فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة الثالثة والعشرون

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

الحزب الشيوعي السوري

الحلقة الخامسة “البرنامج السياسي، وقفة حاسمة في حياة الحزب” 1/6

في إطار الحركة الشيوعية عالمياً، وفي إطارها العربي، فإن الحزب الشيوعي السوري يعتبر بحق، أعرق الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية، وأكثرها خبرة، ودراية بأساليب النضال المختلفة، البرلمانية، والسرية، والقهرية، وفي وقت مبكر جداً استطاع الأمين العام للحزب، أن يجلس تحت قبة البرلمان السوري ولم يكن قد مضى على استقلال سوريا أكثر من تسعة أعوام.

ولعب الحزب أدواراً بارزة، ومثيرة للدهشة، والجدل بآن ، فبينما هو ضد الاستعمار الفرنسي ويعمل مع كافة القوى الوطنية يقف فجأة، وبمجرد قيام حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا عام 1936 يدعو إلى التحالف مع هذه الحكومة، ويدين ويشجب أي كفاح يمكن أن يؤثر سلباً على حركة هذه الحكومة. ويقف الحزب الشيوعي ضد الصهيونية، ويندد بها، ويعارض التقسيم، ويعتبره مؤامرة دولية هدفها تمكين الصهيونية من إقامة دولة لها في فلسطين. ثم ما يلبث أن يعترف بالتقسيم، بمجرد أن صوت الاتحاد السوفياتي إلى جانب قرار التقسيم، أي قرار إقامة دولة يهودية في 29/11/1947، وفي مسألة الوحدة السورية المصرية، فإن الحزب بقي إيجابياً، ودافعاً في اتجاه الوحدة، وأيد قيامها، وأيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسياً لدولة الوحدة. واتخذ الضباط المحسوبون على الحزب الشيوعي ذات الموقف في اللجنة العسكرية التي كانت بمثابة القيادة الفعلية للجيش، ثم فجأة انقلب الحزب ضد الوحدة، وضد القومية العربية، دونما حدود، إلى درجة جعلته لا يرى أي مظاهر إيجابية لعهد الوحدة. بل ووقف ضد قرارات التغيير الاجتماعي التي تمثلت بالإصلاح الزراعي وبتأميمات يوليو /تموز 1961، واندفع يؤيد الانفصال، والبرجوازية السورية. ويقف إلى جانب الرجعية الداخلية والعربية وهي تنقض على السلطة في 28 أيلول /سبتمبر 1961، واعتبر نفسه قد لعب دوراً طليعياً في إحداث هذا الانفصال.

في كل هذه الأدوار، فإن الحزب الشيوعي السوري كان يعمل بتصميم وتماسك مدهشين، كان ينتقل من الشيء إلى نقيضه، ومن جو السلم والموادعة، إلى جو الصراع والسجون، دون أن يبدو عليه التأثر سلبياً بهذا الانتقال، بل على العكس من ذلك كان يبدو باستمرار أكثر تماسكاً، ويبدي أن هذه المواجهات تزيد من قوته الذاتية، يوماً بعد يوم. حتى بدأ الظن أن الحزب الشيوعي إذ يتسلح بالماركسية اللينينية، فإنه يستعصي على التأثر بمجريات الأحداث، ويستطيع أن يدرأ عن نفسه كل التيارات والاتجاهات الأخرى، وأن أيديولوجيته تعطيه من القوة ما يستطيع أن يواجه بها حركة الحياة نفسها.

فقط، في عام 1969، بعد ثماني سنوات من العمل في محيط شبه إيجابي، وفرته أجواء التحالف مع السلطات القائمة ظهرت آثار تلك السياسات. وانكشفت مدى التغييرات التي كانت تحدثها تلك المعارك في نفوس، وعقول الشيوعيين. ووضح إلى العلن أن مسيرة الحياة أقوى من أي حزب، ومن أي أيديولوجيا، وصار على الحزب الشيوعي أن يواجه كل الحقائق التي كشفت عنها تلك المسيرة، مرة واحدة، وبشكل حاسم.

في عام 1969 كانت حركة الثورة العربية التي تقف قيادة جمال عبد الناصر على رأسها قد سارت طويلاً في اتجاه تثبيت أهداف النضال العربي، رغم نكسة الانفصال، وأثبتت أحداث ما بعد عدوان 5 حزيران /يونيو 1967. قدرة هذه الثورة على أن تحقق أمرين اثنين كل منهما يحتاج إلى جهد خاص، ومعارك خاصة:

** تثبيت خط التقدم، والثورة، والانطلاقة القومية.

** مواجهة نتائج العدوان، وتأكيد قدرة الأمة العربية مجتمعة على تجاوزه، وعلى تثبيت إرادتها المستقلة.

وفي عام 1969 كانت المقاومة الفلسطينية في أنضج أوقاتها، وأكثرها تأثيراً بالمواطن العربي، وبدا وكأنها تفرض قدرتها على فتح طريق جديد أو متميز. في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني.

في هذا العام، كان الحزب الشيوعي السوري قد وطد علاقات التحالف مع نظام البعث في سوريا، ذلك الحكم الذي جاء رافعاً شعارات اليسار. والتحالف مع الاتحاد السوفياتي، والالتزام التدريجي أو التداخل مع الماركسية اللينينية، وذلك عقب حركة 23 شباط /فبراير سنة 1966. وصعود الرباعي الحاكم: “جديد – زعين – ماخوس – الأتاسي”. أي كان الحزب الشيوعي يتمتع بأقصى حالات الحرية الممكنة منذ بداية عهد الوحدة. وكان قد مضى على عقد آخر مؤتمر له ستة وعشرين عاماً، كانت كافية بحد ذاتها للدعوة لمؤتمر للحزب، وهو المؤتمر الثالث في عمره المديد.

