فضح خرافات “إعلان استقلال إسرائيل”‏

توم بيساه‏‏*       ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏إذا أراد المحتجون الإسرائيليون الاستشهاد بالوثيقة التأسيسية لإسرائيل كدليل أخلاقي، فسيكون عليهم الاعتراف أولاً بإخفاقاتها.‏ قبل حوالي شهر من “إعلان الاستقلال”، كانت الهاغاناه قد شرعت في تنفيذ “الخطة داليت”، التي تم بموجبها احتلال المدن والبلدات الفلسطينية -بما في ذلك تلك الموجودة خارج حدود خطة التقسيم- وإفراغها من غالبية سكانها العرب. وفي نهاية نيسان (أبريل) 1948، تم احتلال تسع قرى في منطقة يافا وتطهيرها من سكانها الفلسطينيين في ما سمي “عملية حامتز”، بينما تم تدمير البلدات الفلسطينية في الجليل الشرقي في “‏‏عملية المكنسة‏‏” في بداية شهر أيار (مايو). ‏

* * *

المتظاهرون الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج على الإصلاح القضائي الذي تنوي الحكومة الإسرائيلية الجديدة إجراءه تمسكوا مؤخرا بـ”قيم إعلان الاستقلال” كتعبير عن الديمقراطية التي يرغبون في الحفاظ عليها. وفي هذا السياق، اقترح سياسيون معارضون، مثل ‏‏يائير لابيد‏‏ ‏‏وموشيه يعالون،‏‏ تكريس‏ نص ذلك الإعلان في القوانين الأساسية لإسرائيل، ليكون بمثابة “روح مشتركة وخير مشترك” للجميع؛ وأعلن متحف تل أبيب للفنون التزامه بقيم الإعلان، وكذلك فعلت كل من ‏‏الأوبرا الإسرائيلية‏‏ ‏‏وجامعة‏‏ ‏‏ريتشمان؛ وهناك حركة احتجاج جديدة تطلق على نفسها اسم “الموالون لإعلان الاستقلال”، والتي ‏‏جلبت‏‏ في شباط (فبراير) الماضي نسخة عملاقة من “إعلان استقلال” إلى شارع كابلان في تل أبيب -موقع الاحتجاجات الضخمة المناهضة للحكومة التي اندلعت في الأسابيع الأخيرة -حتى أن يوفال نواه هراري ‏‏اقترح‏‏ أن “تقرأ العائلات (في إسرائيل)… إعلان استقلال إسرائيل” في نزهات عيد الفصح اليهودي.

تستشهد هذه الإشارات إلى “الإعلان” دائمًا تقريبًا بواحدة من أكثر عباراته شهرة: أن دولة إسرائيل سوف تضمن “المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”. ولكن، هل هذه الجهود الرامية إلى الاحتفال بالإعلان واستعادته هي وصفة قابلة للتطبيق من أجل الديمقراطية؟‏

‏للإجابة عن هذا السؤال، أريد أن أقترح مقارنة تاريخية. وهي، مثل كل المقارنات، ليست مثالية، لكنني أعتقد أنها يمكن أن تساعد على إلهام التفكير النقدي الذي سيجعلنا أكثر فهمًا في المرة المقبلة التي نسمع فيها أناسًا يرفعون من شأن “إعلان استقلال إسرائيل” كتجسيد للطبيعة الديمقراطية للدولة.‏

دعونا نتخيل أنه في روسيا اليوم، اندلعت فجأة حركة احتجاج واسعة النطاق ضد الرئيس فلاديمير بوتين -تعبيرًا عن الغضب من ديكتاتوريته الوحشية، وسجنه للمعارضين السياسيين، وتمكينه من العنف ضد المرأة، وهجماته المتكررة على المثليين، والدماء التي سفكتها حربه في أوكرانيا. ودعونا نتخيل أن حركة الاحتجاج الخيالية هذه متحدة حول وثيقة واقعية: ‏‏الدستور السوفياتي للعام 1936‏‏. ‏

كان الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، قد ساعد شخصيًا على صياغة هذا الدستور ‏‏وتفاخر‏‏ بأنه الأكثر ديمقراطية في العالم. وهو في الواقع تقدمي إلى حد كبير: فالمادة 112 تضمن أن يكون القضاة مستقلين وموالين للقانون وحده؛ وتكرس المادة 122 الحقوق المتساوية للمرأة في جميع مجالات الحياة -الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ وتعزز المادة 125 قيمًا مهمة مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية الاحتجاج والتجمع؛ ووفقًا للمادة 127، لا يمكن إجراء اعتقال إلا بأمر من المحكمة.‏

