بمناسبة الانتخابات التركية .. ســـــقــوط” مــــثــقــف بـــــارز : أكــمـــل الــديــــن إحــســان أوغـــــلـــــو !

محمد خليفة

 *أشعر بالحزن على “سقوط “صديقي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو في انتخابات الرئاسة التركية المباشرة , موضحا أنني لا أعني بسقوطه عدم فوزه بثقة الغالبية الشعبية أمام رجب طيب أردوغان خصمه القوي زعيم حزب العدالة والتنمية , بل أعني سقوطه الأدبي بمجرد قبوله الترشح ممثلاً لتحالف يضم حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية . والاول هو حزب أتاتورك القومي العلماني المتشدد ( البعض يصنفه يسارا !) والثاني حزب يميني قومي متطرف يتبنى اديولوجيا معادية للاسلام كنظيره السابق , ولا يوجد ما يسوغ  التحالف بينهما سوى وقوفهما معا ضد أردوغان وحزبه ذي الأجندة الاسلامية – العلمانية المعتدلة .

هزيمة البروفسور أكمل الدين برأيي حصلت في اللحظة التي وافق فيها على دعوة الحزبين المذكورين له ليكون رأس حربة في مواجهة أردوغان , وهي مكيدة انتخابية متقنة الصنع إلى حد ما . والهزيمة تتمثل في بيع اكاديمي اسلامي مرموق تاريخه الفكري الساطع أو تنازله عنه بلا مقابل للتحالف ليكسب الترشيح الهزيل وغير المضمون ,  مجندا نفسه في لحظة تاريخية فارقة لخدمة مشروع ماضوي عقيم يتناقض مع كل ما سعى له خلال حياته وتجربته الفكرية والشخصية .

لقد تابعت بتقدير موضوعي كغيري من المثقفين العرب رصانة أكمل الدين ومواقفه الهادئة ونتاجه الفكري منذ ظهوره قبل 35 سنة حين تعرفت عليه في إحدى ندوات معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب عام 1979- 1980 , حيث لفت الأنظار اليه بدفاعه عن هوية تركيا الاسلامية وانتمائها الأصيل للعالم الاسلامي , ثم تابعته عن بعد بدأب مواصلا جهوده المتنوعة  في الإحياء الاسلامي ومقاومة تراث اتاتورك الاديولوجي الذي فرض على الشعب التركي بالقوة , وخاصة فكره الاسلامي الصريح في حقبة الثمانينيات , وهي حقبة التحول البطيء الى الاسلام الحداثوي في المجتمع التركي . لم يكن حزبيا ولا سياسيا ولا اديولوجيا محترفا , ولم ينخرط في أي عمل سياسي مباشرة  لكنه بالقطع سار في نفس الاتجاه التاريخي الصاعد الذي تحرك فيه نجم الدين اربكان وبقية الاسلاميين وصولا الى ولادة حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان وشريكه غل . التقيته ثانية عام 1995 في مؤتمر [اوروبا والاسلام : تعايش أم صراع] الذي نظمته وزارة الخارجية السويدية وشارك فيه نحو مائة من كبار مفكري ومثقفي العالم الاسلامي , وأجريت معه حوارا مطولا حول مستقبل الحركة الاسلامية في تركيا , فأكد لي يقينه بمستقبل تركيا الاسلامي , وثقته بدورها كحلقة وصل بين الغرب والشرق وحاملة للفكر الديمقراطي من ناحية والهوية الاسلامية من ناحية أخرى . تبادلت معه الرسائل في الأعوام التالية وأرسلت له نسخة من كتابي ( الاسلام والمسلمون في بلاد البلقان ) وقد قرأه وأبدى عليه ملاحظات موضوعية أرسلها لي شفويا . ثم أسعدني أن ترشحه بلاده ليكون رئيسا لمعهد ابحاث التاريخ الاسلامي والفنون والثقافة  IRCICA في استانبول , ومنه ارتقى ليصبح أمينا عاما لمنظمة التعاون الاسلامي قبل عشر سنوات .

وآلمني بشكل خاص أن تصريحات أكمل الدين تضمنت تعهدا للناخبين بتغيير سياسة تركيا من القضية السورية  لتكون أقل انحيازا للثورة والمعارضة , وأكثر حيادا أو قربا من النظام , بما في ذلك إغلاق الحدود في وجه النازحين والهاربين من الهولوكست الذي أشعله الاسد . ومن البدهي أن هذه التصريحات لا تليق بشخصية شغلت حتى قبل فترة قصيرة منصب سكرتير عام المنظمة التي تمثل جميع الدول والشعوب المسلمة في العالم , ولا تنسجم مع طروحاته الفكرية والسياسية , وبدهي أنها تنطوي على عودة الى تركيا القديمة التي أدارت ظهرها سبعين سنة للعالمين العربي والاسلامي , وحصرت اهتماماتها في الانتماء لأوروبا والغرب , بل إنها انتهجت سياسة عدائية  للعرب بعامة ولسوريا والعراق بخاصة وكانت قاعدة متقدمة للناتو ضد حركة التحرر العربية في الخمسينيات والستينيات .. فلماذا وكيف يقبل مثقف اسلامي ضليع بالتاريخ القيام بهذه المهمة لحساب قوى حزبية صارت هي وبضاعتها الفكرية جزءا من الماضي الغابر ..؟

ولماذا لم يقف مع اردوغان في مشروعه السياسي الساعي لإحياء هوية تركيا الاسلامية ومصالحتها مع ماضيها العثماني المشرق ..؟

ليس لدينا أية معلومات شخصية تفصيلية عن الاسباب التي دفعت الرجل لاتخاذ هذا الموقف , لكنه مهما كانت المبررات موقف تشوبه الانتهازية السياسية , ويشوه الماضي المضيء لأحد رموز الإحياء الاسلامي في تركيا الحديثة , وهو في المحصلة موقف لا نتمناه لرجل تجاوز العقد السابع من عمره واقترب من حافة الموت .

لقد استطاع الحزبان الرجعيان اسقاط أوغلو في شرك سياسي انتخابي , وحاولا توظيف تاريخه واسمه واحترام الناس له في مواجهتمها لا مع اردوغان كشخص , ولكن مع حزب العدالة والتنمية ومشروعه الحيوي لتجديد هوية تركيا وتوجهاتها الاستراتيجية في العالم وتصحيح علاقاتها مع محيطها الطبيعي بعد أن أفلست كل محاولات القوى الاتاتوركية البائدة الانتساب إلى النادي الاوروبي ولو بعضوية مشروطة أو نصف عضوية . الصراع الآن في تركيا ليس صراعا بين يمين ويسار مثلما كان في الخمسينات والستينات والسبعينات , ولا صراع طبقي بين بورجوازيات وبروليتاريات مسحوقة, ولا بين أتراك وأقليات, بل هو في هذه الفترة صراع على الهوية بين اسلاميين وقوميين علمانيين متطرفين الى درجة تستحي منها أشد الدول الاوروبية مناهضة للاسلام !

وكان من الطبيعي والمنطقي أن يقف المفكر الاسلامي البارز والامين العام لمنظمة التعاون الاسلامي والأكاديمي الذي ولد في مصر وتعلم العربية فيها وفي سوريا  البروفسور أكمل الدين احسان أوغلو في صف أردوغان لا في صف قوى وشخصيات محنطة كالمومياء في قالب اتاتورك الاديولوجي المخالف لطبيعة الاشياء مثل كمال قليجدار أوغلو ( رئيس حزب الشعب الجمهوري / علوي !)  ودولت بخجلي ( رئيس حزب الحركة القومية ) !

وعلى أي حال فقد حسم الاتراك التنافس الانتخابي الحزبي , واختاروا اردوغان بنسبة تجاوزت الخمسين بالمائة من الدورة الأولى وهي نسبة تزيد عن معظم النسب المائوية التي فاز بها رؤساء الدول الديمقراطية في الغرب كفرنسا وايطاليا.. إلخ . وهذا التصويت الحاسم قرار تركي بمباركة الثورات العميقة التي ينفذها اردوغان في بلاده مجتمعا ودولة ونظاما , وعلى رأسها كافة : معركة هوية تركيا الاسلامية .

أما سقوط البروفسور أوغلو فهو سقوط مثقف بارز فتنته (السلطة) وأغوته فدفع في سبيل الفوز بها أغلى ما حققه خلال سنوات نشاطه الفكري طوال اربعين سنة !

 إنها محنة أخرى من محن الحب الفاشل بين المثقف والسياسي , أو بين المثقف والسلطة .

********************

هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية الاسبوعية , العدد 236 الصادر في بيروت بتاريخ 15 / 8 / 2014 لذا وجب التنويه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى