شهدت السياسة الخارجية التركية، خاصة منذ وصول حزب ” العدالة والتنمية ” إلى الحكم في العام 2002، تغيّرات عدة في التوجهات والتحركات، إذ باتت تعتمد على تعدد العلاقات وعدم حصرها في محور واحد، الأمر الذي حوّل تركيا إلى مركز هام في السياسة الإقليمية والدولية، بعدما كانت تعتاش على أطراف حلف ” الناتو “. فوسط العواصف المندلعة قرب حدودها تحتفظ تركيا بهدوئها وحساباتها الواقعية، وتسعى إلى إبعاد النار عن داخلها، وتحاول لعب دور الإطفائي حيث تستطيع، وتقدم نفسها كقوة استقرار في المنطقة، محاولة توظيف قدرتها على التحدث إلى الجميع.
ومما يساعدها على ذلك أنّ عدد سكانها يزيد عن 80 مليون نسمة ومساحتها 700805 كلم2، وهي أشبه بجسر يربط بين خمسة عوالم جغرافية – إثنية: الأوروبي، والروسي، والتركوفوني، والإسلامي، والعربي. وقد جمعت تاريخياً بين الحضارتين الهيلينية والإسلامية، وفي حال تطوير دورها الإقليمي فقد تستطيع زيادة فرص التفاعل بين العالم الخارجي والشرق الأوسط، لأنها دولة كبيرة وتشغل حيّزاً استراتيجياً مهماً يطل على رقعٍ استراتيجية هامة: أوروبا والبلقان والبحر الأبيض المتوسط والعالم العربي من جهة، وروسيا وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز من جهة ثانية.
كما وفّرت السياسة التركية أسساً داخلية مهمة لدور إقليمي، من خلال المضي في طريق الديمقراطية عبر نظام انتخابي تمثيلي، وكسر حدة التطرف سواء من جانب ذوي النزعة الطورانية أو من جانب جماعات الإسلام السياسي المتطرف، كما عملت باتجاه إيجاد أسس لمعالجة مشاكل المكوّنات القومية. إضافة إلى تحريك الواقع الاجتماعي في الداخل، بما يعطي فرصة أفضل لتعبّر مكوّنات المجتمع التركي عن نفسها وتطوير أوضاعها نحو الارتقاء والتقدم.
وتهتم تركيا في توجهاتها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمنطقة العربية، بثلاث مسائل رئيسة: الأمن والاقتصاد والمياه. وهي المسائل التي تفتح مجالاً جديداً لقراءة أكثر عمقاً للخارطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي التوجه التركي تجاه هذه المنطقة على وجه الخصوص.
فالأمن، من وجهة النظر التركية، لا يعني فقط مقولة مكافحة ” الإرهاب “، وإنما تحديد وسائل ضمان إزالة المخاطر التي تهدد السلام الإقليمي. والمياه، إحدى أهم الأوراق الرابحة في اليد التركية، خصوصاً بعدما دخل تنفيذ مشروع جنوب شرقي الأناضول ” مشروع الغاب ” مرحلة حاسمة (يتمثل المشروع في إنشاء 22 سداً على نهري دجلة والفرات)، ووضع اليد التركية – بالتالي – على الموارد المائية الحيوية الخاصة بكل من سورية والعراق. وتتبدى أهمية المياه، كورقة رابحة في المنظور التركي، عبر المشروع المتعلق بتصدير المياه إلى دول المنطقة، خاصة إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي. أما الاقتصاد، الذي يخضع بدوره إلى مفهوم يربطه بجملة التطورات الممكنة والمتمحورة حول الترتيبات الإقليمية في المنطقة، في إطار تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، فإنه تأكيد على مقدرة تركيا على دعم جميع المشروعات الاقتصادية المشتركة.
وقد تكون تركيا أدركت أخيراً أنّ إهمالها لعلاقاتها شرقاً، وتجاهلها لحقائق التاريخ والجغرافيا، وتعاميها عن موجبات المستقبل تجاه الجوار، قد أوصلتها إلى وضع أعاد إيقاظ كل هواجسها ورواسبها. وفي هذا السياق، تشعر تركيا بأنّ تعاظم دورها الإقليمي قد يوفر دوراً لسياستها في رسم التطورات المتعلقة بمستقبل العراق وسورية وتحديداً شمالهما، سواء لجهة التخفيف من مخاوفها إزاء إقامة دولة كردية هناك، أو لجهة تحقيق دور تركي إقليمي في التطورات المقبلة، وهو الأمر الذي يعني لها الظهور بمظهر الدولة الإقليمية القادرة على رسم التصورات المستقبلية للمنطقة. كما قد يدفع أوروبا إلى تفهم الحقيقة الجغرافية – الحضارية لموقع تركيا ودورها في السياسات الأوروبية المستقبلية، لا أن تكون مجرد دولة هامشية تحس بوطأة هويتها الإسلامية إذا ما أصبحت دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
وفي الواقع يثبت تحليل توجهات السياسة الخارجية التركية أنّ تركيا، في ظل المتغيرات التي حصلت على المستوى الدولي، قامت بعملية تموضع جديدة، وإعادة تعريف لدورها، يتناسب مع الواقع الدولي، وانسجاماً مع مزاج الشارع التركي الذي شهد انزياحاً شديداً صوب مشرقيته وتراثه.
إنّ لعب تركيا لدورها في العالم كضامن للسلام والأمن في المنطقة، ليس محاولة لاستعادة مكانتها العثمانية القديمة، بقدر ما هو تعبير عن نجاح قدرتها، وإخصاب خصوصيتها، ومعادلة توازنها بين الشرق والغرب، أو بين التراث والمعاصرة، أو بين العلمانية والإسلام.