اللقاءات التي تجريها “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في القاهرة تشكل مؤشراً إلى ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين البلدين.
لم يكن ترحيب المرشد الأعلى للنظام الإيراني أمام ضيفه سلطان عمان هيثم بن طارق قبل 10 أيام بإعادة العلاقة بين بلاده ومصر، مجرد ترحيب عابر أو من باب الدبلوماسية في الرد على واحد من ملفات الوساطة التي يقوم بها الضيف، بل كانت تعبيراً عن نية جدية وتوجه حقيقي لدى قيادة النظام للانتقال من حال القطيعة المستمرة منذ أربعة عقود إلى فتح قنوات تعاون وتواصل تصب في إطار المساعي الإيرانية لترميم علاقتها مع المحيط العربي، بخاصة بعد أن لمست المردود الإيجابي الكبير الذي تحقق في الاتفاق مع السعودية والمعادلات التي رسمها خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
المسار الإيراني لإعادة ترميم العلاقة مع مصر لا يقتصر على إعادة النظر في الأسباب المباشرة التي دفعت طهران إلى إعلان القطيعة مع القاهرة عام 1980 بعد التوقيع على اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وهي أسباب أيديولوجية كانت محكومة بفورة الحماسة التي رافقت انتصار الثورة الإيرانية وتبنيها للقضية الفلسطينية، إلا أنها في الوقت نفسه تركت الباب مفتوحاً للتواصل من خلال الحفاظ على مكاتب رعاية مصالح متبادلة يتولى مسؤوليتها دبلوماسيون من البلدين برتبة سفير.
وقد سعت طهران في تسعينيات القرن الماضي إلى تركيب معادلة إقليمية تقوم على شراكة الدول المؤثرة في المنطقة العربية وتضم كلاً من السعودية ومصر وسوريا في زمن الرئيس الأسبق حافظ الأسد، إلا أن الظروف الموضوعية والغموض الذي أحاط بالطموحات والأهداف الإيرانية من هذا التحالف “الرباعي” كانا سبباً في تريث قيادات هذه الدول حتى الحليف السوري المفترض وعدم السير به.
وشكلت مصر موقعاً مهماً في الإستراتيجية الإيرانية الإقليمية، بخاصة ما يتعلق منها بالساحة الفلسطينية باعتبار القاهرة البوابة الأهم في عملية التواصل والاتصال مع الداخل الفلسطيني، تحديداً قطاع غزة الذي يشكل مسرح النشاط الأبرز للقوى والفصائل المتحالفة أو الحليفة لإيران، لذلك كانت أهم مسببات توتر العلاقة بين طهران والقاهرة، محاولات الجانب الإيراني توظيف الساحة المصرية كحلقة اتصال مع الداخل الفلسطيني وما يعنيه ذلك من محاولة تهريب للأسلحة والمعدات القتالية التي تستخدمها هذه الفصائل في معاركها الدورية مع إسرائيل.
هذا المسار يعني أن ما يمكن أو ربما يطرح على طاولة التفاوض بين القاهرة وطهران لا يقتصر على المسائل الشكلية المرتبطة أو المتعلقة بتسمية بعض الشوارع في العاصمة الإيرانية، على أهميتها الرمزية، لكنها في الأساس تقع خارج التداول اليومي للجمهور الإيراني ولم تتكرس في ذاكرته، كما تكرس على سبيل المثال اسم الأميرة فوزية شقيقة الملك فؤاد بعد اقترانها بالشاه السابق محمد رضا بهلوي، لكن الأساس في مفاوضات إعادة العلاقات، وكما يبدو من الحراك المرافق للحديث عن اتصالات تجري بعيداً من الأضواء، هو البعد الإستراتيجي والتزام طهران تغيير سلوكها واحترام سيادة الدولة المصرية وأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية، وبتعبير أدق وأكثر مباشرة، وقف تجاوز الدولة المصرية وأجهزتها السيادية في بناء علاقاتها مع الفصائل الفلسطينية الناشطة في قطاع غزة وصولاً إلى الضفة الغربية باعتبار هذه الساحة جزءاً من الأمن القومي المصري.
اللقاءات التي تجريها الفصائل الفلسطينية في القاهرة، تحديداً حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” تشكل مؤشراً إلى ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين طهران والقاهرة، بخاصة أن هذين الفصيلين يعتبران أبرز الفصائل المعنية بتطور العلاقة بين إيران ومصر، وإذا ما كانت قيادة حركة “حماس” في الداخل والخارج على تواصل مستمر ودائم مع القيادة والأجهزة المصرية بحكم أنها تعتبر المسؤولة عن إدارة القطاع سياسياً وأمنيا وإدارياً، فإن ما يجب التوقف عنده هو اللقاءات التي عقدتها قيادة حركة “الجهاد” على رأسها الأمين العام زياد النخالة مع رئيس جهاز الاستخبارات المصرية اللواء عباس كامل.
فبعدما استطاعت طهران تكريس دورها وحصتها، إذا جاز التعبير على الساحة الفلسطينية من خلال تعميق التحالف مع “حماس”، وبالإبقاء على هامش من الحرية لقيادة هذه الحركة بالتحرك في إطار الرؤية السياسية والأيديولوجية التي تقوم عليها او تتبناها، فإنها أيضاً استطاعت فرض حركة “الجهاد” بما هي حليف على غرار “حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن وبعض فصائل “الحشد الشعبي” في العراق، وإدراجها لاعباً أساسياً في إطار الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية داخل المحور الذي تقوده في المنطقة، فإن انفتاح قيادة “الجهاد” على جهاز الاستخبارات المصرية يأخذ طابعاً مختلفاً هذه المرة، إذ من المفترض أن يؤسس لمرحلة جديدة من التعامل والتعاطي بين الطرفين، بخاصة أن “الجهاد” مطالبة هذه المرة بأن تكون أكثر انسجاماً مع المصالح الإستراتيجية للدولة المصرية وألا تأخذ في مواقفها مصلحة المحور الإيراني، خصوصاً بعدما كرست نفسها شريكاً فاعلاً في القرار الفلسطيني.
ومن ناحية أخرى، وليس بعيداً من محور اهتمام الأمن القومي المصري، فإن طهران مطالبة أيضاً بتقديم ضمانات بعدم تعريض أمن الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب لأي تهديد أو خطر ربما يأتي من حليفها الحوثي في اليمن، لما يشكلانه من شريان حيوي وإستراتيجي لمصر عبر قناة السويس، بخاصة أن الطموح الإيراني يسعى إلى بناء منظومة إقليمية بالشراكة مع الدول العربية الخليجية تتولى توفير الأمن في المياه الإقليمية في الخليج وشمال المحيط الهندي والبحر الأحمر.
والتوجه الإيراني الجاد للانفتاح على دول المنطقة، خصوصاً العربية منها، مستفيداً من الدرس الذي قدمه الاتفاق مع السعودية وما يمكن أن يحصل عليه من مكاسب إذا ما استطاع بناء الثقة لدى هذه الدول بتغيير سلوكه من خلال تعزيز مسار التهدئة في المنطقة، يسقط من حسابات طهران الحاجة إلى استخدام الساحة العربية كمنصة لتوجيه الرسائل للمجتمع الدولي، تحديداً الولايات المتحدة الأميركية.
المصدر: اندبندنت عربية