تتسارع التطورات في اتجاه حلحلة العلاقة الشائكة بين الجارين السعودي والإيراني، وتبرز على وجه الخصوص آثار التفاهم الأخير الذي جرى بينهما برعاية صينية في الملفات الإقليمية المعقّدة، وخاصة في الملفين اليمني والسوري. لعلّه غنيّ عن القول إنّ أعادة تأهيل الأسد لشغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية هو جزء من هذا السياق. لكنّ الوقت لا يزال مبكّرًا للحكم على ما تضمّنته الاتفاقات بين الطرفين بشأن سوريا خاصّة، ومدى التزام كل طرف ومن يقف خلفه أو أمامه فيها. كما أنّ تنوّع مراكز القوّة في سوريا وتوزّعها على أطراف متعددة إقليمية ودولية يُعقّد المشهد أيضًا، فالإيرانيون ليسوا الطرف الوحيد المسيطر على مفاصل صنع القرار السوري، هناك روسيا التي لا يمكن الاستهانة أبدًا بحضورها وبأوراق القوّة التي تملكها، وهناك تركيا التي تفرض سيطرة فعلية على بقعةٍ جغرافيةٍ وازنةٍ مباشرةً وتغطّي بظلالها بقعة أخرى مداورة، كما هناك أميركا التي بتسعمئة جندي وعدّة أعلامٍ قماشية وعدد من المدرّعات تحكم الثلث الغني بالموارد النفطية والمائية والزراعية في سوريا، وأخيرًا لا ننسى إسرائيل، اللاعب الغائب رسميًا الحاضر فعليًا في كل ما يحصل، بينما للسعوديين ثقلٌ رمزي يتمثّل في أمل بعض السوريين وخاصّة العرب السنّة منهم بإنصافهم أو على الأقلّ بعدم تركهم نهبًا لأطماع بقيّة اللاعبين في بلدهم.
يجمع المحورين السعودي والإيراني لاعبٌ قويٌّ اسمه الصين، خرج للتوّ من إطار القوّة الاقتصادية البحتة لسبر أغوار العالم الرحب، ودخل طورًا جديدًا من أطوار القوّة الناعمة، التي بدأها بخطوة كبيرة في منطقة معقّدة جدًا، طالما كانت عقدة تقاطعات جيوسياسية وعقائدية، إضافة إلى كونها خزّان النفط والغاز اللذين ما يزالان حتى اللحظة من أهم مصادر الطاقة للبشر عامّة وللصينيين على وجه الخصوص. لكن ثمّة لاعبٌ كبيرٌ جدًا لا يمكن تجاوزه أبدًا يُفرّق بين الجارين اللدودين وقد يقفُ في نهاية المطاف بوجه تقاربهما، فإيران تعتبر أميركا الشيطان الأكبر وأصل المشكلات في العالم، بينما تعتبرها السعودية حليفًا استراتيجيًا منذ العقود الأولى لنشوء المملكة. لا شكّ بأنّ الصراع على النفوذ الدولي بين أميركا والصين سينعكس بشكل أو بآخر على العلاقة بين السعودية وإيران، فكلا الفريقين الكبيرين بحاجة إلى شركاء محليين لتعزيز نفوذه الدولي، وهذه المنطقة من أغنى مناطق العالم بمصادر الطاقة وأكثرها أهميّة لخطوط التجارة، وقد يؤدّي التنافس أخيرًا إلى تغليب المصالح على الأيديولوجيا وبروز عقلانية جديدة تحكم المنطقة غير التي كانت سائدة في العقود الماضية.
لكن ثمّة عنصرٌ خارجيٌ لا تملك الصين كثير أوراقٍ في وجهه بعكس أميركا، هذا العنصر هو إسرائيل التي ترى في امتلاك إيران السلاح النووي أكبر خطرٍ يتهدّد وجودها الآن، خاصّة بعد أن أصبحت قوات الميليشيات التابعة للأخيرة على مرمى حجرٍ من حدودها في كلّ الاتجاهات. يرى الائتلاف الحاكم في إسرائيل الآن، الذي يمثّل بطبيعة الحال اليمين المتطرّف، أنّ من مصلحته الدخول في حرب مع إيران لإعادة تعريف الهوّية الإسرائيلية من جديد. لقد كانت إسرائيل ومنذ نشأتها الأولى تعرّف نفسها بدلالة العدوّ العربي، لكنّ هذا العدوّ بات الآن أضعف من أن يشكّل لها عنصر تحدٍّ على أيّ صعيد، بل هناك اختراقٌ كبير لصفوفه أصبح معها العربُ أقربَ الحلفاء بعد أن كانوا ألدّ الأعداء. ثمّة حربٌ تلوحُ في الأفق، ليس هدفها تدمير القدرات النووية الإيرانية فحسب، بل شدّ وثاق العرى التي جمعت شراذم الصهاينة وأعدادًا غفيرة من يهود العالم لتأسيس كيانٍ استعماري استيطاني لا يجمع أعضاءه إلا الأساطيرُ والأيديولوجيا الدينية القومية المتعصّبة المتطرّفة.
ثمّة كثيرٌ من النقاط التي تجعل من السعودية وإيران أكثر من خصمين وأقلّ من عدوّين، وتقف المصالح الاقتصادية في هذه البقعة من العالم عند حدودٍ معيّنة لا يمكن تجاوزها، فالإرث التاريخي الكبير المشحون بكثير من الحقائق والأساطير من جهة، والمعبّأ بالأيديولوجيا القومية والدينية من جهة ثانية، يقف حائلًا بين تقارب نظامي حكمٍ يقوم كلاهما أساسًا على منظومة متقاربة بالهيكلية رغم اختلافها بالمرجعية. طبيعة نظام الحكم في إيران مثل طبيعة نظام الحكم في السعودية، لكنّ الأول يقوم على عنصر الأيديولوجيا الدينية المذهبية، بينما يقوم الثاني على أساس العصبية القبلية. وفي النهاية يجمع بين النظامين سلسلة مترابطة من المشتركات التي تجعلهما من طبيعة واحدة تقريبًا، وأهّم هذه المشتركات هي خوفهما من مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات السياسية، وسعيهما لتأبيد سيطرتهما على دولهما. لكن بالمقابل ثمّة كثيرٌ من نقاط الخلاف التي تجعل الصراع بينهما مزمنًا، فالزعامة الدينية التي يطمح لها كلا نظامي الحكم، والتي تعني من حيثُ النتيجة النفوذ الأدبي أو الحضور الرمزي عند مليوني مسلمٍ يشكلون ربع سكان الأرض، ليست بالأمر الهيّن الذي يمكن إغفاله عند جرد الحساب في موازين العلاقات بين الدول.
لا شكّ بأنّ طموح السعوديين والإيرانيين يتجاوز سوريا، فهذه الأخيرة ليست سوى بقعة جغرافية صغيرة في خرائط النفوذ المشتهاة لديهما، وحتى وإن كانت سوريا معبرًا للمناكفة الإيرانية مع إسرائيل، وحتى لو كانت سدًّا عربيًا من الناحية السعودية بوجه الطموح التركي المنافس لكلا الخصمين، إلا أنّها تبقى أقلّ من أن ترسم آفاق المصالح لكليهما. سوريا مهمّة لجميع اللاعبين الإقليميين وبعض اللاعبين الدوليين، وغير مهمّة لأحد. جميع هؤلاء يريد السيطرة عليها أو على جزء منها أو أن يكون له تأثير فيها بشكلٍ أو بآخر، لكن لا أحد يهتمّ بما يحصل فيها أو لشعبها، فهذه باتت الآن مشكلة داخلية يحلّها النظام على طريقته التي باتت عنوانًا للتوحش في المنطقة. ثمّة تفاهم غير معلنٍ، لكنّه واضحٌ، بين كل الفاعلين في الملف السوري، يقوم هذا التفاهم / التواطؤ على دفن ربيع الشعوب في حفرة تضامن الأنظمة، ولعلّ في مجزرة حيّ التضامن صورة رمزيّة لما تمّ دفنه مع أجساد الضحايا الأبرياء هناك، وعميقًا تحت ركام القهر والخذلان سيقبع المظلومون طويلًا قبل أن يقوى المستقبل على إنصافهم، إن استطاع أساسًا.
سوريا جرحٌ غائرٌ في ضميرِ أهلها فقط، ويكذب أو يتجمّلُ من يقولُ غير ذلك، وأيًا كان ولاءُ المتصارعين فيها من السوريين، لهذا الجانب أو لذاك من الداخل أو الخارج، ستبقى السرديّة الحقيقية الوحيدة البارزة للعيان هي سرديّة الدمار العميم وانسداد الأفق أمام حلٍّ سوري سوري، فلا النظام براغب بهذا الحل، ولا المعارضة بقادرة عليه، أمّا الشعب الذي دفع أثمانًا باهظة لا مثيل لها في سبيل أبسط حقوقه، فلا أحد يكترث به، وربّما، ونقول ربّما تأتيه الأقدارُ ومصالحُ الدول بشيء مما يخفف ألمه ويداوي جراحه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا