لا تفوّت الولايات المتحدة الأميركية أيّ فرصة للتذكير بموقفها الرافض للتطبيع مع سوريا، بمساريه العربي والتركي، لكن استمرار هذين المسارين في تحقيق تقدم من خلال خطوات تنخرط فيها دول إقليمية من الوزن الثقيل، بعضها خصم لواشنطن، وبعضها الآخر يُعتبر حليفاً لها، وضمن سياق يتّسم بالسلاسة وغياب أي معوقات تعترض طريقه، أثار الكثير من الشكوك حول الموقف الحقيقي للإدارة الأميركية حيال التطبيع السوري، وما إذا كان ثمة تمايز بين تيارات وأجنحة داخلها، أم أن الأمر مجرد توزيع للأدوار؟
وفي آخر المواقف الأميركية المعلنة، جدد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، خلال اتصال أجراه معه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أول من أمس، لمناقشة مسألة تعزيز التوصل إلى حل سياسي شامل للنزاع السوري عقب الاجتماع الذي عقد في عمّان في 1 أيار (مايو) الجاري، موقف بلاده الرافض لهذه العملية. وقال الوزير الأميركي، “إن الولايات المتحدة لن تطبّع علاقاتها مع نظام بشار الأسد، كما أنها لا تدعم قيام الدول الأخرى بتطبيع علاقاتها مع النظام قبل تحقيق تقدم سياسي حقيقي تيسره الأمم المتحدة، ويتسق مع قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254”. وشدد بلينكن على أهمية التنسيق مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، مشيراً إلى أن تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي هو الحل الوحيد القابل للحياة لإنهاء الحرب.
غير أن العنوان العريض المتمثل بالرفض العلنيّ دخلت عليه عناوين فرعية أكثر مرونة، سواء عبر تصريحات صادرة عن مسؤولين أميركيين معنيين بالملف السوري، أو عبر بعض ممارسات واشنطن العملية، الأمر الذي جعل الموقف الأميركي ضبابياً في نظر كثير من المراقبين، وحتى بعض مسؤولي الإدارة الأميركية السابقين.
وتركت تصريحات أدلت بها مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، عقب جولة قامت بها إلى دول المنطقة في أواخر شهر آذار (مارس) الماضي، شكوكاً حول وجود تغيّر ما في السياسة الأميركية، لا سيما عندما نصحت المسؤولة الأميركية الدول المنخرطة في التطبيع، قائلة: “تأكدوا أن تحصلوا على شيء ما مقابل ذلك”، ما دفع العديد من المراقبين إلى الحديث عن “مقاربة أميركية جديدة” حيال الملف السوري أكثر مرونة من السابق.
وسبق ذلك ما كشف عنه المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جويل ريبورن، عن ضوء أخضر حصلت عليه بعض الدول العربية من مسؤولين أميركيين للتطبيع مع النظام السوري. وقال ريبورن: “لقد ذكرت مصادر إقليمية أنّه حين تساءل مسؤولون عرب عن موقف الولايات المتحدة من الاتصال بالأسد بغرض التطبيع معه، فإنّ مسؤولين كباراً في الإدارة أعطوهم ضوءاً أخضرَ ضمنياً، معللين ذلك بأنهم يفضلون أن تطبّع الدول العربية مع الأسد، على أن ترعى روسيا صفقة بين دمشق وأنقرة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى هجمات تركية على شركائنا قوات سوريا الديموقراطية”.
وجاء كلام ريبورن، خلال جلسة استماع في مجلس النواب الأميركي، أواخر شهر نيسان (أبريل) الماضي، بناءً على طلب بعض المنظمات السورية – الأميركية لبحث الشأن السوري بعد مرور 12 عاماً على انطلاقة الثورة السورية، ولمراجعة تطبيق “قانون قيصر” وكيفية تطبيق قانون “الكبتاغون” الذي سيدخل حيّز التنفيذ بحلول منتصف حزيران (يونيو) المقبل.
