نقرأ الماضي، لا لكى نعيش فيه، بل لنفهمه، ونستوعب عظاته ودروسه، ولا نكرر خطاياه بالذات. هذه حكمة قديمة، ينساها أغلبنا، حين يحول الحول ، وتزداد وطأة ما نحن فيه من مآسى ، فيزيد ميلنا للعيش فى الماضى ، والتلهى عن عثرات الحاضر ، الذى يبدو أسوأ بامتياز ، برغم أن الحقيقة قد لا تكون دائما كذلك .
مناسبة تذكر الحكمة القديمة الجديدة، هى ما تمر به القضية الفلسطينية اليوم، وسيول المراثى التى تكاد تنعى قضية الشعب الفلسطينى، وتحدثك عن تصفية نهائية للحق الفلسطينى ، مع ما تسمى خطة ترامب ، وعزم حكومة العدو ضم المستوطنات والأغوار وشمال البحر الميت ، وانعدام فرصة إقامة الدولة الفلسطينية المجتزأة على الأراضى المحتلة فى حرب 1967 .
والقضية الفلسطينية لم تنشأ اليوم طبعا ، فقد عبرت من قرن إلى قرن ، ومنذ وعد بلفور عام 1917 ، لم يتوقف الكفاح الفلسطينى فى مئة سنة وتزيد ، وتوالت انتفاضاته ضد الاحتلال البريطانى والاستيطان اليهودى ، التى لم تحل فى النهاية دون وقوع نكبة 1948 ، واحتلال غالب فلسطين ، وإنشاء كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، وطرد ثمانمائة ألف فلسطينى من ديارهم ، صاروا مع تناسلهم فى الشتات نحو ستة ملايين اليوم ، بينما تبقى العدد الأكبر من الفلسطينيين داخل فلسطين ، التى صارت محتلة بكاملها بعد حرب 1967 ، ولكن من دون أن يحدث التفريغ السكانى الذى أوحت به كوارث النكبة ، فقد بذلت الصهيونية كل ما تستطيعه من جهد ، وبالتحالف الوثيق مع مراكز قيادة الغرب الاستعمارى فى لندن وباريس ، ثم بالإندماج الاستراتيجى مع واشنطن مركز القيادة الغربية الإمبريالية بعد الحرب الكبرى الثانية ، وجرى التهجير الواسع لليهود إلى فلسطين على موجات ، كان آخرها تأثيرا موجة تهجير ما عرف طويلا باسم “اليهود السوفييت” ، وكانت تلك آخر دفقة دماء كبرى للاستيطان الصهيونى فى فلسطين ، لكن الهدف المعلن للصهيونية لم يتحقق فى النهاية ، فلم تصبح فلسطين وطنا خالصا لليهود المستجلبين ، برغم الفروق المرعبة فى القوة العسكرية لصالح إسرائيل ، المسلحة حتى الأسنان النووية ، ولسبب ظاهر ، هو أن الشعب الفلسطينى الأصلى صار أكبر عددا اليوم على أرضه التاريخية ( 50.9 % ) ، بينما يتراجع “الشعب الإسرئيلى” المفتعل بإطراد إلى وضع الأقلية السكانية ( 49.1% ) ، خصوصا مع نضوب مخازن التهجير اليهودى لاستيطان فلسطين ، فلم تعد فى العالم كتلة يهودية كبرى خارج كيان الاحتلال ، سوى حالة اليهود فى أمريكا ، وهؤلاء لا يريدون الذهاب إلى فلسطين ، ويكتفون بدعم “إسرائيلهم” عبر دفاتر الشيكات ، أو تطويع دور صانع القرار فى واشنطن لصالح دولة الاحتلال ، على طريقة انخراط ترامب فى منح القدس والضفة ، ومن قبلهما الجولان لإسرائيل ، بقرارات الضم الأبدى .
