ربما لا يجادل عاقل فى امتياز الانتخابات التركية الأخيرة، وبالذات فى الانتخابات الرئاسية، فقد وصلت نسبة المشاركة بالتصويت فى الجولة الأولى إلى 87% من الناخبين ، وتراجعت قليلا فى الجولة الثانية إلى 84% ، وكلها نسب تصويت مهولة ، وفاز الرئيس “رجب طيب إردوغان” بزائد 2% من الأصوات فوق حاجز النصف ، بينما خسر مرشح المعارضة “كمال كليشدار أوغلو” بناقص 2% من الاصوات تحت الحاجز نفسه ، وهو ما يبرز استقطاباً محتدماً فى المجتمع التركى ، محوره شخص “إردوغان” نفسه ، وبأكثر من خرائط الخلاف السياسية والثقافية والاقتصادية ، على نحو ما بدا فى دعم القومى المتطرف “سنان أوغان” لإردوغان فى الجولة الثانية ، فى حين أيد رفيقه القومى الأكثر تطرفا “أوميت أوزداغ” مرشح المعارضة “أوغلو” .
ومن الخطأ قراءة الانتخابات التركية بخلفيات عربية ، فالرئيس “إردوغان” ، الذى حكم تركيا لعشرين سنة ، يكملها إلى ربع قرن بعد فوزه الأخير ، ليس “إسلاميا” ولا “إخوانيا” بمعانى الطبعات العربية ، صحيح أنه من جذور إسلامية محافظة فى السياسة التركية ، وكان من تلاميذ المهندس “نجم الدين أربكان” ، الذى لاحقته مواريث “كمال أتاتورك” ، وألغت أحزابه الواحد تلو الآخر ، لكن “أربكان” كان براجماتيا بما يكفى ، وشارك فى حكومات علمانية ، وإلى أن أصبح زمن حزب “الرفاه” رئيسا للوزراء بالمناصفة مع اليمينية العلمانية “تانسو تشيلر” ، التى اعتزلت السياسة فيما بعد ، وأعربت عن دعمها لإردوغان فى الانتخابات الأخيرة ، فى حين لم يستمر “أربكان” طويلا فى رئاسة الحكومة التركية ، وجرى انقلاب ناعم عليه ، حل حزبه “الرفاه” ، وأنشأ بعده حزب “السعادة” ، الذى رفض “إردوغان” ورفاقه الشبان وقتها الانضمام إليه ، وخرجوا على وصايا الأب ، وأسسوا “حزب العدالة والتنمية” ، المتخفف من إرث “أربكان” ، والمنفتح على ضم فئات أوسع من اليمين القومى التركى ورجال الأعمال ، وبدا فى صيغة “محافظة” ، لا ترفع شعار تطبيق الشريعة ، بل تكتفى بفك القيود على ارتداء النساء للحجاب ، مع ترك الحياة التركية على حالها “العلمانى” المتفلت ، مع دمج الحريات الدينية فى بنية علمانية “إردوغان” على الطريقة “الأنجلوساكسونية” ، الألطف من علمانية “الفرانكوفون” المعادية على نحو ثأرى للأديان ، وفى حين هجر “إردوغان” طريق أستاذه “أربكان” ، الذى نعته بأوصاف قاسية قبل رحيله ، لم تؤثر كثيرا فى مسيرة صعود الإبن ، الذى اتجه لإضفاء صفة “عثمانية” قومية على عمله ، ربما مواصلة لخط سلفه “تورجوت أوزال” ، الذى مات فى ظروف غامضة ، وكان جوهر سعيه “العثمانى” ، أن يحيى جذور النزعة التركية فى بلدان آسيا الوسطى ، وهو ما واصله “إردوغان” ، الذى كان عربون نجاحه فى إنهاض الاقتصاد ، وجعل تركيا واحدة من أكبر عشرين اقتصادا فى العالم ، وأضاف لسعيه “العثمانى” امتدادا تركيا إلى الجنوب فى العالم العربى ، وتعامل ببراجماتية اقتصادية مع النظم العربية الحاكمة ، وحين جرت ثورات على بعضها ، بدت له فرص التوسع فى النفوذ الأكبر ممكنة ، فى أوائل العقد الثانى من حكمه ، مع ما بدا من صعود لجماعات “إخوانية” إلى كراسى الحكم ، ثم كان ما كان ، وأدى إلى ذبول ظواهر الحكم “الإخوانى” ، مما عانده “إردوغان” لسنوات قطيعة ، عاد بعدها الرجل برشاقة إلى سيرته الأولى ، وأعاد وصل ما انقطع مع خصومه ، وانتهج ذات سياسته الأولى ، وهو ما بدا من تطورات السنوات الأخيرة ، وتحسن علاقاته تباعا مع نظم الخليج ومصر وسوريا وغيرها ، فالأساس فى حركته ، هو المعنى القومى التركى المحافظ ، وهو ما يفسر طبيعة تحالفاته فى الداخل ، وتكوين “تحالف الجمهور” الذى يقوده ، والمكون أساسا ـ إضافة لحزبه ـ من “الحركة القومية” و”حزب الرفاه الجديد” و”حزب هدى بار” الكردى ، وقد تراجع حزب إردوغان قليلا فى انتخابات البرلمان الأخيرة ، وحصل على 267 مقعدا مقابل 295 مقعدا كانت له ، لكن مقاعد الحلفاء ضمنت الأغلبية بواقع 325 مقعدا ، فى برلمان مكون من 600 عضو ، فى حين حصلت طاولة المعارضة السداسية على 213 مقعدا ، قد تضاف إليها مقاعد تحالف “العمل والحرية” البالغة 66 مقعدا ، والأخير يقوده حزب “الشعوب الديمقراطى” الكردى ، الذى جرى حظره بعد سجن زعيمه “صلاح الدين دميرطاش” ، وجرى استبدال الاسم إلى “حزب اليسار الأخضر” ، وكان الحزب الكردى الرئيسى وراء دفع أنصاره لدعم مرشح المعارضة “كمال أوغلو” ، مع انخفاض الدعم الكردى فى جولة الانتخابات الثانية ، ربما غضبا من لجوء “أوغلو” لطلب دعم القوميين الأتراك المتطرفين ، وفى حين بدا تحالف “إردوغان” أكثر اتساقا فى تكوينه ، وجامعا بين الاتجاه الثقافى المحافظ والاتجاه القومى ، فقد بدا تحالف “أوغلو” السداسى أو “السباعى” خليطا غير مريح ، ومفرطا فى الانتهازية ، فقد جمع العلمانيين المتطرفين من “حزب الشعب الجمهورى” الأتاتوركى وحزب “ميرال أكشنار” القومى والحزب الكردى ، إضافة لأحزاب محافظة من نوع “حزب السعادة” وحزبى “أحمد داود أوغلو” و”على بابا جان” ، والأخيران كانا قد انشقا عن حزب “إردوغان” ، وإن احتفظا بالسمت المحافظ نسبيا ، وبدا أغلب سعيهما “البراجماتى” وراء الحصول على مقاعد فى البرلمان ، وتخطى العتبة الانتخابية من تحت غطاء حزب “الشعب الجمهورى” ، الذى أعطى لهما ـ ولحزب السعادة “الإسلامى” ـ من حصته البرلمانية الكثير ، وكانت الحسبة فى عمومها خاسرة ، لم يحقق فيها “أوغلو” نصرا ، سوى أنه دفع “إردوغان” لخوض جولة إعادة للمرة الأولى فى تاريخ انتخابات الرئاسة التركية ، وإن بدت السابقة مفيدة دعائيا لإردوغان ، ومضعفة لاتهامه بالديكتاتورية والاستبداد وسحق المعارضين ، فقد لامس خصمه “أوغلو” حاجز النصف أو كاد ، برغم كونه متقدما فى السن على “إردوغان” ، وعديم الجاذبية الشخصية تماما ، ومن الطائفة “العلوية” الأصغر فى مجتمع “سنى” بغالبه ، وربما لو كان المرشح المعارض من نوع “أكرم إمام أوغلو” عمدة أسطنبول ، الأكثر شبابا وكاريزمية ، لتغيرت النتائج ، مع وفود أكثر من خمسة ملايين شاب ، بعد خفض سن التصويت إلى 18 سنة ، والمزاج الغالب بين المصوتين الجدد ، هو رفض إردوغان وسياسته “المحافظة” ، وقد بدا لهؤلاء تأثير محسوس نسبيا فى الانتخابات الأخيرة ، ربما يتزايد فى انتخابات البلديات المقررة بعد سنة ، يحلم فيها “إردوغان” باستعادة بلدية “اسطنبول” ، التى بدأ منها رحلة صعوده السياسى ، وأطلق تصريحه الشهير “من يفوز فى اسطنبول يحكم تركيا” .
وقد تكون المعضلات الداخلية متضخمة أمام “إردوغان” ، وأولها وضع الاقتصاد ، الذى يترنح بشدة ماليا ونقديا ، وإن كان طابعه الإنتاجى صامدا ، فوق الامتياز التركى المستحدث فى الصناعات العسكرية والتكنولوجية ، وهذه وغيرها من شواغل الشعب التركى دون غيره ، لكن آثار ما جرى على السياسة الإقليمية والدولية ، هى ما يشغل بال غير الأتراك ، وقد تجرى عليها تغيرات ملموسة فى قابل الأيام ، من نوع اندفاع أكبر للحكومة التركية للتطبيع مع النظام السورى ، وربما نهاية السنوات السعيدة لملايين اللاجئين السوريين فى تركيا ، وقد كان السباق إلى هدف طرد اللاجئين عموما ، والسوريين منهم بالذات ، هو القاسم المشترك بين التحالفات المتصارعة انتخابيا ، مع خلاف فى التفاصيل ، وطرق التخلص من اللاجئين ، وما من فارق عملى بين “أوغان” الذى أيد “إردوغان” ، و”أوزداغ” الذى دعم منافسه “أوغلو” ، كلاهما يطلب طرد السوريين فورا ، وفى غضون سنة على الأكثر ، وهذا هو الوجه الأخطر للاتفاقات الضمنية ، وقد نشهد فى الفترة المقبلة للأسف تزايدا فى حوادث العنف “العنصرى” تجاه السوريين المقيمين فى تركيا ، ، إضافة لتوقع ضعف التجاوب التركى مع ائتلافات المعارضة السورية إياها ، وهو ما قد يمتد إلى سواها من بقايا “معارضات “عربية أخرى ، مع التحسن المطرد فى العلاقات السياسية والاقتصادية مع نظم المنطقة ، وبالذات فى العلاقات المصرية ـ التركية ، وفى العلاقات طبعا مع دول الخليج الأغنى بفوائض البترول المالية ، و”تصفير” مشاكل كثيرة ، ليس من بينها ـ غالبا ـ تواصل المطاردات التركية المسلحة لجماعات الأكراد فى شمال العراق وسوريا ، فوق احتمال تصاعد نبرة العداء لأمريكا والغرب عموما فى تركيا ، برغم أنها عضو قديم بالغ الأهمية فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وقد كان الغرب يأمل بوضوح فى إزاحة “إردوغان” ، وجاء فوزه فى مقام الهزيمة لأمريكا ، ولإدارة “جو بايدن” بالذات ، ربما لرفضه الانخراط فى سلاسل العقوبات ضد روسيا بسبب حرب أوكرانيا ، وانفتاحه على علاقات “حارة” مع الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، ودعمه لاتفاقات الحبوب وخطوط الغاز الروسى إلى تركيا ، وقفزات التبادل التجارى والاقتصادى والعسكرى مع موسكو ، وهو ما يثير حنق أمريكا والغرب على الشريك المخالف .
المصدر: القدس العربي