‏عندما تم التصديق على الدستور السوفياتي لأول مرة، اقتنع العديد من المثقفين الغربيين بدعاية ستالين، وكان من بينهم الكاتب المسرحي الأيرلندي الشهير، جورج برنارد شو، والكاتب الفرنسي رومان رولاند، وكلاهما فاز بجائزة نوبل في الأدب. ولكن، إذا تحدثت حركتنا الشعبية المتخيلة فقط عن نص الدستور والقيم التي يحملها، وليس عما حدث بالفعل في الاتحاد السوفياتي خلال تلك السنوات، فإن الحركة ستُتهم بشكل مبرر بإنكار وقوع جرائم ضد الإنسانية. وقد قتل ستالين، كما نعلم، الملايين من الناس خلال ثلاثينيات القرن العشرين. وكان مسؤولاً عن مصادرة الأغذية من المزارعين الأوكرانيين مما تسبب في مجاعة هناك؛ وقام بإجراء محاكمات صورية؛ وبدأ عمليات تطهير عرقي في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي، نقلت الأقليات قسرًا من ديارها إلى أبعد الأركان في البلاد.‏

‏من جهة أخرى، أُعلِن عن “إعلان استقلال إسرائيل” في 14 أيار (مايو) 1948. وفي ذلك الوقت، كان معظم السكان في ما كان حتى ذلك الحين الانتداب البريطاني على فلسطين، من العرب، لكن الإعلان الديمقراطي المفترض لم يتطرق إلى طبيعة هذه الديموغرافيا. بدلاً من ذلك، يبدأ الإعلان بـ12 فقرة، تشرح كل منها العلاقة بين الشعب اليهودي و”أرض إسرائيل”، ليمحو بذلك تمامًا الأغلبية غير اليهودية من السكان الذين يعيشون على هذه الأرض.‏

تتضمن الفقرة 13 العبارة الشهيرة التي تعلن المساواة لجميع المواطنين، وتدعو الفقرة 14 الأمم المتحدة إلى الترحيب بإسرائيل في الأسرة الدولية. وكان فقط في الفقرة 15 حين ظهر “السكان العرب في دولة إسرائيل” فجأة وكأنهم جاؤوا من العدم، والذين يُدعون في الإعلان إلى “الحفاظ على السلام والمشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية والتمثيل الواجب في جميع مؤسساتها المؤقتة والدائمة”.‏

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتم ذكر العرب وحقوقهم إلى جانب مطلب إسرائيل بقبولها في عضوية الأمم المتحدة. ويشير “إعلان الاستقلال” إلى خطة التقسيم التي صدرت في العام 1947 كأساس للاعتراف الدولي بحق الشعب اليهودي في إقامة دولة. ووفقًا لهذا الاقتراح، طلبت الأمم المتحدة من الدولة اليهودية المستقبلية (والدولة العربية المخطط لها) التصديق على دستور يضمن “لجميع الأشخاص حقوقًا متساوية وغير تمييزية في المسائل المدنية والسياسية والاقتصادية والدينية، والتمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الدين واللغة والتعبير والنشر والتعليم والتجمع وتكوين الجمعيات”.‏

‏لم يكن قبول إسرائيل في الأمم المتحدة مقررًا سلفًا، حيث كان عدد من الدول العربية أعضاء مسبقًا في المنظمة، وكان من الممكن أن تؤدي معارضتها لإنشاء إسرائيل إلى عرقلة طلبها الحصول على عضوية الأمم المتحدة. وفي الواقع، كانت الأمم المتحدة قد رفضت جهود إسرائيل للانضمام إليها مرتين -في أيار (مايو) وكانون الأول (ديسمبر) من العام 1948- ولم يتم قبولها في النهاية إلا في أيار (مايو) 1949. وكان الهدف من ضمان الإعلان للمساواة في الحقوق أولاً وقبل كل شيء هو تعزيز الدعم الدبلوماسي الغربي لإسرائيل وقبولها في الأمم المتحدة.‏

‏كما أنه سيكون من السخف الحديث عن الحقوق التي يكفلها دستور ستالين للمواطنين السوفيات من دون الحديث أيضًا عن واقع ممارسات الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، كذلك يجب أن نتعمق في قراءة الواقع المعاش لـ”السكان العرب في دولة إسرائيل” في وقت “إعلان استقلال إسرائيل”. قبل حوالي شهر من “إعلان الاستقلال”، كانت الهاغاناه (المجموعة شبه العسكرية التي ستصبح في نهاية المطاف نواة الجيش الإسرائيلي) قد شرعت في تنفيذ “الخطة داليت”، التي تم بموجبها احتلال المدن والبلدات الفلسطينية -بما في ذلك تلك الموجودة خارج حدود خطة التقسيم- وإفراغها من غالبية سكانها العرب. وفي نهاية نيسان (أبريل) 1948، تم احتلال تسع قرى في منطقة يافا وتطهيرها من سكانها الفلسطينيين في ما سمي “عملية حامتز” -في إشارة إلى أنواع الطعام التي يجب على اليهود تقليديًا إزالتها من منازلهم خلال عيد الفصح- بينما تم تدمير البلدات الفلسطينية في الجليل الشرقي في “‏‏عملية المكنسة‏‏” في بداية شهر أيار (مايو). ‏

ورافقت عمليات الطرد هذه وغيرها مجازر جماعية وقصف عشوائي للمناطق المكتظة بالسكان. وبشكل عام، كما تشير المؤرخة روزماري إسبر في كتابها “تحت غطاء الحرب: الطرد الصهيوني للفلسطينيين”، تم طرد حوالي 400.000 فلسطيني -أكثر من نصف جميع اللاجئين الذين خرجوا في نهاية المطاف نتيجة النكبة- من منازلهم قبل استقلال إسرائيل. وبدلاً من الحصول على “المواطنة الكاملة والمتساوية” التي يفترض أن يكفلها لهم “الإعلان”، تُرك هؤلاء الفلسطينيون بلا شيء، مطرودين على الجانب الآخر من الحدود. وعانى الفلسطينيون الذين تمكنوا من البقاء داخل حدود إسرائيل من مصادرة ونهب معظم ممتلكاتهم، ودفعهم إلى “غيتوهات” قسرية، وتعرضوا للعديد من الممارسات التمييزية الأخرى.‏

‏‏كما يحدث، يبدو أن معظم الإسرائيليين أكثر دراية بالمثل العليا لإعلان الاستقلال من درايتهم بما حدث للفلسطينيين حول وقت تأسيس إسرائيل. وبذلك، ستكون قراءة “إعلان الاستقلال” في عيد الفصح اختيارًا للجهل: إدامة محو الوجود الفلسطيني تحت سيطرة إسرائيل، كما حدث رمزيًا في معظم فقرات الإعلان، وماديًا من خلال العمليات العسكرية التي نُفذت خلال النكبة.‏

لدي اقتراح بديل: بدلاً من إدامة هذا التقليد من الجهل والاستمتاع بالسخاء الخيالي لـ”إعلان الاستقلال”، لماذا لا نقرأ نصًا فلسطينيًا كجزء من طقوس عيد الفصح، في عطلة عيد التحرير؟ ومن بين العديد من الخيارات التي يمكن للمرء الاختيار من بينها، أوصي ‏‏بقراءة قصيدة محمود درويش‏‏ الرائعة ‏‏”أبد الصبار”، من ديوان “لماذا تركت الحصان وحيدًا” -عن رحلة أب وابنه إلى المنفى، وحلمهما بالعودة.‏

‏*توم بيساه Tom Pessah: عالم اجتماع وناشط إسرائيلي.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Debunking the myths of Israel’s Declaration of Independence

هامش المترجم:

قصيدة محمود درويش التي يشير إليها الكاتب، “أبد الصبار”:

إلى أَين تأخُذُني يا أَبي؟

إلى جِهَةِ الريحِ يا وَلَدي…

… وَهُما يَخْرُجانِ مِنَ السَهْل، حَيْثُ

أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ

الظلال على سور عَكَّا القديم –

يقولُ أَبٌ لابنِهِ: لا تَخَفْ. لا

تَخَفْ من أَزيز الرصاص! إلتصِقْ

بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على

جَبَلٍ في الشمال، ونرجعُ حين

يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد

ومن يسكُنُ البَيْتَ من بعدنا

يا أَبي؟

سيبقى على حاله مثلما كان

يا ولدي!

تَحَسَّسَ مفتاحَهُ مثلما يتحسَّسُ

أَعضاءه، واطمأنَّ. وقال لَهُ

وهما يعبران سياجاً من الشوكِ:

يا ابني تذكَّرْ! هنا طَلَبَ الانجليزُ

أَباك على شَوْك صُبَّارة ليلتين،

ولم يعترف أَبداً. سوف تكبر يا

ابني، وتروي لمن يَرِثُون بنادِقَهُمْ

سيرةَ الدم فوق الحديد…

لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟

لكي يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي،

فالبيوتُ تموتُ إذ غاب سُكَّانُها…

تفتحُ الأبديَّةُ أَبوابها، من بعيد،

لسيَّارة الليل. تعوي ذئابُ

البراري على قَمَرٍ خائفٍ. ويقولُ

أَبٌ لابنه: كُنْ قوياً كجدِّك!

وأَصعَدْ معي تلَّة السنديان الأخيرةَ

يا ابني، تذكَّرْ: هنا وقع الانكشاريُّ

عن بَغْلَةِ الحرب، فاصمُدْ معي

لنعودْ

متى يا أَبي؟

غداً. ربما بعد يومين يا ابني!

وكان غَدٌ طائشٌ يمضغ الريح

خلفهما في ليالي الشتاء الطويلةْ.

وكان جنودُ يُهُوشُعَ بن نونِ يبنون

قَلْعَتَهُمْ من حجارة بيتهما. وهما

يلهثان على درب “قانا”: هنا

مرَّ سيِّدُنا ذاتَ يومٍ. هنا

جَعَلَ الماءَ خمراً. وقال كلاماً

كثيراً عن الحبّ، يا ابني تذكّر

غداً. وتذكّرْ قلاعاً صليبيَّةً

قَضَمَتْها حشائش نيسان بعد

رحيل الجنود…

المصدر: الغد الأردنية/(مجلة 972+)

زر الذهاب إلى الأعلى