في مارس (آذار) 2023، سلط إعلان الصين عن توسطها من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران الضوء على الانحسار السريع لدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبعد وقت قصير من وصول الرئيس جو بايدن إلى سدة الرئاسة، أكملت الولايات المتحدة انسحابها المتعثر والمرتجل من أفغانستان، البلد الذي أمضت واشنطن 20 عاماً وهي تحاول جعله أكثر تأييداً للغرب، لكنها فشلت في ذلك، ثم سرعان ما واجه الرئيس الأميركي رفضاً سعودياً للمطالب الأميركية الداعية إلى زيادة إنتاج النفط خلال الحرب في أوكرانيا.
في غضون ذلك، تعثرت الجهود الدبلوماسية الأميركية الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني على وقع توسل النظام الإيراني بموجة عنيفة من القمع. وراقبت الإدارة بلا حول ولا قوة وصول الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل إلى السلطة، ما يقوض سعي الدولة هذه إلى الديمقراطية، ويؤجج موجة جديدة من العنف، ويهدد بفرض عقد اتفاقيات أبراهام المدعومة من واشنطن.
إذاً، قد يعذر المراقبون في حال تساءلوا عما إذا كان نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة قد تراجع بشكل دائم، أو ما إذا كانت إدارة بايدن مهتمة بهذا الأمر حتى، وسط الحرب في أوكرانيا والتنافس الأميركي المتزايد مع روسيا والصين. وعلى رغم أن الرئيسين السابقين باراك أوباما ودونالد ترمب دعما ظاهرياً “الاستدارة” بعيداً من الشرق الأوسط والنأي عنه، فإنهما انخرطا في عمليات انتشار عسكرية متعددة ومبادرات دبلوماسية واسعة النطاق، من تعزيز الديمقراطية خلال الانتفاضات العربية إلى هندسة اتفاقيات السلام بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والإمارات.
واليوم، لم يتبق من تلك الأجندة الأميركية الطموحة سوى القليل، على رغم التحديات الضخمة في المنطقة، بما في ذلك ويلات الحرب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن، والتدهور الاقتصادي في مصر ولبنان وتونس، والمخاطر المتزايدة المترتبة على تغير المناخ وعدم المساواة وانعدام الاستقرار على مستوى المنطقة، وعودة الاستبداد في كل مكان.
في كتاب “الضلال الكبير: بروز الطموح الأميركي وأفوله في الشرق الأوسط” Grand Delusion: The Rise and Fall of American Ambition in the Middle East، يحاول عضو مجلس الأمن القومي السابق والخبير المخضرم في شؤون الشرق الأوسط ستيفن سايمون أن يشرح كيف حدث هذا الانهيار، متتبعاً جهود الولايات المتحدة الرامية إلى بلورة وجه المنطقة منذ الثورة الإيرانية في عام 1979، وصولاً إلى عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل في ديسمبر (كانون الأول) 2022.
يستخلص سايمون دروساً بارزة: وفق ما يشي به عنوان الكتاب، كانت استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط “ضالة منغمسة في الأوهام”، نشأت نتيجة “الخلط المتواصل والمفتعل بين الأفكار العظيمة” التي طرحها صانعو السياسة المقتنعون بنواياهم الحميدة تجاه منطقة لا يعرفون عنها إلا القليل ولا يهمهم أمرها. وبحسب ما كتبه، “إنها قصة سوء فهم جسيم وأخطاء مروعة وموت ودمار على نطاق تاريخي”.
هذه الاستنتاجات صحيحة، بيد أنها قد لا تكون كافية تماماً. والسؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو كيف، أو ما إذا كان، يمكن لواشنطن أن تستخلص العبر من هذه الأخطاء الكارثية لكي تبلور نهجاً أكثر إيجابية في عصر يضمحل فيه نفوذ الولايات المتحدة.
ثمانية أنواع من الفشل
من خلال تقديم مراجعة شاملة، لا بل موثوقة ومرجعية، تتناول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على مدى نصف القرن الماضي، يطمح كتاب “الضلال الكبير” [أو التوهم الكبير] إلى نقل “نظرة الكاتب إلى العالم بصفته شاهداً ومؤرخاً”.
بالتأكيد، لدى سايمون المؤهلات والقدرة على القيام بذلك، إذ إنه شارك بشكل مباشر في كثير من السياسات والاستراتيجيات التي يكتب عنها في معرض الكلام. فهو عمل في وزارة الخارجية الأميركية في عهد إدارات ريغان وبوش الأب [إدارتين في عهد ريغان وإدارة واحدة على عهد بوش الأب] وشغل مناصب رفيعة في مجلس الأمن القومي في عهد إدارتي كلينتون وإدارة أوباما. وبين فترات عمله في الحكومة، تولى مناصب مهمة في عدد من مراكز البحوث والجامعات ووضع كتباً مشهورة على نطاق واسع عن الإرهاب والشرق الأوسط.
وعلى رغم ذلك، لا يجد سايمون سبباً وجيهاً يدعوه للإشادة بالسياسات التي ساعد في صياغتها. في الواقع، يعتقد الآن أنه خلال العقود التي قضاها في واشنطن، غالباً ما كانت جهود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عقيمة بلا جدوى. في كثير من الأحيان، أدت الخطط الطموحة الرامية إلى تأمين الاستقرار وتعزيز الديمقراطية وإحباط الإرهاب، إلى تعزيز الاستبداد، وتفاقم البؤس الاقتصادي، والتحريض على العنف.
وفي هذا السياق، كتب سايمون أن “الوهم كان متجذراً في فكرة أن النوايا هي التي تهم، وليس الحقائق والوقائع، أننا نصنع واقعنا ونعيش فيه، وأن قدراتنا غير مقيدة، ولا أحد يتحكم بأهداف سياستنا”. هذه كلمات جريئة وقوية، لكن سايمون لم يتوقف عند هذا الحد، لا بل أشار إلى أن حقيقة أن صانعي السياسة الأميركيين، بمن فيهم هو نفسه، أرادوا جعل الشرق الأوسط مكاناً أفضل وتعزيز مصالح واشنطن الاستراتيجية، لا تعد “تبرئة”، بل هي جوهر المشكلة.
يروي كتاب “الضلال الكبير” قصة ثماني إدارات رئاسية أميركية متعاقبة، مما يمنح السرد وضوحاً زمنياً حتى لو كان يحجب الاتجاهات التاريخية الأوسع. ويبدأ الكتاب بمفاوضات الرئيس جيمي كارتر حول اتفاقيات كامب ديفيد، اتفاقية السلام التاريخية التي عقدت في عام 1979 بين إسرائيل ومصر. وفقاً لسايمون، كان تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حتى ذلك الوقت متواضعاً نسبياً. في الغالب، “ابتعد” الرؤساء دوايت أيزنهاور، وجون ف. كينيدي، وليندون جونسون عن المنطقة، تاركين التدخل العسكري للبريطانيين، لكن بعد كامب ديفيد، تغير ذلك بشكل حاسم. وفي ذلك الإطار، كتب سايمون: “فعلياً، بعد عام 1979، رأينا أميركا تعسكر سياستها في الشرق الأوسط”.
وفي رأيه، يمكن رصد عواقب هذا التحول في كل شيء بدءاً من التدخل الفاشل لإدارة ريغان في الحرب الأهلية اللبنانية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى “المهزلة”، على حد تعبير أوباما نفسه التي حصلت في ليبيا والمتمثلة في حملة “الناتو” الفوضوية التي قادتها الولايات المتحدة في أعقاب انتفاضة 2011 ضد الديكتاتور الليبي معمر القذافي. وبعد تناوله السريع والمختصر لاتفاقيات كامب ديفيد، خصص سايمون صفحات عديدة لسياسة كارتر البائسة تجاه إيران التي انتهت بجهود كارثية رمت إلى إنقاذ الرهائن الأميركيين في طهران. في تقديره، أسهم هذا الخطأ غير المقصود في فوز رونالد ريغان في المنافسة الرئاسية عام 1980 وزاد بشكل كبير من دور سياسة الشرق الأوسط في السياسات الانتخابية الأميركية.
في الفصل الذي كتب فيه عن ريغان، استعرض سايمون ردود فعل الرئيس على الإرهاب، والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وفضيحة إيران كونترا [أو ما يعرف بـ”إيران غايت”]، وخلص إلى أن “لا شيء حاولت الإدارة القيام به في الشرق الأوسط في فترتي ولايتها قد جعل الولايات المتحدة أفضل حالاً”.
خلال فترة الولاية الواحدة للرئيس جورج بوش الأب التي تعد تاريخية وفائقة الأهمية، طردت الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت، وبعد ذلك، في مؤتمر مدريد عام 1991، ساعدت على الدخول في عقود من المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفي بعض الأحيان، الدول العربية الأخرى، لكن في رأي سايمون، لم تنجز الإدارة أي شيء آخر. في الواقع، من وجهة نظره، لم يكن الانتصار في حرب الخليج وإطلاق عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية أكثر من مجرد “أوهام مزدوجة” أورثها بوش الأب لبيل كلينتون. في ظل إدارة كلينتون، أدت اتفاقيتا أوسلو، الموقعتان في 1993 و1995، إلى اعتراف متبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لكن لم يحرز أي تقدم حقيقي في بناء دولة فلسطينية، كذلك فإن الجهود التي بذلها كلينتون في فترة ولايته الثانية من أجل تأمين اتفاق سلام حقيقي باءت بالفشل.
في النهاية، بعد عدة سنوات من الأمل، كان الإرث الذي تركه كلينتون للرئيس جورج دبليو بوش أفضل بقليل من الإرث الذي حصل عليه هو نفسه ووصفه بـ”التوأم الوهم”.
وفق ما يرويه سايمون، فإن هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 التي شنها تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة قد دفعت عسكرة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى ذروتها. بقدر ما كانت الهجمات بحد ذاتها مثيرة للدهشة، فما كان وقعه وقع الصدمة على سايمون هو فشل البيت الأبيض في توقع حدوثها: “وبدا أن تصديق كون إدارة بوش غافلة تماماً عن التحذيرات الاستخباراتية في شأن هجوم وشيك، متعذر”.
في أعقاب الهجمات، قام فريق بوش بتحريف طبيعة التهديد “الجهادي”، مستخدماً أحداث 11 سبتمبر لكي يبرر السعي إلى الانتقام على طريقة القبطان آهاب [وهو قبطان في قصة “موبي ديك” يسعى للانتقام من حوت العنبر الأبيض العملاق الذي أغرق سفينة سابقة وقطع ساقه] تحت إشراف مسؤولين من المحافظين الجدد والصقور الذين كانوا أيضاً في إدارات ريغان وبوش الأب. وعوضاً عن استهداف زعيم تنظيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، سرعان ما أصبح الهدف الرئيس هو صدام حسين على رغم استنتاج مسؤولي مكافحة الإرهاب بأن الديكتاتور العراقي لم تكن لديه صلات يعتد بها بالجماعة الإرهابية.
وكانت النتيجة غزو العراق واحتلاله، ما أدى إلى بيئة حاضنة لجماعة إرهابية أكثر راديكالية في معاداتها للولايات المتحدة، وهي تنظيم “داعش”. وسط هذا الصراع المكلف، وذاك الذي كان يتكشف في أفغانستان على نحو مُوازٍ، لم يحرز أي تقدم يذكر في تأمين المصالح الأميركية أو جعل الشرق الأوسط أفضل حالاً. وكان حكم سايمون في شأن تلك السنوات كارثياً. فمن منطلق اقتناع إدارة بوش بأن الولايات المتحدة كانت “أعظم قوة على وجه الأرض”، “خسرت حروبها في العراق وأفغانستان وقتلت، أو تسببت في مقتل، مئات الآلاف من الناس”.