وعلى الرغم من أن تصريحات ريبورن لا تلزم الإدارة الأميركية كونها منقولة عن مصادر إقليمية، فإنها على الأقل توحي بأن بعض المسؤولين العرب يتحركون في ملف التطبيع مع سوريا بوحي من اعتقادهم بوجود موافقة أميركية.
وما عزّز الشكوك السابقة حول الموقف الأميركي أن الإدارة الأميركية، وهي في خضمّ إعلانها المتكرر لرفض التطبيع مع كل محطة جديدة تصل إليها المباحثات بين سوريا والجانبين التركي والعربي، جددت مساعيها لإحياء مفاوضاتها مع النظام السوري لإطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في سوريا منذ عام 2012، حيث تتهم واشنطن السلطات السورية باحتجازه، فيما تنفي الأخيرة علمها بمصيره. ويرى البعض أن السعي الأميركي للكشف عن مصير صحافيها المفقود في هذا التوقيت وعبر الانخراط في مفاوضات مباشرة مع سوريا قد يكون من قبيل تطبيق مقاربة “تحصيل الثمن” الذي كشفت عنها باربرا ليف.
وقد انقسم المراقبون السوريون حيال حقيقة الموقف الأميركي بين من يرى أن الولايات المتحدة لم تفقد تأثيرها الكلّي في المنطقة، برغم عدم اهتمامها بالملف السوري كثيراً، ومن يرى أن لا شيء يمكن أن يحدث من دون رضا أميركي.
وقال الدكتور عماد فوزي شعيبي، وهو محلل سياسي سوري، “إن واشنطن حالياً تسير على خطوط عدة، أولها الممانع لهذا التطبيع، وثانيها، براغماتي يقول إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، حتى لا تخرج من المشهد كلياً، خصوصاً أن المشهد فيه تمرد واضح على واشنطن”. ويضيف في منشور على صفحته في “فايسبوك” أنه “لهذا هي تحاول الظهور في بعض الأحيان كما لو أنها موافقة ضمنياً، وتقول: لعلنا نستفيد من تجريب هذه الخطوة بما يحفظ ماء الوجه، ويبقى الظن بأنها تدير كل شيء ولو بالخفاء”.
بينما رأى سامر علّامة، من صحيفة تشرين السورية الحكومية: “أعتقد أنه ما لم تكن هناك موافقة أميركية، وهي (براغماتية)، هناك صمت أميركي، حتى الآن، حيال ما يجري، وكما يقال: الصمت هو علامة الرضا”.
وحاولت بعض الوسائل الإعلامية السورية المعارضة الحديث عن وجود أكثر من تيار داخل الإدارة الأميركية، مشيرة إلى أن منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي برايت ماكغورك يقود التيار المنادي بعدم عرقلة مسارات التطبيع مع النظام السوري. ولتبرير وجود مثل هذا الانقسام داخل الإدارة الأميركية، أشارت بعض المواقع السورية المعارضة إلى أن ماكغورك يهدف إلى خلط الأوراق على التفاهمات بين سوريا وتركيا لحماية قوات سوريا الديموقراطية التي يُعتقد أنها ستدفع ثمن أي تقارب سوري – تركي محتمل.
ووفق “تلفزيون سوريا” المعارض، فقد “قام ماكغورك في 13 نيسان (أبريل) الماضي بزيارة للرياض على رأس وفد أميركي رفيع، بهدف مناقشة الخطوات السعودية تجاه النظام السوري”.
وبعد أيام قليلة من لقاء المسؤولين في الرياض مع المنسق الأميركي ماكغورك، أوفدت السعودية وزير خارجيتها فيصل بن فرحان إلى دمشق، ما أعطى إشارات قوية على الرغبة الأميركية بتنسيق المسار وتوظيفه.
المصدر: النهار العربي