الفيدراليّة اليمنيّة متى وكيف؟

محمد الرميحي

قبل أن ننظر إلى مستقبل اليمن بعد التطورات الأخيرة، علينا أن نستخلص الدروس من الماضي القريب، والماضي القريب في اليمن يمكن أن يُنظر إليه بدءاً من دخول اليمن العصر الحديث والتخلص من الحكم الكهنوتي الإمامي في مطلع ستينات القرن الماضي. بمجرد أن خرج اليمن من عصور الجمود والاستعمار حتى دخل في احتراب مع نفسه على نطاق واسع، كان ذلك بعدما تخلص الجنوب من الحكم الاستعماري واكتملت وحدة “غمارات الجنوب” تحت حكم جمهوري!

ظهرت في اليمن دولتان، واحدة في الجنوب والثانية في الشمال، الأولى ادعت أنها سوف تحقق الاشتراكية والثانية تدافع عن الرأسمالية، وسُفكت دماء في ذلك الشقاق، وفي نهاية الأمر لم تتحقق في الجنوب أي اشتراكية ولا في الشمال أي رأسمالية. شعارات أدت إلى اغتيال ستة رؤساء في الجنوب: قحطان الشعبي، سالم ربيع علي، وعبد الفتاح إسماعيل، وفي الشمال إبراهيم الحمدي، أحمد الغشمي وعلي عبدالله صالح، ذلك غير كبار المسؤولين الذين اغتيلوا في وطنهم أو في خارجه. إنه صراع عبثي على السلطة وأفكار “بيزاريه” في الحكم كمثل قول أحد الزعماء من الجنوب في مذكراته، إنهم حاولوا القيام بالصناعة في الجنوب ففشلت وانقلبوا إلى الزراعة ففشلت، ولكنهم يريدون الآن تحقيق الاشتراكية من خلال قوارب الصيد الصغيرة! يا له من تفكير عبثي وطفولي، يذكرنا بمحاولة الحوثي الحالية إقامة دولة إمامية من جديد!

في الشمال لم يكن الحكم مستقراً، فعلى بعد أميال خارج صنعاء لم تكن الدولة تبسط سيطرتها، وكانت مزرعة تقسيم للمغانم، ورفع شعارات استهلاكية والفقر والفاقة يحيطان بمجمل الشعب اليمني!

السنوات السابقة شهدت أسوأ أشكال الاحتراب والأكثر نكاية باليمنيين ضد اليمنيين، وكان ذلك علامة على فشل النخبة وتصوراتها للحكم، لقد فشلت النخب اليمنية مع الأسف، فها هو مجتمعها على ما هو عليه، اعتقد البعض أنه مجتمع صناعي متقدم وآخرون اعتقدوا أنه مجتمع زراعي متقدم والبعض اعتقدوا أنه مجتمع خدمي متقدم! وعلى هذا الأساس شطحوا في تصور بناء دولة، وأسسوا الأحزاب ذات الجرس الشعاراتي الزاعق، حتى من دون قراءة ما عليه مجتمعهم من تخلف وفقر ومحدودية موارد وانتشار جهل.

التجارة الرائجة في اليمن تتكون من كلمتين: شعارات وسلاح، لذلك فإن الاحتراب المناطقي القبلي والطائفي هو الذي ساد، رغم كل الكلام السائد عن الشعب اليمني، فهذا الشعب لم تتحقق وحدته أو اقتصاده، ومع ذلك كانت الاشتراكية والرأسمالية والإمامية والوحدة وحتى الديموقراطية تُلاك على ألسنة النخب اليمنية وهي لا تعدو أن تكون “كلاماً في كلام”.

محزن إلى حد البكاء ما شاهدناه في الأيام القليلة الماضية من مسرحية تبادل الأسرى بين المجموعات المتحاربة، ومنظر يحزن القلب ويدمع العين وأنت ترى بعضهم تقريباً هياكل عظمية، المفروض أنهم شعب واحد، لا اختلاف في اللباس أو اللهجة ولا في العادات، بل في القبيلة نفسها هناك حوثي وجمهوري، غير أن شهية بعض النخب منفتحة على تفكيك اليمن وبعثرته إلى عدد من “اليمنات”، شمال وجنوب، شرق وغرب.

رغم كل التمنيات الطيبة والآمال العريضة التي تظهر بشائرها هذه الأيام في اليمن، فإن الرهان على سلام وألفة ويمن موحد هو رهان خاسر، لسبب أن النحب اليمنية لم ولا تستطيع أن تتجاوز أنانيتها، ومن يريد أن يعرف فليقرأ ما يكتبه اليمنيون في كل معسكر. فالمعسكر الجمهوري فيه تصدعات وكذلك المعسكر الحوثي، نابعة أساساً من شهوة الاستحواذ والأنانية المفرطة وقصور النظر التي شكلت العمود الرئيسي والسياسي لكل مشكلات اليمن منذ أن دخل العصر الحديث حتى يومنا هذا.

سوف يجد الفرقاء ما يختلفون عليه، وما الهدنة الحالية إلا موقتة، لأن النخب اليمنية لا يمكن أن تكون ضد طبيعتها وهي الشقاق والاختلاف.

ما تقدم قد لا يرضي البعض اليمني، ولكن ذلك البعض هو الذي لا يريد أن يعترف بواقع الحال، والمخرج المقترح هو العودة إلى البناء الاجتماعي السائد في اليمن، لأن إنتاج  الهياكل السياسية السابقة نفسها سوف يقود إلى النتائج نفسها، والمَخرج جَمعُ عدد من وجهاء القبائل والنخب السياسية في مؤتمر وطني شامل من يحضره يوافق مسبقاً على مخرجاته، إن حازت الأغلبية، وتحت إشراف الأمم المتحدة، لبناء فيدرالية يمنية، وللتوافق على نظام جديد ووضع دستور حديث، نظام يتلاءم مع الواقع الاجتماعي/ الاقتصادي/ المناطقي لليمن، وربما من خلال رقابة دولية فعالة يرتضيها اليمنيون، بعيداً من الشعارات التي صخبت بها بعض النخب وهي في الغالب لا تعرف ما يجب أن يكون عليه البلد لتحقيق تلك الشعارات. وعلى النظام الجديد تبني نظام تعليمي حديث تحت إشراف اليونسكو، يخرج أجيالاً بعد عمليات الأدلجة والتضليل التي تمت في السنوات الأخيرة، يُمكن الجيل القادم من التواصل مع العالم الحديث، تلك المهمة الصعبة التي يجب أن يفكر فيها اليمنيون.

سوف يظل اليمن كما كان منذ خروجه من الظلام، هاجساً في خاصرة جيرانه في الشمال أو الشرق، كما سوف يظل مكان تفريخ للتشدد بأشكاله المختلفة إن لم يقدم أهله على بناء هياكل سياسية جديدة ومفارقة القديم، وتلك مهمة اليمنيين وحدهم. فقد أظهر التاريخ الحديث أن من يدخل إصبعه في اليمن لا يأمن أن تُلدغ.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى