياق شكلت ثورات الربيع العربي صداعاً شديداً لأجهزة الاستخبارات الغربية التي اضطرت مرغمة على عمل تبديلات كان لابد منها لمراكز التوازن التقليدية التي ورثتها الولايات المتحدة عن الإمبراطوريات التي أفل نجمُها في عالمنا المسلم ….البيروقراطيون الذين يُمسكون بالقرار الاستخباراتي في الدول الكبرى وعلى رأسها الدول الخمس المنضوية تحت اتفاق العيون الخمس (الولايات المتحدة، بريطانيا، استراليا، كندا، نيوزيلاندا)، هم بشر يكرهون التغيير ويحبون الابتعاد عن العمل الشاق الذي يصدع الرؤوس، لكن غباء مراكز التوازن في دولنا وإرادة الله تتدخل دائماً لتحطيم ما مكره بني البشر لسنوات ،وعليه فإن انزياح مراكز التوازن تلك ما هي إلا قدر إلهي يفوق قدرة البشر (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ،يونس-24).. ومن هنا تتشكل في وقتنا الراهن تحدياتٌ كبيرة جاءت مع ثورات الربيع العربي، ومعها يبدو أن محاولة إحياء مراكز التوازن التقليدية عصياً على الجميع رغم المحاولات الحثيثة لذلك … والأيام القادمة ستشهد انزياحاتٍ مزعجةً لمجتمعات تلك المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، مصر، سوريا، حيث لابد من مراكز توازن جديدة لأسباب خارجة عن سيطرة محرك الدمى الذي يجلس خلف العيون الخمس مسلماً بحكمة الإله أكثر منا نحن المسلمين!
تلك الكلمات أضعها بين أيدي الذين رفضوا التضحية بمستقبل سعيد من أجل ماض تعيس، لأن من ذرية هؤلاء الذين يعيشون في الخيام على الحدود سيخرج من ينشئون أرضاً حقيقية وليس وهمًا درجنا على أن ندعوه “وطن”.