ثم جاءت إدارة أوباما إلى السلطة راغبة في الخروج من هذه الوحول، لتجد نفسها متورطة مرة أخرى، وذلك بسبب بروز “داعش” الذي أحبط جهود الرئيس للانسحاب من العراق، وبسبب الانتفاضات العربية غير المتوقعة في 2010-2011. في أعقاب خطاب أوباما الذي لاقى استحساناً في عام 2009 في القاهرة واعداً ببداية جديدة في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، فإن المراوغة وقلة الوضوح في استجابة الإدارة للثورات الشعبية القائمة ضد أنظمة متحالفة مع واشنطن تركت الطرفين على حد سواء يشعرون بالخيانة. ومن المفارقات المريرة بالنسبة إلى سايمون، أن الإنجاز الاستراتيجي المهم الوحيد لأوباما، وهو الاتفاق النووي مع إيران عام 2015.
والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، تنصل منه ترمب على الفور تقريباً، فشرعت إدارته في حملة ضغط انتقامية وغير فعالة ضد إيران، بينما احتضنت أنظمة استبدادية كانت واشنطن تعتمد عليها منذ فترة طويلة. وعدلت إدارة ترمب عن التظاهر بالدعم الأميركي لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المستمرة منذ عقود، واختارت عوضاً عن ذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس وهندسة اتفاقيات أبراهام. في نهاية المطاف، جمعت تلك الاتفاقية إسرائيل وأربع دول عربية. وبدا أن بعض هذه الدول يشارك إسرائيل مخاوفها في شأن إيران وتتوق لازدهار أعمالها مع تل أبيب، وأنها توقفت عن التظاهر بأنها تبالي كثيراً بمصير الفلسطينيين.
ويذهب سايمون إلى أن إبرام ترمب تلك الصفقات التبادلية أدى إلى تفاقم الطبيعة الفوضوية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط التي تأرجحت بين إعلاء شأن تعزيز الديمقراطية من جهة والرؤى الواقعية في شأن الهيمنة الاستراتيجية من جهة أخرى. يخبرنا سايمون أن “الشرق الأوسط على عهد ترمب بدا بشكل عام أسوأ من ذاك الذي كان في عهد أوباما قبل أربع سنوات”. فترمب أقدم على أمور كثيرة سرعت تدهور النفوذ الأميركي، وكان القاسم المشترك بينه وبين أوباما هو ما يسميه سايمون “شعوراً متضائلاً بجدوى المشاركة الأميركية وهدفها وفاعليتها، وبخاصة التدخل العسكري، في الشرق الأوسط”. بحلول الوقت الذي وصل فيه بايدن إلى منصبه في عام 2021، كانت استراتيجية الولايات المتحدة سلبية تحول دون بلوغ الأهداف وفاشلة، ولم يكن أي من الأصدقاء أو الأعداء من بين الدول الرائدة في المنطقة يبدي تقديراً للولايات المتحدة أو لسياستها.
ألد الأعداء
بالنظر إلى الحجم الاستثنائي للتدخل الأميركي في الشرق الأوسط على مدى العقود الأربعة ونصف العقد الماضية، لماذا كانت السياسات الأميركية على الدوام خرقاء وفاشلة؟ يقدم سايمون إجابات متعددة. الأولى والأكثر تنوعاً هي تقييمه للأشخاص المسؤولين عن إعدادها وبلورتها. كانت الدائرة المقربة من كارتر “مفككة” [غير فعالة]، فيما تألفت إدارة ريغان من أشخاص “لا يقبلون النقد، ومراوغين، ومعارضين متعنتين” تبنوا رؤية “سخيفة تماماً” في شأن عملية سلام عربية إسرائيلية. أما فريق عمل جورج بوش الأب، “فأعماه” “وهج القوة الأميركية ونعيم التفكير الحالم”.
وكان مستشارو كلينتون في الشرق الأوسط قد “تعثروا بسبب الانجذاب إلى العقائد الخاطئة”، بينما كان جورج دبليو بوش “متزمتاً وضيق الأفق، وغير مبالٍ، ومندفعاً بشكل واضح”، وقد اعتمد “نهجاً فظاً في معضلات السياسة الخارجية”. ولم تظهر مشكلات أوباما في ليبيا أي نية خبيثة، بل “غياباً في الكفاءة”، ثم جاء ترمب، الذي كلف صهره جاريد كوشنر بملف الشرق الأوسط سعياً وراء “رأسمالية المحسوبية القائمة على تعامل ذاتي المنفعة”. بعد قراءة هذه القائمة، من السير لا مناص من استنتاج أن دولارات الضرائب الأميركية كانت تدفع رواتب مجموعة مذهلة من الأنذال والفاسدين.
وبالنسبة إلى سايمون فإن عملية وضع السياسات بطريقة فاشلة للغاية لها القدر نفسه من الأهمية. فعوضاً عن العقلانية أو البصيرة الاستراتيجية، دائماً ما استندت عملية صنع السياسة الأميركية في المنطقة إلى “الضرورات السياسية، والتعنت الأيديولوجي، والدوافع العاطفية، والتنسيق الذي يتطلب نوعاً من الإجماع بين المؤسسات ويقع على عاتق مستشارين تنفيذيين الذين غالباً ما تكون أولوياتهم متضاربة. ويتابع سايمون أن أكثر المحللين موهبة حتى إنهم سيجدون صعوبة في تنفيذ الأفكار الجيدة، ويعجز عن مقاومة تذكير القراء (وفي الوقع لا يمكننا أن نلومه على ذلك) بالمقال المشترك الذي كتبه مع خبير مكافحة الإرهاب دانيال بنيامين في صحيفة “نيويورك تايمز” قبل أكثر من 18 شهراً من هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وحذر فيه من اقتراب حدوث “هجوم سيشنه المتطرفون السنة ضد الولايات المتحدة وسيسفر عن خسائر جسيمة وعدد كبير من الضحايا”، بيد أن تلك البصيرة العملياتية والتحذيرات المبكرة ذهبت سدى.
ولكن هناك تفسيرات أخرى لفشل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يتجاهلها سايمون. وبما أن كتابه يتمحور حول الإدارات المتعاقبة، فهو يضطر إلى إبراز الدورات السياسية التي تشكل الخيارات قصيرة الأجل في السياسة عوضاً عن التركيز على التوجهات الوطنية الأوسع والتطورات العالمية.
ومع انتهاء الحرب الباردة، أسهمت غطرسة النصر الأميركية نوعاً ما في تثبيط المحاسبة الذاتية في واشنطن التي كان من الممكن أن ينتج منها مداولات أكثر جدية حول تداعيات السياسات الأميركية، والمصالح المحددة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وعلى سبيل المثال، يشير سايمون إلى أنه عندما بدأت واشنطن تنغمس في المنطقة في سبعينيات القرن الماضي، “بدت هشاشة السعودية وإسرائيل مثيرة للدهشة”، ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين، وبدعم من الولايات المتحدة، تعاظمت قوة كلا البلدين وصار كل منهما قوة إقليمية. وكل منهما مستعد لتحدي واشنطن بشكل متزايد عندما تتباين مصالحه مع مصالحها. على رغم أن رعاية هذه الدول الضعيفة وتحويلها إلى جهات فاعلة قوية (ومزعجة باستمرار) تعتبر نجاحاً وفقاً لسايمون، إلا أنه يسأل أيضاً، “مقابل أي ثمن؟” هذه مسألة أساسية: لقد دفعت الولايات المتحدة والمنطقة ثمناً باهظاً، لكن هذا الدعم غير المشروط يثير أيضاً تساؤلات حول ما إذا كان ينبغي أن تستمر واشنطن اليوم في تشكيل سياساتها تجاه المنطقة على أساس أمن إسرائيل وإمكانية الوصول المضمون إلى نفط الخليج، وهما معياران كانا بالكاد يمثلان مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قبل 50 عاماً.