والمعنى باختصار ، وبعيدا عن زحام العواطف ، أن تصفية القضية الفلسطينية لم تعد ممكنة ، وهذا هو درس الماضى وعظة التاريخ الأولى ، فإسرائيل كيان استعمارى استيطانى إحلالى ، ولم تنجح أبدا عملية ثبات ودوام أى كيان استيطانى ، إلا إذا نجح فى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين ، أو خفض عددهم إلى أدنى حد ، وعلى طريقة ما جرى فى الاستيطان الأوروبى الاستعمارى للأمريكتين واستراليا ، بينما لم ينجح الاستعمار الاستيطانى فى حالتى الجزائر وجنوب أفريقيا ، صحيح أن المحاولة دامت فى الجزائر على مدى 130 سنة ، لكنها فشلت فى النهاية ، وبعد تضحيات عظمى من أهل الجزائر الأصليين ، قدموا فيها ما قد يصل إلى المليون ونصف المليون شهيد ، أنهت غزوة “فرنسة” الجزائر ، وهو ذاته ما جرى بطرق أخرى فى جنوب أفريقيا ، وعبرة التاريخ ودروسه تقول ، أن ذلك عينه هو ما سيجرى فى فلسطين بإذنه تعالى ، ربما مع إكمال كيان الاحتلال لعامه المئة ، برغم اختلاف ظروف حالة الجزائر عن حالة جنوب أفريقيا ، واختلاف السياق المصاحب فى الحالتين عن الحالة الفلسطينية الراهنة ، التى تمتاز بثبات كتلة الشعب الفلسطينى الغالبة فوق أرضه المقدسة ، وبحيوية متزايدة للفلسطينيين ، الأفضل تعلما بين شعوب أمتهم العربية ، فقد خلقتهم المحنة الفريدة خلقا جديدا ، واستعاضوا عن نزيفهم السكانى مع الطرد الأول ، وصاروا تسعة أمثال عددهم الذى كان وقت النكبة الأولى .
وقد يقال لك ، وما جدوى التفوق العددى الفلسطينى ، إذا كانت الأرض تسحب من تحت أقدام الفلسطينيين بالضم والقضم والتهويد ، وهذه نقطة اعتراض تبدو وجيهة لأول وهلة ، والجواب المضاد عليها ، أن الفلسطينيين منتشرون بنسب متفاوتة فى أغلب الأقاليم الطبيعية لفلسطين المحتلة بكاملها ، مع فك الأقواس المصطنعة ، من نوع “الخط الأخضر” و”الجدار العازل” ، أو المحاولة الصهيونية لوضع الفلسطينيين فى كانتونات فصل عنصرى ، على طريقة ما كان يجرى فى جنوب أفريقيا ، وهنا قد يصح الالتفات إلى دفتر الخطايا التى تضعف القوة الصراعية للفلسطينيين ، وقد جرى أخطرها فى الماضى القريب ، وبالذات فى العقود الأربعة الأخيرة ، منذ إعلان المجلس الوطنى الفلسطينى فى الجزائر عام 1988 ، الذى قضى بالاعتراف النهائى بدولة إسرائيل ، مقابل إقامة دولة فلسطينية فى غزة والضفة عاصمتها القدس الشرقية ، أى على مساحة الخمس من فلسطين المحتلة بكاملها ، وما تبعه من اتفاقات أوسلو وأخواتها ، التى أقامت سلطة افتراضية ، لها عمليا أقل من صلاحيات سلطة حكم ذاتى ، ولبعض السكان دون كل الأرض ، ورفعت عن كاهل سلطة الاحتلال كل الأعباء المنهكة ، ووفرت لدولة العدو احتلالا منخفض التكلفة ، وربما بالمجان ، وعقودا من الهدوء النسبى ، زادت من تغول الاستيطان اليهودى أضعافا فى القدس والضفة الغربية بالذات ، بينما انقرض الاستيطان اليهودى فى غزة بدواعى وأفضال وعواقب انتفاضة 2000 ، التى عملت السلطة الفلسطينية الرسمية على منع تكرارها ، والتورط فى خطايا التنسيق الأمنى ، ومطاردة الخلايا الفدائية ، وقد لا يكون اليوم هو وقت العتاب والمؤاخذة ، فقد اقتنعت السلطة نفسها أنها كانت تطارد سرابا ، وأعلن الرئيس محمود عباس عن إلغاء الاتفاقات كلها ، وإن كانت المراجعة لم تكتمل ، فقد ظلت السلطة نفسها موجودة ، وهى وليدة اتفاقات السراب ، ووجودها قيد متصل على حركة الشعب الفلسطينى ، بينما تملك الحركة الوطنية الفلسطينية أن تحيى منظمة التحرير ، وتعيدها إلى وضعها الأصلى كممثل شرعى جامع للشعب الفلسطينى ، وتلغى خطيئة الاعتراف بأى “شرعية” لوجود إسرائيل الراهنة ، وتعيد دمج فلسطينيى الداخل الإسرائيلى مع فلسطينيى الشتات فى صلب القضية ، وبالطرق المناسبة لكل قطاع ، فالقضية الفلسطينية ليست محصورة بأهل غزة والضفة كما أوحت أوسلو وتوابعها ، والانتقال من التضييق إلى الاتساع الفلسطينى الرحب ، هو الذى يسمح بترجمة التفوق العددى الفلسطينى إلى تفوق كفاحى طويل المدى ، وعلى أساس مبدأ الدولة الديمقراطية الواحدة فى فلسطين بكاملها ، وقد كان هو المبدأ الأول لحركة فتح فى ظهورها الأول ، مع انطلاق رصاصة العاصفة الأولى فى الأول من يناير 1965 ، وقبل أن تزحف خطايا البرنامج المرحلى فى 1974 بالاعتراف بقرارى مجلس الأمن الشهيرين 242 و 338، وصولا إلى ما أسمى عرفا بإعلان الاستقلال الفلسطينى والاعتراف بشرعية إسرائيل (!) .
وبوضوح ، فقد لا يصح أن ينسحب ظل الماضى على مستقبل القضية الفلسطينية ، ولا أن يظل الفلسطينيون أسرى لأوهام أوسلو ، وما سبقها وتلاها من ترتيبات مراوغة مهلكة ، كادت تنزع عن الشعب الفلسطينى جوهر قضيته فى التحرير الوطنى ، ونقطة البدء هى الوعى بالعظات ، وتجنب تكرار الخطايا ، فليس صحيحا أن القضية تخسر بالكفاح المسلح كما روجوا ، فالكفاح المسلح هو الذى بلور الهوية الوطنية الجديدة الجامعة للشعب الفلسطينى ، وليس صحيحا أن الشعب الفلسطينى لا يقدر على انتفاضة جديدة ، ولا هو صحيح أن السلام ومفاوضاته هى الطريق ، وأن العمل الدبلوماسى الدولى هو الخيار الوحيد المتبقى ، وهذه أفكار أثبت الواقع الفلسطينى الحاضر بؤسها العظيم ، فهى لا تقود سوى إلى الطرق المسدودة ، التى تستهلك الطاقة وتزور الوجدان ، وما على من بيدهم الأمر الفلسطينى فيما نظن ، سوى أن يتركوا القضية لشعبها على امتداد خرائط تواجده فوق أرضه المحتلة كلها ، وفى خبرة كفاح الشعب الفلسطينى متسع للكثير ، من الانتفاضات الشعبية السلمية ، إلى التعبئة السياسية المنتظمة ، إلى إفساح المجال لأجيال جديدة عفية ، تبدع صيغ الكفاح الشعبى فى كل الأوقات ، وتدرك جدوى الكفاح الديمقراطى ، واستثمار التناقضات فى كيان دولة الاحتلال ، وجدوى الكفاح المسلح فى مواقع وأوقات وعلى خطوط بعينها ، مع الثبات المتصل على الأرض المقدسة ، وتحويل التفوق العددى المتزايد إلى أغلبية فلسطينية كاسحة فى دولة المستقبل المحرر من تحكم الفاشية الصهيونية .
المصدر: القدس العربي