تبدو قضية اللاجئين اليوم أبرز الملفات المتصلة بالقضية السورية، فقد كانت ضمن مشروع الخطة الأردنية للحل في سوريا، وتكرر نقاشها في سياق الاتصالات واللقاءات العربية التي قادت جميعاً إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وما تبعها. وعودة اللاجئين من الموضوعات التي طرحتها تركيا في ملف إعادة العلاقات وتطبيعها بين أنقرة ودمشق، وكانت بين الانشغالات اللبنانية في مستوى السلطة وبعض الأوساط السياسية والشعبية اللبنانية في العامين الأخيرين، وقد تساوت بل تقدمت في الفترة الأخيرة (لأسباب متعددة ومتشابكة) على موضوعات لبنانية مصيرية، منها انتخاب رئيس جمهورية بدل المنتهية ولايته، وتعيين حكومة جديدة بدل حكومة تصريف الأعمال، وحلحلة الأزمة الاقتصادية والمعاشية وغيرها.
إن الاهتمام العربي والإقليمي بقضية اللاجئين يبين أهميتها باعتبارها أهم نتائج الصراع في سوريا وحولها، وأحد المفاتيح الأساسية في حل القضية السورية، إن لم نقل أهمها، نظراً لمحتوياتها التي تؤكدها 4 نقاط:
أولى النقاط تتعلق بحجم القضية، وحسب التقديرات الأخيرة الصادرة أواخر عام 2022، فإن عدد اللاجئين السوريين يقارب 13 مليون نسمة، يتوزعون في أكثر من مائة دولة عبر العالم؛ لكن القسم الأكبر منهم منتشر في كتلتين: الأولى موجودة في الفضاء العربي الإسلامي القريب من سوريا، وتشمل تركيا ولبنان والأردن والعراق، إضافة إلى بلدان الخليج العربي ومصر، والكتلة الثانية موجودة في بلدان الاتحاد الأوروبي، وأهم البلدان فيها ألمانيا والسويد وهولندا.
وإذا كان أغلب اللاجئين في البلدان الأوروبية قد استقروا واندمجوا حيث هم، وصارت عودتهم صعبة لأسباب متعددة، وهم يقاومون نزعات بعض الحكومات الأوروبية لإعادة بعضهم إلى سوريا، كما تفعل الدنمارك، فإن غالبية الموجودين في بلدان الفضاء العربي الإسلامي مرشحون للعودة إلى سوريا، ليس فقط بسبب عدم وجود نظام لجوء وتجنيس في هذه البلدان؛ بل لأن بعض هذه البلدان بات يتبنى سياسة إعادة اللاجئين إلى بلدهم، وثمة سوريون من المقيمين في هذه البلدان راغبون في العودة.
النقطة الثانية أن اللاجئين السوريين جزء من الواقع السوري؛ إذ تعود أصولهم إلى مختلف المحافظات السورية، بما تحمله من ملامح إثنية ودينية واجتماعية وثقافية، تمثل صورة مصغرة من الاجتماع السوري في محتوياته وتفاصيله، بما فيها توجهاته الآيديولوجية والسياسية.
ولئن كانت غالبية اللاجئين من الفئات المحسوبة على معارضي النظام، فإن بعضاً منهم محسوبون على مجموعة الرماديين التي توصف بأن موقفها في المنطقة الفاصلة بين النظام ومعارضيه، وهناك أقلية من اللاجئين مصنفة في عداد مؤيدي النظام، ويتشارك الجميع -وإن بدرجات مختلفة- في زمان وأشكال المغادرة إلى بلدان اللجوء، سواء برحلات مباشرة أو عبر بلد عبور وسيط، وخصوصاً عبر لبنان أو تركيا.
النقطة الثالثة في محتوى قضية اللاجئين أن ثمة فارقاً بين اللاجئين من معارضي النظام والمنتمين إلى مناطق يصفها النظام بـ«مناطق معارضة»، ومجموعتي «الرماديين» و«المؤيدين»؛ حيث أغلب المعارضين وأبناء «مناطق المعارضة»، فقدوا مساكنهم وممتلكاتهم نتيجة العمليات العسكرية والتدمير الذي لحق بها، وهم إضافة إلى ضرورة تعرضهم للتشييك الأمني الذي قد يؤدي إلى اعتقال واختفاء قسري وغيرهما، فإنهم في الغالب لن يتمكنوا من العودة إلى أماكن سكنهم أو مناطقهم الأصلية، وسيكون عليهم الذهاب إلى أماكن إقامة مؤقتة، لا تختلف كثيراً إلا من ناحية التشديد الأمني عن مخيمات اللاجئين في تركيا والشمال السوري، مما يجعل عودتهم صعبة؛ بل شبه مستحيلة نتيجة ما يحيط بها، أما عودة «الرماديين» و«المؤيدين» فهي أشبه بعودة المسافرين أو المغتربين الذين يعودون إلى بيوتهم وممتلكاتهم دون التعرض لأي إجراءات أمنية خاصة، وإخراج هؤلاء من قضية اللاجئين يمكن أن يخفف منها ويجعل إمكانية معالجتها أفضل. ويكفي للدلالة على أهمية هذه النقطة، أن مصادر لبنانية قدرت عدد الذين يمرون عبر حدود البلدين في الاتجاهين من السوريين في لبنان مع عائلاتهم بنحو نصف مليون نسمة.
النقطة الرابعة تتمثل في تناقضات الموقف من عودة اللاجئين؛ حيث لا ترغب السلطات السورية في عودة اللاجئين لأسباب كثيرة، أهمها أنها كانت السبب المباشر في تهجير أغلبهم، إضافة إلى أنها لا تريد تحمل مسؤولية وجودهم تحت سيطرتها، مما يلقي عليها أعباء أمنية وإدارية، ويضاف إلى ما سبق عدم قدرتها وعدم رغبتها في تحمل أعباء توفير احتياجات العيش من سلع وخدمات، في وقت تعجز فيه عن توفير ذلك للمقيمين تحت سيطرتها، كما أن العودة ستخفف حجم تحويلات السوريين من الخارج.
وسط الحيثيات السابقة، وفي مواجهة الضغوطات على السلطات لتسهيل عودة اللاجئين إلى بلدهم وبيوتهم وممتلكاتهم، فإن ذرائع السلطات في عدم التعاون الإيجابي كثيرة، وهو ما أكدته تصريحات رسمية تكررت في الفترة الأخيرة، ربطت العودة بتوفير بنية تحتية خلاصتها بناء المناطق المدمرة وتأهيلها، وهو أمر غير ممكن خارج عملية إعادة الإعمار التي لا تجد دعماً دولياً لتبدأ، ولا يتوفر ممولون لهذه العملية المكلفة، وتطالب السلطات برفع العقوبات الغربية، وهي عملية مرتبطة مع إعادة الإعمار بتحقيق تقدم في عملية الحل السياسي في سوريا.
خلاصة الموقف: أن إعادة اللاجئين بصورة واسعة غير ممكنة حالياً، وموانعها كثيرة من الصعب تجاوزها، كما ترى دمشق، غير أنه لا يجوز لهذه النتيجة أن تغلق ملف عودة اللاجئين إلى بلدهم، أو تربطها مع تحقيق خطوات كبيرة مثل إعادة الإعمار ورفع العقوبات؛ خصوصاً بعد أن حركتها تطورات الانفتاح الإقليمي على دمشق، ووضعتها عاملاً إيجابياً يعزز التغييرات التي تتجه إليها المنطقة في حلحلة ومعالجة القضايا والملفات، بما فيها القضية السورية، مما يتطلب خطوات إجرائية تتصل بعودة اللاجئين، منها إعلان سوري أن العودة متاحة لكل السوريين، وأن يتم إغلاق الملفات الأمنية المفتوحة لكل الراغبين في العودة، وأن السلطات ستباشر الإجراءات والأعمال التي تسهل عودة السوريين إلى بلدهم، وأن يتم إجراء تغييرات أمنية وإدارية معلنة في مسار العودة المحدودة التي أدت إلى عودة 750 ألف نسمة من لبنان والأردن وتركيا، عبر المعابر الرسمية في السنوات الماضية، وهذه بعض خطوات وإجراءات تضع قضية اللاجئين على بوابة حل.
المصدر: الشرق الأوسط