كذلك، فإن تركيز سايمون على العلاقات الثنائية مع الحلفاء والخصوم يكشف أيضاً عما يغفل عنه. ففي عصر غير فيه الابتكار الرقمي وسائل الإعلام ووسع سلاسل التوريد وأسهم في إثراء القطاع المالي وأعاد تشكيل التكنولوجيا العسكرية وأحدث ثورة في التجسس والأوتوقراطية، وأدى إلى اتساع هوة عدم المساواة، تغير أيضاً دور أقوى دولة في العالم ومصالحها بحكم الضرورة. وعلى رغم ذلك فهو لا يناقش أنواع القوى الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي لطلما شكلت الحياة اليومية في الشرق الأوسط لفترة طويلة، من نسبة انتشار استخدام الإنترنت ومعدلات معرفة القراءة والكتابة إلى النمو السكاني والبطالة بين الشباب. ويبدو من الصعب تبرير إغفال هذه القضايا، لا سيما أن عدداً كبيراً من العوامل الدافعة إلى التغيير يعود إلى وسائل التكنولوجيا الناشئة في الولايات المتحدة والمقترنة بها.
واستطراداً، يشتكي سايمون من أن محللي الاستخبارات يجيدون الكشف عن نقاط الضعف في المقترحات السياسية “لكنهم لا يقدمون مطلقاً أي أفكار حول طريقة تحسينها”. والجدير بالذكر أن كتاب “التوهم الكبير” يشوبه إلى حد ما ضيق الأفق هذا. هل يستطيع صانعو السياسة الأذكى والأكثر صدقاً وتبصراً وغير المثقلين بالغطرسة أو التفاهات البيروقراطية، أن يصنعوا سياسة أفضل؟ على رغم أن سايمون يناقش المسارت التي لم تتخذ وكان من الممكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل في مراحل محددة من قصته [سرديته]، إلا أن المرونة التكتيكية تختلف عن الرؤية الاستراتيجية، وهو لا يطرح رؤية لاستراتيجية أميركية أكثر فاعلية في المنطقة.
لطالما قدمت واشنطن الشرق الأوسط على نحو سلبي، مركزة على الأمور التي يجب تجنبها عوضاً عن الأمور التي يجب تشجيعها. وهكذا تسابق صناع السياسة لاحتواء النفوذ السوفياتي خلال الحرب الباردة، والتحايل على العراق وإيران لإبعادهما عن بعضهما بعضاً في استراتيجية “الاحتواء المزدوج” التي انتهجها كلينتون بعد الحرب الباردة. وفي الواقع، كرست الإدارات المتعاقبة موارد هائلة من أجل ردع الدول المارقة، وإحباط الإرهابيين، ومنع الانتشار النووي، والبحث عن أسلحة الدمار الشامل، والسيطرة على تدفقات اللاجئين، وبشكل آخر البحث عن الأخطار الهائلة المتصورة في المنطقة وتجنبها، لكن الوقاية، مهما كانت مكلفة ومستنفدة للوقت، لا تعني الانخراط والتدخل. والجهود المتفرقة الرامية إلى إشراك شعوب المنطقة تعثرت في وجه الانتصارات الانتخابية والمفاوضات التي أدت إلى صعود قادة لا يمثلون ما تستسيغه السياسة الأميركية. وهذه الانعكاسات المقلقة في بعض الأحيان التي تجسد التطلعات السياسية المحلية، مثل انتخاب “حماس” في غزة في عام 2007 أو رئيس ينتمي إلى “الإخوان المسلمين” في مصر في عام 2012 أو حكومة إسرائيلية يمينية في عام 2022، سرعان ما تحولت إلى مبررات منطقية أخرى للسياسات الاستباقية وسياسات الاحتواء.
وبصرف النظر عن مبادرات بايدن الضعيفة نحو “تعزيز التعاون والاستقرار والأمن والازدهار” التي أصبحت تشكل اليوم مجرد كلمات طنانة [مجوفة]، ما الذي تريد الولايات المتحدة تعزيزه في الشرق الأوسط؟ شن جورج دبليو بوش الحرب في العراق من أجل تعزيز “الحرية”، وتدخل أوباما في ليبيا من أجل ضمان حماية “حقوق الإنسان”. وأراد ترمب ببساطة إجراء عدد قليل من الصفقات المربحة في منطقة سماها “مستنقعاً ضخماً”. في هذه المرحلة، سيكون مجرد تليين البيانات الصادرة عن واشنطن تغييراً مرحباً به، فهو قد يدفع صانعي السياسة الأميركيين إلى الاستماع إلى الأصوات في المنطقة، لا سيما إذا أجبر الدبلوماسيون الأميركيون على الخروج من سفاراتهم المحصنة للتجول بين شعوب حكوماتها هي التي عينتهم في مناصبهم. في الواقع، وراء المشاريع العملاقة التي روجت لها تلك الحكومات والمعارض التجارية البراقة التي تعرض أحدث وأغلى التقنيات الجديدة في مجال الأسلحة والأمن السيبراني، قد يلاحظ أولئك الدبلوماسيون المشاريع والشركات الناشئة النابضة بالحياة التي تكافح من أجل البروز في الاقتصاد المصري غير الرسمي واستخدام نفوذ الولايات المتحدة للحث على الإصلاح في البيئة التنظيمية الخاصة بالأعمال التجارية الصغيرة. ربما حري بهما الاطلاع على استطلاعات الرأي العام في ليبيا التي تلقي اللوم في استمرار العنف على التدخل الأجنبي وينصحون واشنطن بتنفيذ قرار حظر الأسلحة المفروض على البلاد والمنتهك عالمياً. قد يرون تدهور البنية التحتية للمرافق في لبنان ويضغطون من أجل بذل جهود دولية رامية إلى إعادة بناء شبكة الكهرباء. قد يقاومون الإغراء المتثمل في رؤية كل شيء من منظور التهديدات الأمنية، ويكرسون طاقتهم لاستكشاف مساعي أي دولة تحاول الحصول على تقنيات قد تكون ذات “استخدام مزدوج”، أي من الممكن تحويلها إلى أسلحة، ويعملون على إحباط تلك المساعي. ففي الحقيقة، هناك ما يكفي من الإحباط في الشرق الأوسط.
وإلى أن تحدد الولايات المتحدة مصالحها في المنطقة، ستظل واقعة في شراك تدخل خائب [وضال لا يبلغ غاياته]، وسيقتصر دورها على محاولة إحباط جهود الآخرين وفشلها المتزايد في فعل ذلك، وفق ما يشير إليه انتصار الصين الدبلوماسي الأخير. وحتى مع إظهار واشنطن إحجاماً متزايداً عن المشاركة، فهي ستظل غير قادرة على الانفصال عن المنطقة وإلغاء انخراطها فيها. في الواقع، إن مجرد “القضاء على” القادة العسكريين المحليين في ضربات عسكرية عرضية متفرقة لن يضمن إلا ظهور مزيد من الأشخاص الساخطين والممتعضين الذين يرون أن الطريقة الوحيدة لجعل أصواتهم مسموعة هي العنف. من هذا المنطلق، ربما يكون التقييم النهائي الذي قدمه سايمون بروح من التقبل والتسليم بالواقع، هو في الحقيقة سبب يدعو إلى الأمل والتفاؤل: “أياً كان ما يخبئه المستقبل للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فهو لن يكون شبيهاً بالماضي أو بالحاضر”.
*ليزا أندرسون شغلت منصب أستاذة فخرية لكرسي جيمس ت. شوتويل في مادة العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، وكانت رئيسة الجامعة الأميركية في القاهرة من 2011 إلى 2015.
مترجم من فورين أفيرز مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2023
المصدر: اندبندنت عربية