كيف غيّر المدربون الأوروبيون جيش كييف وبدلوا مسار الحرب . في الأشهر الـ14 التي تلت غزو روسيا لأوكرانيا، أعرب معظم المحللون عن شكوكهم المتكررة حول متانة التزامات أوروبا تجاه كييف. وخلال الشطر الأعظم من عام 2022، لاحظ كثيرون أن ألمانيا تلكّأت في إمداد القوات الأوكرانية بالأسلحة واستغرقت شهوراً قبل أن توافق على فكرة إرسال الدبابات إليها. وأعرب آخرون عن قلقهم من أن بعض الدول الأوروبية التي تواجه ارتفاعاً في تكاليف الطاقة وضغوطاً اقتصادية أخرى، قد تلجم دعمها وتلحّ على التوصل إلى سلام على أساس تفاوضي مع موسكو. وحتى في الوقت الحالي، على رغم التدفق المستمر للأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا، أشار بعض المعلقين إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما يضع في حساباته أن أوروبا تبدي تردداً وأنه قادر ببساطة على الصمود أكثر من شركاء كييف الغربيين.
وفي المقابل، من خلال التركيز على الأسلحة والمساعدات، فإن تقييمات من هذا النوع تتجاهل الحجم الكامل للجهود الأوروبية في أوكرانيا. في الحقيقة، تستحق الولايات المتحدة تلقي الثناء على تقديمها النصف تقريباً من الـ156 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والإنسانية والعسكرية التي حصلت عليها أوكرانيا في الأشهر الـ12 الأولى من الصراع. بيد أن المساعدات والمعدات، على رغم أهميتها، ليست كافية لتفسير نجاح أوكرانيا في ساحة المعركة. إذ اعتمد جانب كبير من ذلك على جودة القوات الأوكرانية وتدريبها. وقد تمكنت أوروبا بشكل خاص من أداء دور حاسم في هذا الصدد. ومثلاً، في عام 2022، دربت المملكة المتحدة حوالى 10 آلاف جندي أوكراني، بينما لم تدرب الولايات المتحدة سوى 3100 جندي تقريباً. وباستثناء النمسا، قدمت كل دولة في الاتحاد الأوروبي، حتى سويسرا، شكلاً من أشكال المساعدة القتالية أو غير القتالية، ووفّرت التدريب للجيش الأوكراني منذ بدء الحرب.
في الواقع، تستند هذه الجهود الأوروبية إلى برامج التدريب والإرشاد التي قدمتها دول الناتو إلى أوكرانيا قبل بدء الحرب. وبين عامي 2014 و2022، عملت كندا، وليتوانيا، وبولندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، إلى جانب عشرات الدول الغربية الأخرى، على تدريب القوات الأوكرانية وتقديم المشورة لها بشأن مجموعة متنوعة من المهارات، تتراوح بين الريادة في القتال والتخطيط العملياتي. واستطراداً، ساعد خبراء الناتو أيضاً في بناء القوات الخاصة الأوكرانية بما يتماشى مع معايير الحلف. وقد أتت هذه المبادرات ثمارها. وعلى نحو مغاير لما حصل في عام 2014، حينما لم تكن القوات الأوكرانية منظمة وافتقرت إلى التدريب الحديث، الأمر الذي منعها من مواجهة استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وخوض حرب أولية في دونباس، نجحت القوات الأوكرانية في إحباط الغزو الروسي عام 2022. ومنذ ذلك الحين، دافعت تلك القوات عن كثير من الأراضي الأوكرانية. وخلال نهوضها بذلك، استخدمت القوات الأوكرانية تكتيكات حرب غير عادية استمدّتها من الخبراء الغربيين، بغية قطع الطريق أمام القوات الروسية المتجهة إلى كييف، بالإضافة إلى استعمالها تكتيكات أكثر تقليدية تعتمد على القوة العسكرية والانضباط من أجل وقف الهجوم الروسي في الجزء الشرقي من البلاد.
في المقابل، يشكّل التدريب عملية متواصلة ودائمة تزداد أهميتها كلما طالت الحرب. من هذا المنطلق، تحتاج أوكرانيا إلى مجندين جدد ومزيد من التدريب المتخصص في أنظمة الأسلحة المتقدمة التي تتلقاها من الغرب. ومن أجل زيادة احتمالات النجاح في هجوم الربيع المقبل، ستحتاج أوكرانيا أيضاً إلى خبرات في تنظيم أعداد كبيرة من القوات والأسلحة كي تُنفِّذْ ما يُسمّى “مناورة الأسلحة المجتمعة” [أي التي تُستَخدم كلها في آن معاً]. والجدير بالذكر أن توسيع نطاق التدريب كي يغطّي الفِرق ثم الفصائل والسرايا والكتائب في نهاية المطاف، سيعطي القوات الأوكرانية المرونة والسرعة اللتين تحتاج إليهما من أجل التغلب على حرب الاستنزاف التي تفضّلها موسكو، ثم استعادة الأراضي التي تحتلها روسيا.
وبفضل قربها الجغرافي، تتمتع أوروبا بموقع مثالي لتقديم هذا الدعم. منذ الغزو الروسي، ومن دون أي تدخل أميركي، استضافت الدول الأوروبية جميع التدريبات القتالية الأساسية للمجندين الأوكرانيين الجدد، وأسهمت في تحويل المدنيين إلى جنود أكفاء من خلال دورة تدريبية تمتد على خمسة أسابيع. إضافة إلى ذلك، تقدّم دول أوروبية عدّة تدريبات متخصصة في الأسلحة على غرار دبابات “ليوبارد” وأنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى أنها توفّر حالياً حوالى نصف التدريب الأكثر تقدماً الذي يتوجب تقديمه إلى التشكيلات العسكرية الأوكرانية الكبيرة، كي تتعلم المناورات الحربية وتتمرس في اتقانها. واستطراداً، فإن الهجوم الأوكراني الرامي إلى إخراج روسيا من أراضيها سيعتمد على التدريب أساساً، حتى بأكثر من اعتماده على الأسلحة والذخيرة. ومن أجل فهم أفضل للتحديات التي تواجهها أوكرانيا والطرق التي يمكن لأوروبا على وجه الخصوص أن تساعد كييف في تخطّيها، من الضروري إدراك هذا الجانب المهم من الجهود الحربية وفهم كيفية التعامل معه اليوم.
المهارات والقذائف
بعد أكثر من عام من القتال الشرس، أصبح الحفاظ على جودة القوات تحدياً رئيساً تخوضه أوكرانيا. في الواقع، يعاني أي جيش يشارك في قتال حاد ومكثف على مدى فترة طويلة، من انخفاض في الفعالية القتالية، لأنه يفقد جنوده المتمرسين ويضطر إلى استبدالهم بمجندين جدد. خلال العام الماضي، قُتل أو جُرح أكثر من 120 ألفاً من القوات المحترفة والمدربة تدريباً جيداً في أوكرانيا، وحلّ محلّهم بدلاء ضمّت صفوفهم أعداداً كبيرة من الجنود المواطنين الذين حشدوا مع خبرة قتالية قليلة أو معدومة. إنّ حدوث مثل هذا الانخفاض في المهارات والخبرات هو أمر متوقع، ويؤثر أيضاً على روسيا التي خسر جيشها أكثر من 200 ألف ضحية، استُبدلوا بجنود استقدموا عبر التعبئة [التي فرضتها الدولة، سواء أكانت تعبئة عامة أو جزئية]، ومجندين من السجون لا يرغبون في القتال والموت في أوكرانيا.
ميزة خفية لدى أوكرانيا
وعلى رغم ذلك، لا تستطيع كييف أن تعقد الأمل ببساطة على انهيار قوات روسيا التي يفوق عدد سكانها ثلاثة أضعاف عدد سكان أوكرانيا، بسرعة أكبر من انهيار القوات الأوكرانية. ومن أجل الدفاع عن مواقعها واستعادة الأراضي من روسيا، يجب أن تستمر أوكرانيا في تدريب أعداد كبيرة من المواطنين المجنّدين، خصوصاً أن كثيراً منهم يفتقر إلى المهارات الأساسية، على غرار كيفية استخدام الأسلحة، والتحرك، والتواصل، وتوفير الطب الميداني [العلاج المناسب للإصابات التي تقع في المعارك]. لذا، شرعت الحكومة الأوكرانية في تدريب 6 آلاف جندي جديد في الشهر الواحد، ما يمثّل مهمة صعبة بالنظر إلى موارد البلاد المنهكة بشدة والنضال القاسي الذي تخوضه من أجل الصمود.
في الواقع، تقدم الدول الأوروبية دعماً حاسماً لمساعدة أوكرانيا على تحقيق هذا الهدف. وتشير المقابلات التي أجريناها مع موظفين أوكرانيين وآخرين تابعين لحلف شمال الأطلسي، إلى أن المدربين من دول الناتو تمكنوا من تجهيز حوالى 2500 جندي أوكراني جديد من خلال تدريبهم على مهارات القتال الأساسية كل شهر. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العدد لا يصل إلى المعدل الذي تستهدفه كييف، بيد أنه لا يزال يمثل مساهمة مهمة. بدأ هذا البرنامج المعروف باسم عملية “إنترفلِكس” Interflex في يونيو (حزيران) 2022 وقادته المملكة المتحدة بمساعدة مدربين عسكريين من أستراليا وكندا والدنمارك وفنلندا وليتوانيا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والسويد.
يجري التدريب في أربعة مواقع ويشكّل امتداداً للتدريب الذي قدمته المملكة المتحدة وحلفاؤها في الناتو قبل عام 2022. وقد صمَّم وفقاً لما تعتبره القوات المسلحة الأوكرانية مفيداً في ضوء الظروف الفعلية في ساحة المعركة في شرق أوكرانيا. وبشكل أساسي، جرى الاعتماد على مدربي جيوش من الدول الأوروبية وشركائها في المحيطين الهندي والهادئ. ويعتبر ذلك أمراً حيوياً في إظهار الدعم المتعدد الأطراف لأوكرانيا ومكافحة السرديات الروسية التي تزعم أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يسهمان في تأجيج الحرب. وإلى جانب التدريب على مهارات القتال الأساسية، يحصل المجندون الأوكرانيون الذين يستكملون البرنامج على معدات تشمل الزي العسكري والخوذات والسترات وحقيبة الإسعافات الأولية وملابس تقي من الطقس البارد والممطر. وبالتزامن مع تلك الجهود، قدمت ألمانيا ولاتفيا وسلوفاكيا وإسبانيا أيضاً تدريباً لمجموعات أصغر من الجنود الأوكرانيين، تضمّ حوالى 200 جندي شهرياً.
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى الجنود الأوكرانيين المتمرسين في المعركة يحتاجون إلى التدريب على استخدام مجموعة كبيرة ومتنوعة من نُظِم الأسلحة التي يقدمها الغرب الآن، وتعلّم طريقة صيانتها. منذ الأشهر الأولى من الحرب، اعتمدت أوكرانيا على المعدات العسكرية من مجموعة متنوعة من المانحين الغربيين من خارج حلف الناتو، من أجل تجديد مخزوناتها الحالية وتجهيز الوحدات الجديدة التي تبنيها تحضيراً للعمليات الهجومية المضادة. لم يصعب دمج بعض أنظمة الأسلحة الغربية كصواريخ “جافلين” Javelin و”أن لاو” NLAW المضادة للدبابات، ضمن العمليات الأوكرانية، نظراً لأنها سهلة الاستخدام أو مألوفة بالفعل بالنسبة إلى الجنود الأوكرانيين. في المقابل، ثمة أنواع أخرى من الأسلحة والمعدات غير السوفياتية، بدت جديدة على الجنود الأوكرانيين وتطلبت تدريباً متقدماً لإتقانها، من بينها المدفعية وأنظمة الدفاع الجوي ودبابات “ليوبارد-2″ الألمانية و”تشالنجر-2” البريطانية.
في الواقع، تتمتع الدول الأوروبية بميزة أخرى تجعلها في موقع أفضل في قيادة هذا الجهد التدريبي. وبالمقارنة مع زملائهم الأميركيين، إنّ المدربين الأوروبيين على دراية بمجموعة أكثر تنوعاً من المعدات وأنظمة الأسلحة. على رغم أن الولايات المتحدة تمثّل أكبر مانح من حيث حجم المساعدات، إلا أن الدول الأوروبية تقدم لأوكرانيا مجموعة أوسع من نُظم الأسلحة والذخيرة والمعدات. ويأتي مثل على ذلك من قذائف المدفعية. إذ تقدم الولايات المتحدة أعداداً كبيرة من قذائف الهاون عيار 120 مليمتراً وقذائف المدفعية عيار 105 مليمتراً المتوافقة مع الأسلحة الأميركية المرسلة إلى أوكرانيا. وفي المقابل، قدّم المانحون الأوروبيون عشرات الأنواع الأخرى من القذائف المتناسبة مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأسلحة الموجودة في ترسانة أوكرانيا. كذلك، تعمل دول أوروبية عدة، من بينها سلوفاكيا، على زيادة إنتاج قذائف المدفعية من عيار 155 مليمتراً بنسبة خمسة أضعاف، من أجل تلبية المتطلبات الأوكرانية.
وفقاً لمقابلات مع القوات الأوكرانية في فبراير (شباط) 2023، تبرعت الدول الأوروبية وأستراليا وكندا بأكثر من نصف أنظمة المدفعية وقذائف الهاون التي استخدمتها تلك القوات. ونظراً لقرب بولندا من أوكرانيا، فقد أدّت دوراً ريادياً في صيانة وإصلاح عدد من نظم الأسلحة القديمة الغربية والسوفياتية التي تنقلها أوكرانيا عبر الحدود حينما تتعطل. وفي مارس (آذار)، وافق الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي على إعادة الأموال للدول الأعضاء التي ترسل ما مجموعه مليون طلقة مدفعية من مخزوناتها إلى أوكرانيا، مع خطط لشراء ذخيرة مشتركة بقيمة مليار دولار من أجل دعم ذلك البلد بشكل أكبر.
ونظراً لتعاملهم مع مجموعة واسعة من الأسلحة والمدفعيات، يُعتبر المانحون الأوروبيون الأنسب في تدريب الأوكرانيين على تلك النظم من الأسلحة. في الواقع، وفقاً للمقابلات التي أجريت، تؤمن الدول الأوروبية الآن الجزء الأكبر من التدريب المتخصص على نظم أسلحة معيّنة. ومثلاً، في مواقع منتشرة في مختلف أنحاء بولندا، تتعلم طواقم الدبابات الأوكرانية كيفية استخدام دبابات ليوبارد بمساعدة مدربين كنديين وبولنديين ونرويجيين. واستكمالاً، أدّت أوروبا أيضاً دوراً ريادياً في تعزيز قدرات الدفاع الجوي الأوكرانية. وتدرّب ألمانيا الجنود الأوكرانيين داخل أراضيها على أنظمة الدفاع الجوي المتطورة “إيريس- تي” IRIS-T ومدافع “جيبارد” Gepard المضادة للطائرات. وبطريقة موازية، قدمت فرنسا وإيطاليا نظام الدفاع الجوي “سامب/ تي” SAMP/ T المعتمد على صواريخ “أستر 30” Aster 30. يُعتبر هذا التركيز على تدريب الدفاع الجوي أمراً بالغ الأهمية لأنه يدعم قدرة أوكرانيا في حماية بنيتها التحتية والمدنيين. وعلى رغم ذلك، ستحتاج أوكرانيا إلى مزيد من أنظمة الدفاع الجوي الأوروبية بحلول نهاية الصيف، بالنظر إلى استخدام روسيا للطائرات الإيرانية من دون طيار والصواريخ الباليستية والفرط صوتية بهدف إحداث أضرار جانبية في جميع أنحاء البلاد.
تقبّل وجود بعض التعقيدات
لم تقتصر المساهمات الأوروبية في تدريب القوات الأوكرانية على نظم الأسلحة الجديدة فحسب. في الحقيقة، قدّمت أوروبا مساعدة حاسمة وضرورية في دمج الوحدات المدربة حديثاً في القوات الأوكرانية الحالية وفي إعداد أوكرانيا لعمليات معقدة تُستَخدم فيها الأسلحة كلها في آن معاً. وبمجرد تدريب الجنود، يجب دمجهم في الوحدات التي من المقرر أن يلتحقوا بها، وهي وحدات بحجم السرية والكتيبة. ويجب أن تتعلم هذه الوحدات بسرعة التنسيق مع بعضها البعض كي تكون قادرة على تنظيم عمليات دفاعية وهجومية فعالة. في الواقع، إنّ هجوم الربيع المرتقب الذي ستشنه أوكرانيا من أجل استعادة أراضيها في الجنوب والشرق سيتطلب تنسيقاً أكثر تقدماً، يشمل الدروع والمدفعية والاستطلاع والقوة الجوية في مناورة حربية تُستَخدم فيها كل الأسلحة في آن معاً. وسيكون تخطيط ذلك النوع من العمليات وتنفيذها بما يتماشى مع مبادئ حلف الناتو، أمراً حاسماً بالنسبة إلى أوكرانيا. إذ سيتيح لها ذلك الأمر الاستفادة من الإمكانات الكاملة للأسلحة المتقدمة التي تتلقاها من أوروبا ويتيح لها خرق الخطوط والخنادق الروسية.
بالتأكيد، أدّت الولايات المتحدة دوراً مهماً في هذه الجهود. في الوقت الحالي، يقدم المدربون الأميركيون لأوكرانيا حوالى نصف التدريبات على كيفية تنسيق استخدام كل الأسلحة مجتمعةً في منطقة تدريب “غرافنوهر” في ألمانيا. والجدير بالذكر أنّ بولندا ودولاً أوروبية عدة أخرى أدّت دوراً مهماً بشكل خاص. ومثلاً، أُنشئت “بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة العسكرية” European Union Military Assistance Mission في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بدعم من 24 دولة، من أجل مساندة أوكرانيا. وتتولى تدريب 15 ألف أوكراني على مدار عامين في أنشطة تتراوح بين التدريب على مهارات القتال الأساسية وبين تطوير القدرات العسكرية المتقدمة والأكثر تخصصاً على غرار نزع الألغام، إضافة إلى تدريب المناصب القيادية الدنيا [صغار القادة] والخدمات اللوجستية، والاتصالات. من خلال السماح لعدد من الدول الأوروبية بتدريب وحدات أوكرانية أصغر، كأن تكون بحجم سَريِّة واحدة، على مناورة تُستخدم فيها كل الأسلحة في آن معاً، تُعزز تلك المبادرة القدرات القتالية الأوكرانية وترسّخ الوحدة الأوروبية في وجه العدوان الروسي.
كذلك، أمسكت الدول الأوروبية بزمام المبادرة في توفير الأسلحة التي كانت الولايات المتحدة مترددة في إرسالها، كالطائرات المقاتلة من طراز “ميغ-29” MiG-29، التي أرسلتها بولندا وسلوفاكيا. والجدير بالذكر أن قرار إرسال دبابات القتال الأساسية إلى أوكرانيا، الذي وافقت عليه الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الأوروبيين في يناير (كانون الثاني)، جاء بمبادرة أوروبية وليس أميركية. ولم تتوصل تلك الدول إلى اتفاق على ذلك إلا بعد تعهّد المملكة المتحدة أولاً بإرسال دبابات تشالنجر، وقطعت بولندا، إلى جانب 11 دولة أوروبية وكندا، تعهداً مماثلاً يقضي بإرسال دبابات ليوبارد، وضغطت على ألمانيا للسماح بتصديرها إلى أوكرانيا. في النهاية، وافقت ألمانيا على إرسال تلك الدبابات بعد أن صادقت الولايات المتحدة على قرار إمداد أوكرانيا بدبابات “أبرامز” Abrams.
في المقابل، بدت تلك المساعدة الأميركية رمزية إلى حد كبير، في الأقل على المدى القصير. إذ ستتلقى أوكرانيا حوالى 300 دبابة قتال غربية مزودة بمعدات استهداف دقيقة وأجهزة بصرية حديثة قبل هجوم الربيع، لكن لن يكون بينها دبابات “أبرامز”، إذ إنها لن تصل قبل أواخر السنة.
وقد تكتسي المبادرة والعزم الأوروبيين أهمية أكبر في الأشهر المقبلة. إذ تفكر دول كفنلندا وفرنسا وهولندا والمملكة المتحدة في إعطاء أوكرانيا طائرات مقاتلة من الجيل الرابع، بالإضافة إلى تدريب الطيارين المقاتلين. حتى الآن، لم توافق الولايات المتحدة بعد على تدريب الأوكرانيين على طائرات “أف- 16″، لكن يبدو من المعقول أن توافق على أن تقدّم الدول الأوروبية من تلقاء نفسها طائرات مقاتلة متقدمة وذلك تجنباً لتصعيد المخاوف التي أثارها البعض في واشنطن.
أوروبا أكثر، نجاح أكبر
على النقيض من الاعتقاد السائد بأن أوروبا مترددة بشأن أوكرانيا، أظهر الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي درجة ملحوظة من الوحدة طوال الحرب. علاوة على ذلك، لم تفرض الولايات المتحدة إرساء هذه الجبهة الموحدة، بل إنها نشأت من تلقاء نفسها، من القاعدة إلى القمة، بفضل تطوع الدول بشكل فردي لتقديم التدريب والمعدات وأشكال الدعم الأخرى. والأهم من ذلك، على رغم أن هذه المساعدة المتعددة الأوجه قد حظيت باهتمام أقل بين المحللين في واشنطن، إلا أنها تعكس دعماً حقيقياً من شعب أوروبا إلى أوكرانيا. في هذا السياق، أظهر استطلاع للآراء أجري في نوفمبر 2022 في الدول الأعضاء في الناتو، أن حوالى 64 في المئة من المشاركين يعتقدون أن غزو روسيا لأوكرانيا يهدد أمنهم ويعتقد 69 في المئة منهم أن بلادهم يجب أن تستمر في تقديم المساعدة لأوكرانيا. في أرجاء أوروبا، ردّت مجموعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على العدوان الروسي، من خلال تقديم مساعدات غير رسمية لأوكرانيا. وكذلك تصدت تلك المجموعات والمنظمات للمعلومات المضللة الروسية، واستعانت أيضاً بمجموعة كبيرة من الناس عبر الإنترنت، وأسندت إليهم موضوع الأسلحة والمساعدات العسكرية والتدريب في مجال العمل الإنساني.
حينما يتعلق الأمر بتدريب القوات الأوكرانية، تتحمل الدول الأوروبية عبئاً أكبر بكثير مما يقع على كاهل الولايات المتحدة. ويحدث ذلك على رغم التكاليف الباهظة والتأثيرات على مدى جاهزيتها من الناحية العسكرية [في حال واجهت تلك الدول أي خطر]. إذ يُضَحّي الجيش البريطاني بجزء كبير من استعداده العسكري من خلال تدريب الأوكرانيين وتجهيزهم عوضاً عن التركيز على جنوده. في المقابل، إنّ التدريب على استخدام كل الأسلحة مجتمعةً الذي تقدمه الولايات المتحدة في عدد من القواعد في ألمانيا، يؤدي إلى تأثير أقل بكثير على الجيش الأميركي، نظراً لحجمه بالمقارنة مع الموارد الأميركية الضخمة الموجودة في أوروبا. في الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تبذل مزيداً من الجهود لمساعدة أوكرانيا في تدريب جيشها والحفاظ على جودة قواته.
ومن المجالات التي تتطلب دعماً من نوع خاص، تطوير قدرات ضباط السرايا والرقباء من المستوى المتوسط. في الواقع، سيكون ضمان الجودة المستمرة في صفوف صغار الضباط العسكريين في أوكرانيا أمراً ضرورياً من أجل الحفاظ على عملية صنع القرار الصائب في ساحة المعركة، علماً أن تلك العملية قد أسهمت في تحقيق نجاح حاسم لأوكرانيا حتى الآن. ويمكن للولايات المتحدة، بخبرتها القتالية ومواردها، أن تأخذ زمام المبادرة في هذا المجال بالتحديد، نظراً لأن الدول الأوروبية منهمكة بالفعل في تدريب الأوكرانيين.
واستطراداً، يستغرق التدريب أسابيع وشهوراً قبل أن يحقق النتائج المرجوة. ولا يستطيع حلفاء أوكرانيا الغربيون الانتظار حتى تظهر حاجات جديدة في كييف. حتى الآن، عبر جهودها التدريبية المكثفة، ساعدت أوروبا في منح أوكرانيا ميزة حاسمة في ما يتعلّق بجودة قواتها. في المقابل، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين البدء على الفور في وضع خطط من أجل الحفاظ على الفاعلية القتالية الأوكرانية من خلال توفير قوات احتياطية إضافية في حال مواجهة هجوم مضاد طويل الأمد. ومن شأن توجيه دعم أميركي أكبر أن يساعد في زيادة نطاق التدريب والحفاظ على عزيمة الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، إذا فشلت جهودها في تحقيق مكاسب أوكرانية سريعة في ساحة المعركة. في الحقيقة، حتى في المجالات التي لا تبذل فيها الولايات المتحدة سوى القليل نسبياً، أصبح استعداد الدول الأوروبية للمخاطرة بموارد كبيرة أمراً حيوياً بشكل متزايد في الدفاع عن أوكرانيا، كما أنّه سيكون حاسماً لاستمرار نجاحها.
- ألكساندرا تشينشيلا، أستاذة مساعدة في “كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة”، “جامعة تكساس إي أند إم”.
- جهارا ماتيسيك، أستاذ عسكري في “الكلية الحربية البحرية الأميركية”، ولفتنانت كولونيل في “القوات الجوية الأميركية”. إنّ الآراء الواردة هنا هي آراءه الخاصة.
فورين أفيرز مايو (ايار)/ يونيو (حزيران) 2023
المصدر: اندبندنت عربية