حين نجح الشعب السوداني في إسقاط حكم البشير منذ أربع سنوات وتطلّع لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لم ينجح تيار كبير من نخبته في تقديم الأسئلة الصحيحة عن مشكلات البلاد وأدخل نفسه في مسار انتقالي متعثر أدى في النهاية إلى مواجهات مسلحة بين طرفي المكون العسكري، أي الجيش والدعم السريع.
والحقيقة أن المعادلة التي اعتمدت عليها قوى التغيير في السودان قامت على طرح أسئلة عن الواقع السوداني بعضها كان صحيحا، ولكنها تجاهلت أسئلة أخرى مفصلية كان لا بد من طرحها حتى تكتمل صورة المشهد السوداني.
لقد طالبت قوى الحرية والتغيير بالحكم المدني في مواجهة العسكري، وبخروج الجيش من المعادلة السياسية، واعتمدت على الصوت الاحتجاجي في مواجهة سلطة ليست قوية، وشرعية ثورية في مواجهة مؤسسات دولة ضعيفة وانقسام قبلي ومناطقي، وتناست أسئلة أخرى كانت أكثر إلحاحا في السياق السوداني، وكان يجب أن تكون هي نقطة البداية.
والحقيقة أن السؤال الأساسي الذي يجب أن يطرح في بلد مثل السودان؛ يتمثل في أسباب جعل الحكم العسكري منذ استقلال البلاد عام 1956 هو القاعدة، والحكم المدني هو الاستثناء، فقد عرف السودان أول انقلاب عسكري بقيادة إبراهيم عبود في عام 1958 أي بعد عامين من الاستقلال، وبقي في الحكم حتى عام 1964 حيث شهدت البلاد ثورة شعبية أسقطت حكم عبود واستمرت الصراعات السياسية، حتى قام الضباط الأحرار بقيادة جعفر النميري بانقلاب عام 1969، وبقي في السلطة حتى عام 1985، الذي شهد ثورة شعبية أنهت حكم النميري، وظهر القائد العسكري الاستثنائي «سوار الذهب» الذي قاد مرحلة انتقالية لمدة عام واحد كما وعد، وأجرى بعدها انتخابات وفق نظام برلماني لم يستمر إلا 4 سنوات، وجاء انقلاب البشير الذي بقي في السلطة 30 عاما حتى الثورة الأخيرة التي أسقطته في أبريل (نيسان) 2019.
والحقيقة أن بلدا استقل منذ 67 عاما شهد فيها حكما أو دورا مدنيا في الحكم نحو 10 سنوات، و57 عاما شهد فيها حكما عسكريا شاركه لنحو عام حكم مدني في أثناء حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، والسؤال الذي يجب أن يطرح: لماذا يفشل الحكم المدني ويستمر الحكم العسكري… ألم تكن هناك استدعاءات للتدخل العسكري من قبل قوى مدنية عقب تعمق الخلافات فيما بينها فيذهبوا للجيش لحسمها لا إلى الآلية الديمقراطية؟
الواقع أن هذا حدث أكثر من مرة سواء في عهد حكومة إسماعيل الأزهري عقب الاستقلال، أو في رهانات بعض القوى المدنية على أحد طرفي الصراع الحالي من المكون العسكري، وهو واقع يجب مواجهته بشفافية وتقديم مخرجات للتعامل معه، لا بالقفز عليه بشعارات سياسية تطالب بإنهاء الحكم العسكري من «الباب» وعودته من «الشباك».
واللافت أيضا أن الحكم المدني في السودان تبنى نظاما برلمانيا أفرز حالة من الانقسام والهشاشة السياسية وعدم الفاعلية والقدرة على الإنجاز، في حين أن الحكم العسكري تبنى نظاما رئاسيا مركزيا اعتبره جانب من الشعب السوداني رمزا للأمن والاستقرار.
والحقيقة؛ كان يجب على القوى المدنية أن تعمل على تبني النظام «الرئاسي الديمقراطي» وليس التمسك بالنظام البرلماني الذي تحول إلى ساحة للانقسام والصراعات الحزبية وعدم الفاعلية وكان أحد أسباب الانقلابات العسكرية.
والواقع أن القوى المدنية ركزت على ضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وبعض هذه القوى رفض التفاوض مع المكون العسكري وعدّ أي شراكة معه «شراكة دم». صحيح أنه من المشروع أن تتمسك القوى المدنية بمطالب ثورتها الشعبية بحكم مدني ديمقراطي وإنهاء الحكم العسكري، لكن هذا لا يمنع من ضرورة امتلاكها الجرأة في طرح أسباب تعثر الحكم المدني والعمل على عدم تكرارها.
والحقيقة أن البحث عن إجابات صحيحة عن الأسئلة الصحيحة يتطلب معالجة مشكلتين هيكليتين اصطحبتا المرحلة الانتقالية وأدتا إلى فشلها: الأولى هي انطلاق بعض القوى المدنية من نظريات ثورية تقوم على مواجهة السلطة القائمة، وخاصة مكونها العسكري، معتمدة بشكل أساسي على احتجاجات الشارع ومتصورة أن هذه السلطة مركزية ومتماسكة ويمكن مقارنتها بالنظم العسكرية في أميركا الجنوبية، فهذه الدول مؤسستها العسكرية كانت موحدة وقوية ولا تعرف في معظمها حروبا أهلية وانقسامات عرقية وقبلية، ومن هنا فإن إدارة صراع سياسي في بلد، مثل السودان، منقسم عرقيا وقبليا وسياسيا، ومؤسسات دولته ضعيفة وهشة ومكونه العسكري منقسم بين قوتين، تعني أن خطر التفكك والمواجهات المسلحة حقيقي، ويتطلب حلولا توافقية وليست ثورية ونظرة عملية وعلمية لإصلاح المؤسسات وتقويتها وليس إضعافها وإدخالها طرفا في الصراعات السياسية.
وجاء طول المرحلة الانتقالية التي امتدت لأربع سنوات (وكان مقررا إضافة عامين تاليين إذا طبق الاتفاق الإطاري)، ليضيف مشكلة ثانية على المسار السياسي، فإذا كان هناك استحالة في «استنساخ» سوار الذهب، فعلى الأقل يمكن استلهام تجربته في قصر الفترة الانتقالية التي بلغت عاما واحدا؛ لأن فترة انتقالية طويلة «تبدع» في التوقيع على اتفاقات لا تحترم، وتهتم بالورق والصياغة والشعارات وتتجاهل توازنات القوى على الأرض وصراع السلطة في ظل غياب سلطة مركزية متوافق عليها أو منتخبة، فتكون النتيجة هي: الاتفاق عقب الثورة على وثيقة دستورية ومجلس سيادي مدني – عسكري، انتهى بانقلاب قائد الجيش عليه في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ثم التفاهم مؤخرا على الاتفاق الإطاري، الذي انتهى برفض الدعم السريع التوقيع عليه والدخول في حرب بين المكونين العسكريين.
المرحلة الانتقالية الطويلة تحت حجة تفكيك النظام القديم انتهت بأن أضعفت قوى الثورة نفسها وقسمتها، وقوت قوى النظام القديم التي خرج رموزها من السجون وتحدثوا في وسائل الإعلام بوصفهم فاعلين سياسيين، وختمت بمواجهات مسلحة بين طرفي المكون العسكري يدفع ثمنها الشعب السوداني، وأيضا مسار بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
من المهم في ظل محاولات عربية ودولية وقف الحرب في السودان أن يعاد طرح الأسئلة الصحيحة حول الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد، من أجل استخدام أدوات صحيحة للوصول للهدف المشروع الذي طالب به الشعب السوداني؛ وهو بناء دولة مدنية ديمقراطية.
المصدر: الشرق الأوسط