السؤال الذي يواجه المهتمين بالشأن العربيّ عامًة، والسوريّ خاصّة هو لماذا دعت الجامعة العربيّة رأس النظام السوري إلى القمّة العربيّة الأخيرة مبتلعة قرارها السابق، ودوافعه وأسبابه، وكلّ ما قاله بعض أعضاء الجامعة العربيّة من الحكّام بحقّ الرئيس السوريّ، وبما وصفوه من نعوت مستندين إلى أفعاله! كذلك، وهو الأهمّ، ما قدَّمه بعضهم إلى فئات محدّدة في المعارضة السوريّة دافعين إيّاها لاستخدام السلاح، وبالتالي، لإعطاء المبرّر لرأس النظام الذي لم يكن يحتاجه، لكنّه استثمره أمام العالم أجمع مبرّرًا حملاته العسكرية ضدّ المدنيين الآمنين في عموم المدن السورية على أنّه يقاتل الإرهاب والإرهابيين.. كما برّر استعانته بالإيرانيين والروس، وسمح لهم بتدمير سوريا، وبقتل مئات الألوف من أهلها، وبتهجير نصف سكّانها. كما تسبّب بجلب ألوان من القتلة وأشكال مختلفة من المحتّلين تحت هذا العنوان..
لا شكّ في أنّ السؤال يكتسب أهمية خاصّة حين تترافق دعوة رأس النظام السوري إلى مؤتمر القمّة العربية بدعوات التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي التي تجري منذ سنوات، وإن كان التطبيع مع إسرائيل، يجري تحت الطاولة، كما يقال، أو بنعومة وسرية تامتين، كيلا تمسَّ حساسية المواطنين العرب الذين ما زالوا يرفضون كل ما يمت إلى إسرائيل بصلة حتى في البلدَيْن اللذين طبّعا وفق اتفاقيتيْ أمن وسلام، لأنَّ شعبيهما يريان ما لا يراه حكامهما من ممارسات لدولة الاحتلال التي لم تلتزم بأيّ اتفاق أو قرار يخصُّ الفلسطينيين منذ قرار التقسيم رقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 وإلى اليوم، بما في ذلك مبادرة الملك عبد الله التي أطلقها عام 2002 وتبنّاها العرب في قمتهم الرابعة عشرة المنعقدة في بيروت بتاريخ 28 آذار من العام نفسه.. إذ لاتزال إسرائيل ماضية في توحّشها العدواني ضد الشعب الفلسطيني، وقضم أراضيه، لإشادة مستوطنات جديدة، قطعة بعد أخرى.
أمّا إذا كانت الغاية من إعادة النظام السوري، لأجل إبعاد إيران، فإن الأخيرة كانت قد دخلت لبنان وسوريا باسم مقاومة إسرائيل ثم امتدت نحو العراق، مؤيدة الغزو الأميركي، بل إن عملاءها في العراق يعترفون اليوم بأنهم من دعا أميركا إلى غزو بلدهم! أما صراع إيران مع إسرائيل فليس من أجل الفلسطينيين، ولا تضامنًا مع العرب، بل هو من أجل مدِّ نفوذها الذي يأخذ شكل غزو متعدّد الأوجه، يشمل الثقافة، والدين، والاقتصاد، وسيطرة الميليشيات، وصولًا إلى التحكّم بمفاصل الدول المتدخّلة فيها، مثل أي محتلّ غاشم، ثم إن الصراع الإيراني/الإسرائيلي الذي يتجلّى في الإعلامً الإيراني، تقابله ضربات إسرائيلية على الأراضي السورية خاصة، إنما هو صراع من أجل الهيمنة على المنطقة العربية “المكشوفة الظهر” من خلال صراعاتها البينيّة وتدخّل بعضها في شؤون بعضها الآخر، والأهم من ذلك كلّه، هو احتواء الأنظمة لشعوبها..
صحيح أن مؤتمر القمة العربية المنعقد في جدة بتاريخ 18 أيار2023 أعلن عن بدء ممارسة سياسة جديدة في المنطقة، عنوانها الوفاق والتصالح، والسعي لحلّ أعقد القضايا في فلسطين وسوريا والسودان ولبنان.. إلخ. لكنّ جوهرها يقول للربيع العربي وداعًا.. الربيع الذي هزَّت أحداثه الأنظمة العربية كلَّها، إذ بشِّر بالتغيير المُنتظر من خلال الطموح إلى أنظمة ديمقراطية لا تعِرفها دول المنطقة، ولا تقاربها أبدًا، رغم أن غيابها كان سببًا رئيسًا لكثير من أنواع الفشل الذي لاقته الأنظمة العربية خلال القرن العشرين.. وأولها فشل التنمية، ولا أعني بالتنمية، ذلك النعيم التي تعيش فيه معظم الدول الخليجية، علمًا بأنّ بعضها قد خطا خطوات رائدة في القطاعات الخدمية وخاصة في قطاعات البناء والصحة والتعليم، إنما أعني التنمية الشاملة التي تؤسّس لاقتصاد ثابتٍ ونامٍ يحمي البلاد، ويقوّي سياستها ومواقفها وعلاقاتها..
إنّ تغييب الديمقراطية من جهة أخرى قد طمس معالم النهضة العربية التي لاحت بوادرها قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. لكنَّ مجيء سايكس بيكو، وقيام دولة إسرائيل، قطَعا ذلك التطور الطبيعي، استتبع ذلك نشوء أنظمة استبدادية عربية أخذت أشكالًا عسكرية أحيانًا، وأحيانًا تقليدية بعيدة كلّ البعد عن محتوى الدولة الحديثة التي تعتمد التشاركية المستندة إلى ما يعرف بـ “العقد الاجتماعي” في إدارة شؤون الدولة المعاصرة، وتنميتها، والارتقاء بها، وأخذها نحو مواكبة الدول العصرية..
وما يهمنا من فكرة التطبيع هو الحال السورية، فما ورد في إعلان جدة بندان هما:1- تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها. 2- تعزيز الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا..
والسؤال هو كيف تتجاوز سوريا أزمتها؟ هذا الذي لم يتّضح بعد، وكأن المسألة هي مسألة لاجئين فحسب، وليست مسألة تدمير وطن يتطلب تحديد مسؤولية من دمَّره؟ ثمَّ كيف يعود اللاجئون والرئيس المدعو إلى مؤتمر القمة يريد شعبًا متجانسًا؟ فكيف تحلّ الجامعة العربية هذه المشكلة الأساسية عند الرئيس السوري؟! وذلك لا يعني إلا أمرًا واحدًا هو أنّ الرئيس السوري ينظر إلى الدولة، على أنّها قرية هو مختارها أو قبيلة هو شيخها.. أمّا دعوته لمحاولة التخفيف من اعتماده على إيران، والعمل على إخراجها من المنطقة، ووقف تهريب المخدرات، واستفادة العرب من إعادة الإعمار، فهذه أحاديث لا تثبت، أمام الواقع.. فلا أحد قادر على هذا الفعل.. والحقيقة أن الأزمة السورية، كما سمَّاها إعلان جدة أكبر من قدرة جامعة الدول العربية، فهناك احتلالات وهناك قرار أممي (2254)، وثمة مشروع لإيران في المنطقة، تعمل على تحقيقه، ولا يوجد أحد في المنطقة قادر على ثنيها عنه. ما لم تكن شعوب دول المنطقة ممتلكة لحريتها وسيادتها. وثمّة تباشير ذلك بدأت تظهر في العراق ولبنان ولدى السوريين المهجّرين، ومن هم في الداخل الذين يلمسون أفعال الإيرانيين..
أخيراً أقول إن الحلّ “الوسطي” هو ما جاء في القرار الأممي 2254 بكامل بنوده وخاصة بنده الذي يقول بوجود “هيئة حكم انتقالي” وبغير ذلك لا ضمانة لحلّ يؤمّن الاستقرار في سوريا، ويعيد بناء ما تخرّب، ويخرج المحتلين كافّة.. أما الربيع العربي الذي نهضت به ملايين الشباب في عدد من البلاد العربية، وقادت تجربته إلى كوارث بسبب ارتطامه بجدران الاستبداد هنا وهناك فلا بد عائد وفق سنن التقدم التي تحكم الشعوب دونما استثناء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا