إذا لم تكن تلك هي الديموقراطية الحقة، فما الذي يمكن ان توصف به التجربة الانتخابية النموذجية الفريدة التي خاضها الاتراك، ووضعوا بلادهم في مصاف الدول الغربية المتقدمة في ثقافتها السياسية، في ما يبدو انه تعبير عن توقٍ دفينٍ للانتماء الى ذلك الغرب الذي لطالما نبذهم، وأخرجهم مؤخرا من فردوسه الاطلسي، وتركهم في العراء..يتدبرون أمورهم على خطوط جبهات تلوح في أفقها اسلحة يوم القيامة النووية.
ديموقراطية فريدة، بدت وكأنها حصن الاتراك الوحيد في هذا العالم المتفجر بالصواريخ والمسيّرات التي تتطاير على مقربة من حدودهم الشمالية، وملاذهم، او ربما مخرجهم، من الاضطرابات التي تورطوا بها على حدودهم الجنوبية. كان التوجه الى مراكز الاقتراع ، أكثر من طقس سياسي، كان كرنفالاً شعبياً حاشداً لا مثيل له في أي بلد ديموقراطي، رسخ العصبية الوطنية التي تترفع على العصبيات القومية والطائفية التركية، وإعتمد السياسة بأرقى صورها، لحماية الدولة ومؤسساتها وصون المجتمع على اختلاف مكوناته.
هي أفضل انتخابات في تركيا الحديثة، ليس لأن الحزب الحاكم، حزب الرئيس الفائز، أو الحزب المعارض، الذي خسر الرئاسة والبرلمان صارا أكثر ديموقراطية وليبرالية، بل لأن الحزبين ومعهما بقية الاحزاب الحليفة، التزموا بميثاق “غربي” قديم، ان تكون صناديق الاقتراع هي الممر الالزامي الوحيد للسلطة، الذي يسلكه الجميع، من دون أن تشوبه أي شائبة، ولا أي شكوى، ولا أي شك طبعا.
في تلك التجربة التي اختتمت بالامس بإرقام ونسبٍ وخطابات لا تختلف في شيء عما يجري في ارقى الديموقراطيات الغربية، ارتقت تركيا كدولة، وتطور مجتمعها ككيان متماسك، وسجل السلوك السياسي لشعبها واحداً من اهم الانجازات في التاريخ التركي. وهو ما تم في الوقت الذي تبدو فيه تركيا وكأنها بلاد مستوحدة، ليس لها مكان في أحلاف الغرب ولا في منظماته، وليس لها هامش واسع لتفادي نوبة جنون العظمة التي تصيب جارتها الشمالية، وليس لها أملٌ كبير في أن تستعيد مفاتيح بوابات جنوبها العربي، الذي كان طوال السنوات العشرين الماضية مجالها الحيوي، وبديلها العملي عن طموح اوروبي مستحيل.
بعد تلك التجربة، ستجمع تركيا، اكثر من أي وقت مضى، الكثير من هوياتها السابقة من دون ان ترسو على برٍ : لن تكون غربية ولا شرقية، ولا جسراً بين عالمين.. لن تكون اسلامية ولا علمانية.. ستكون ديموقراطية أكثر من ذي قبل، وهذا يكفي لضمان الاستقرار ، والتعامل بواقعية مع الزلازل، الطبيعية منها والمفتعلة، كدولة موحدة تستطيع ان تصمد في مواجهة مخاطر حرب عالمية شبه نووية، وتقدم نموذجاً جديداً قد يكون أوفر حظاً من النموذج الاسلامي الذي قدمته في العقدين الماضيين.
تحتاج تركيا في السنوات الخمس المقبلة الى الكثير من الحكمة، لكي تخرج من حرب أوكرانيا بلا أضرار جسيمة، وأن تخرج من سوريا بلا خسائر فادحة، بعدما كانت مطامحها في البلدين أكبر بكثير من إمكاناتها ومن الادوار التي اصطنعتها ، والتي فشلت في تحقيق أي مكاسب غير القدرة على الانكفاء، والافساح في المجال للاخرين بأن يعلنوا الهزيمة نصراً، وبان يرغبوا بمصالحة تركيا بشروطهم، وحسب مقتضيات المصلحة اليومية المجردة من الافكار الاستراتيجية التي لطالما كانت تغوي الاتراك.
لن تكون نتائج الانتخابات دافعا للمزيد من المغامرات في السياسة الخارجية التركية. فالسلطان الذي توجته صناديق الاقتراع، بالامس، والذي أدمن التفرد في السلطة، وظهر وحيداً فريداً في احتفالات النصر، سيكون مضطراً في سنواته الخمس الاخيرة في السلطة للبحث عن وريث أو شريك سواء من الحزب او حتى من الخارج، يكمل المسيرة، ويحد من آثار الازمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا ، والتي تكاد تطيح بكل ما حققه السلطان والحزب في العقدين الماضيين، من منجزات نقلت الاتراك من حافة الفقر والانعزال، الى رحاب الثراء والنفوذ الممتد الى بلدان لم تبلغها السلطنة العثمانية في أيام عزّها.