حسمت جامعة الدول العربية موقفها من الصراع في سورية، بين النظام والمعارضة، بالوقوف إلى جانب سلطة الأسد، بعد 12 عاماً من ادّعاء مساندتها ثورة الشعب السوري، ما يتضمن ذلك تبنّيها دعم قواته الأمنية والعسكرية، لاستعادة سيطرتها على كامل الأراضي السورية، مُسقطة بذلك مواقفها السابقة وشروطها لإعادة مقعد الجامعة إلى الرئيس السوري بشار الأسد. ما يعني أن المعارضة فقدت “إعلاميا على الأقل” داعما في مسار الحل السياسي الذي يُساوي بين أطراف النزاع بمرجعية القرارات الأممية من بيان جنيف إلى قرار مجلس الأمن 2254، كما فقدت الدول المطبّعة في الآن ذاته قدرتها على أن تكون الضامن العربي الموثوق من هيئات المعارضة المفترضة في الحضور الدولي.
السوريون الآن أمام حقائق غير ملتبسة. زالت أوهام الدعم العربي، كما زال وهم حبل النجاة التركي، وسابقا سقطت الادّعاءات الغربية والأميركية، عن انتهاء أيام حكم الأسد “وأيامه المعدودة”، ما يعني العودة إلى نقطة البداية، أي ما قبل الانفتاح العربي على الثورة، وما قبل التعويل على التصريحات الأميركية، واستنهاض جامعة الدول العربية لإرسال موفديها وتنسيق مبادرتها والوصول إلى الصراع المسلح سيّئ الذكر، والتدخّل الأممي عبر القرارات التي تناسخت من دون قدرة أو إرادة على تنفيذها.
ضمن الحقائق التي لا مفرّ منها، أن إسقاط النظام السوري صار مشروعاً سورياً محاصَراً غربياً وعربياً وتركياً، ما يعني أن الأساس الذي قام عليه الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حسب نظامه الداخلي، وبدعم من كل الجهات الدولية، سقط بسقوط هذه الجزئية، وبقاؤه تحت عباءة الدول المطبّعة مع النظام يضعه في صفّ أحدهما، النظام أو المطبّعين معه، ما يحوّله إلى أداةٍ لتمرير مشروعٍ استسلامي، وهذا ينطبق على أي جزئيةٍ تتفرّع عنه، ما لم تتمكّن من التحرّر من تبعيته، أو على أقل تقدير إسقاط ثقله داخلها، ومنها اللجنة الدستورية التي يترأسّها، لتتمكّن من الدخول في المفاوضات خارج سلطة الدول ومصالحها، وصياغة مشروع تفاوضي ينطلق من وقائع الحاضر، ولا يستسلم لفروض الطاعة الخارجة عن الإرادة السورية في التغيير الذي طالبت به الثورة ما قبل المداخلات الدولية، أي العودة إلى حقيقة الصراع مع النظام السوري الذي يتمثل بأنه صراعٌ على حقوق المواطنة، وليس على السلطة فقط.
في ظل واقع دولي متهالك أخلاقياً، وحرب المحاور القائمة بين روسيا والولايات المتحدة، والصين بينهما، لم يعد التعويل على إدانات نظام الأسد باستخدامه العنف المفرط أو الأسلحة الكيميائية أو حتى العقوبات الغربية، تكفي للتعويل على أن مسارات التطبيع يمكن لجمها، أو الحدّ من نشوة النصر التي تتملّك النظام السوري من خلالها، أو العودة إلى تنفيذ كامل بنود القرارات الأممية، ومنها 2254، بما يتضمّنه من “إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوّل سلطات تنفيذية كاملة وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة”، حيث فقدت كيانات المعارضة، “إن صحّ إلصاق التهمة بها”، أي عناصر قوة تتحصّن بها من الدعم الشعبي إلى الاحتضان العربي، إلى الداعم التركي الموالي لها، وحتى إلى القبول الأميركي بها. ومع هذا كله أيضاً، لا تعني هذه الانحدارات أن على السوريين أن ييأسوا من فرص التغيير التي تعيد ترتيب البيت السوري من حجر الأساس حتى رأس النظام، فالصراع على الحقوق شأنٌ سوري، لا تستطيع الأنظمة الديكتاتورية أن تحدّه أو تلزم السوريين بالامتناع عن السعي من أجله.
ربما من هنا يجب أن تناقش اللجنة الدستورية، بمعزلٍ عن تبعياتها السابقة للدول التي أنشأتها أو حدّدت أسماء أعضائها، دورها الجديد في الصراع على الحقوق لانتزاع حقّ المواطنة والعيش الآمن والكريم لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتنوّعهم القومي، ما يفرض على اللجنة توسيع دائرة التمثيل السوري داخلها، على حساب تنقيتها من الإملاءات الخارجية، والارتهان لمصالح المتصارعين على تقنين السيادة السورية، وصولاً إلى ابتلاعها.
لا ينفي التطبيع العربي الذي جاء خلافاً لأي تسلسل منطقي لتطور الأحداث، والمسارات والالتزامات الاخلاقية التي يمكن بها تبرير قرار مقاطعتها له خلال السنوات الماضية، وجود كارثة سورية على كل المستويات الخارجية والداخلية، حيث التعامل مع سورية بواقع سيادتها الناقصة، وبواقع أنها دولة فاشلة، لم يتبق من كينونتها المؤسساتية إلا أسماء واهية، سواء على صعيد الاقتصاد أو الخدمات أو المجتمع، وفِي ظل قواها الأمنية الممزّقة التي تريد هذه الدول منحها مهمة استعادة الاستقرار في سورية، تحتاج هي إلى قوى خارجية لرتق تشعّباتها، ولجم فسادها، أكثر مما تحتاجه فصائل المسلحين الخارجين عن سلطة النظام، ما يعني أن التسليم العربي بقدرة نظام الأسد على تنفيذ أي مطلب مقابل خطوته “الواسعة” تحتاج خطوات، وخططا، سيغرقهم النظام السوري بتفاصيلها، ولن ينجو منها الجميع، ما يهدر حسن نيات خطوات التطبيع غير المدروسة على أحسن تقدير، أو “يفضحها”، بأنها نزاع بين محاور كبرى، لا يمكن استثناء المداخلات الإسرائيلية في توجيه دفتها، أو اصطفافات مع أوهام صانع حروب العالم الجديد الرئيس الروسي بوتين، بأنه يعيد صياغة العالم متعدّد الأقطاب عبر الحروب، بالنار والأسلحة النووية، ودعم بقاء الأنظمة الديكتاتورية، أو أنها مجرّد خطوات كيدية، تستهدف الدول التي لا تزال تراعي موقفها الأخلاقي تجاه دم السوريين، المهدور على مذبح مطامع السلطة، وأدوارها المشبوهة في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد