ثمة الكثير من الأشياء المجهولة التي لا يمكن حصرها في الحرب الأوكرانية. من الهجوم المقبل في الربيع إلى العمليات السرية للاستخبارات الأميركية، تكثر الألغاز ومواطن الغموض. ولكن، ربما لا شيء منها أكثر أهمية من السؤال المحيط بوزارة الدفاع الروسية، وهيئة الأركان العامة، ومجموعة فاغنر، ومكان الرئيس فلاديمير بوتين بينها. وقد أصبح نظام العلاقات هذا أكثر تعقيدًا الآن بعد أن تدخل رمضان قديروف، رئيس الشيشان، ووعد باستبدال مجموعة فاغنر في باخموت.
كانت موسكو قد جندت مجموعة فاغنر عندما لم تتمكن من إلحاق الهزيمة بالقوات الأوكرانية بشكل حاسم بمفردها. ومجموعة فاغنر هي قوة عسكرية خاصة، متعاقدة من الناحية الفنية مع جزء من الحكومة الروسية. ولا يقود الجيش مجموعة المرتزقة الذين تستخدمهم المجموعة، وإنما يقودهم مدني. ويتراوح عددهم بين 25 و30 ألف مقاتل -أصغر قليلاً من القوات المسلحة التقليدية الروسية، ولكن ليس بقدر يُعتد به كبير- وهم يشغَلون نحو 30 كيلومترًا (19 ميلاً) من خطوط الجبهة الأمامية التي يبلغ طولها آلافا عدة من الكيلومترات. ومع ذلك، فإن مجموعة فاغنر هي الوحدة الوحيدة من القوات الروسية التي تتقدم بانتظام في المناطق التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية.
ليس استخدام الجيوش الخاصة ظاهرة جديدة، وقد عملت مجموعة فاغنر نفسها في الشرق الأوسط وأفريقيا لسنوات. لكن ما تفعله في أوكرانيا فريد من نوعه. إنها لا تشن حربها الخاصة فحسب، بل تقود في الوقت الحالي المعركة في باخموت.
ويتضح الغموض الذي يحيط بعلاقتها بالجيش الروسي من خلال تصريح أدلى به في الأسبوع الأول من هذا الشهر رئيس المجموعة، يفغيني بريغوجين، الذي قال إن “البيروقراطيين العسكريين” حرموا قواته من المدفعية والذخيرة، ولذلك، سوف يسحب رجاله من المنطقة ويسلم باخموت إلى القوات المسلحة التقليدية الروسية.
لم تسر معركة باخموت كما ينبغي في أي وقت، ولكن في هذه المرحلة، مع القوات التي فُقدت بالفعل في المعركة، لم يعد تحقيق الانتصار فيها هدفًا استراتيجيًا بقدر ما هو سياسي. بالنسبة للروس، سيكون من شأن خسارة المعركة أو التخلي عنها أن يرسل إشارة خاطئة إلى العدو ومواطنيه. لكن الجيش الروسي النظامي لم يكن قادرًا على فرض إرادته في باخموت، وبشكل عام لم يتمكن من كسر القوات الأوكرانية. وقد خدم نشر قوات مجموعة فاغنر هناك أغراضا عدة: من ناحية، زاد من حجم القوة التي يمكن إشراكها هناك، وجلب من ناحية أخرى إلى المعركة قوة لا ترحم مع الاستفادة من ميزة الإنكار المعقول.
وبهذا المعنى، فإن قطع إمدادات المدفعية والذخيرة الأخرى عن المجموعة هراء ولا معنى له على الإطلاق. (هناك تلميح بتأكيد من موسكو بأنها فعلت ذلك، لكن التقارير العسكرية الأوكرانية تشير إلى أن نيران المدفعية لم تتوقف هناك أبدًا). وحتى لو اعتقدت روسيا أن قطع الإمدادات عن فاغنر سيكون منطقيًا من الناحية العسكرية، فإن السماح لقائد المجموعة بالتحدث بهذه الطريقة ليس كذلك. من المؤكد أن الجيوش وأسيادها السياسيون يختلفون كل الوقت، لكنّ حدوث صدع مرئي بهذا الشكل هو شيء نادر الحدوث.
مكمن الغموض، إذن، ذو شقين. لماذا تريد هيئة الأركان العامة الروسية شل مجموعة فاغنر؟ ولماذا تفعل ذلك علنًا؟ كان بالوسع اتخاذ خطوات مالية وتقنية يمكن أن تمنع حدوث ذلك. وحتى تصل الأمور إلى هذا الحد، يجب أن يكون قد حدث خلل إما على مستوى كبار الموظفين أو على المستوى الوزاري.
إذا كان هذا متعمدًا، فما الذي يمكن أن يعنيه؟ قد يكون المقصود منه وقف انقلاب ربما خططت له مجموعة فاغنر، لكن طائرة من دون طيار ربما كانت ستقوم بعمل أفضل. يمكن أن تكون هذه خطة أعدتها عناصر في الحكومة متحالفة مع مجموعة فاغنر لمحاولة إثبات أن القيادة الروسية تخسر الحرب الأوكرانية، أو أنها لا تكسبها على الأقل. وإذا كانت الفكرة أن القيادة العليا والوزراء يخسرون الحرب، فإن الإعلان عن عدم عقلانيتهم من خلال فاغنر سيكون منطقيًا، مما قد يضيف إلى أي حركة لإزالتهم. وإذا شعر بوتين بأن القيادة الحالية كانت فاشلة، لكنَّ الكثير من كبار الضباط أيدوها بحيث لا يمكن إزالتها، فإن هذه المذكرة من فاغنر ستكون أداة ممتازة لتوضيح هذه النقطة. (هذا ما لم يكن الهدف هو إظهار أن بوتين فقد السيطرة على الموقف).
في الوقت الحالي، يبقى كل هذا التحليل أكاديميًا، ولو أنه يظل مهمًا. يبدو أن الكرملين قد استسلم لمطالب بريغوزين، ويبدو أن مجموعة فاغنر ستبقى في باخموت. وعلاوة على ذلك، تم تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي وصفه بريغوزين بأنه الجنرال الوحيد القادر في الجيش الروسي، ليكون رجل الاتصال بين روسيا ومجموعة المرتزقة.
ولكن، بغض النظر عن الكيفية التي تتكشف عنها الأمور، فإن الحرب تظل مشكلة سياسية في الأساس. ولم تسر الأمور كما كان متوقعًا، ولم ينشأ أي تحالف فعال لتغيير هذه الحقيقة. وفي هذه الحالة، يتعين على المرء إما أن يشن هجومًا هائلاً، حيث تعمل الحكومة ومجموعة فاغنر جنبًا إلى جنب، أو أن يستعد لمفاوضات تكون شروطها مواتية قدر الإمكان -مفاوضات تعفي القيادة الناشئة من ارتكاب أي أخطاء كبيرة.
*جورج فريدمان George Friedman: (بالمجرية: فريدمان جيورجي، من مواليد 1 شباط/ فبراير 1949) هو متنبئ جيوسياسي أميركي مجري المولد ومؤلف واستراتيجي بارز في الشؤون الدولية. مؤسس ورئيس مجلس إدارة “جيوبوليتيكال فيوتشرز” Geopolitical Futures، وهي مطبوعة على الإنترنت تحلل وتتنبأ بمسار الأحداث العالمية. قبل تأسيس المطبوعة، كان رئيسًا لسابقتها “ستراتفور” Stratfor، وهي شركة نشر واستشارات استخباراتية خاصة كان قد أسسها في العام 1996. وهو أيضا مؤلف صحيفة “نيويورك تايمز” الأكثر مبيعًا وله العديد من الكتب.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Russian Mystery
المصدر: الغد الأردنية/(جيوبوليتيكال فيوتشرز)