في هذا المؤتمر، في فترات التحضير له، وفي أثنائه، وفي الأحداث التي أعقبته وكانت مرتبطة به، ظهرت جلية آثار مسيرة الحزب ومسيرة الأمة في بنيان الحزب نفسه، وفي اتجاهاته، وثبت بشكل جلي أن الحرية – النسبية – التي تمتع بها كانت فاعلة فيه أكثر بكثير من أجواء الصدام والعنف التي عاشها في بعض الفترات.

أخطر وثيقة يطرحها حزب شيوعي عربي، طرحت في هذا المؤتمر تحت عنوان: “مشروع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوري”. وتكشف أثر وخطورة هذه الوثيقة في المناقشات التي جرت حولها، سواء داخل الحزب نفسه، أو داخل الحركة الشيوعية العربية، أم في تفاعل الحزب الشيوعي السوفياتي معها. ذلك التفاعل الذي جاء عبر ما دعي بملاحظات العلماء والسياسيين السوفيات والبلغار.

لقد أدت هذه الوثيقة وما دار حولها إلى عدد من النتائج لا بد من تسطيرها على النحو التالي:

1ـ تمرد القيادة التاريخية للحزب الشيوعي السوري ممثلة بالسيد خالد بكداش على قوانين العمل الحزبي، وقواعد المركزية الديموقراطية، ودخولها معركة مفتوحة مع أغلبية المكتب السياسي واللجنة المركزية، والمؤتمر، دون النظر إلى الوسائل المتبعة، ومشروعيتها في سبيل قهر المعارضين لها في الرأي.

2ـ تدخل الحزب الشيوعي السوفياتي في سياسات الحزب الشيوعي السوري، سواء جاء ذلك بداية بتلك الملاحظات، أو فيما تلا ذلك حين رمى بثقله إلى جانب خالد بكداش، سوريا، وعربياً، ودولياً.

3ـ انقسام الحزب الشيوعي السوري، وهو الانقسام الفعلي الأول في الحزب، إلى حزبين، ثم توالي الانقسامات بعد ذلك في كلا الطرفين.

والحقيقة التي يجب الإسراع بتوضيحها. أن البرنامج بحد ذاته كان من الممكن أن يمر دون أن يحدث كل هذا الأثر، لكن لأنه كان محملاً بكل ذلك التاريخ الطويل من ممارسة الحزب، وبكل ما استطاعت أفكار الحزبيين وعقولهم أن تستوعبه من معركة الحياة العربية خلال ذلك التاريخ، فإنه كان يستعصي على الحلول الوسط. وظهر بسرعة أن الصياغات الدقيقة والحرجة التي ميزت البرنامج في عدة أماكن تفادياً لذلك الانقسام أعجز من أن تتفاداه. لذلك ما إن بدأت مناقشة هذا البرنامج في مؤتمرات الحزب، واجتماعاته الموسعة، حتى تكشفت المفاهيم المختلفة أو المتناقضة لتلك الصياغات.

كذلك جاءت ملاحظات العلماء والسياسيين السوفييت والبلغار لتزيد من وضوح ضعف تلك الصياغات، وتناقضها.

إن ضمير الشيوعيين السوريين لم يعد يحتمل ذلك التناقض الشديد في ممارسات وتاريخ الحزب، كذلك فإن وعيهم الحزبي الذي دفعهم إلى الانضباط الحازم على مدى ستة وعشرين عاماً، هو ذاته الذي عمل على جعل المؤتمر الثالث، مؤتمراً حاسماً في تاريخ هذا الحزب وفي حياته، وقد كان.

ويبدو أن خللاً في تقدير قدرة الحزب على تحمل مثل هذا البرنامج هو السبب في الانقسام الذي تولد عن هذا المؤتمر، ذلك أن قيادات الحزب التي وقفت وراء البرنامج، وكوادر الحزب الرئيسية لم تحسب الحساب الكافي الوزن الإجمالي للعناصر المناهضة لها، واكتفت بحساب وزنها فقط دون أن تضيف إلى ذلك، وزن وتأثير الحزب الشيوعي الأم “السوفياتي”، ووزن وتأثير القوى المحلية، وفي المقدمة منها السلطة السورية، التي أخذت جانب الأمين العام خالد بكداش، ويبدو أيضاً أن تمسكها ستة وعشرين عاماً بمبادئ المركزية الديموقراطية، وانصياعها كل هذه الفترة، جعلها تفترض أن هذا السلوك سوف يطبع الأقلية المناهضة للبرنامج، وثبت أن هذا الافتراض خطأ كلياً.

حينما نضع مشروع البرنامج السياسي أمامنا، فإننا نستطيع أن ننظر إليه عبر ثلاثة محاور:

1ـ الأهداف: التي يجعلها البرنامج رايات لنضال الحزب الشيوعي.

2ـ تاريخ الحزب.

3ـ بنية الحزب.

وسوف نقف على كل محور من هذه المحاور لنرى كيف نظر البرنامج إليها، وكيف جرى التعامل معها في إطار اجتماعات الحزب الموسعة، ثم نقدم رؤيتنا لما نعتقده قصوراً في البرنامج قبل أن نستطلع دروس أزمة الحزب هذه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى