قبل 20 عاماً، غزت إدارة جورج دبليو بوش العراق من أجل إطاحة الرئيس صدام حسين والقضاء على أسلحة الدمار الشامل التي أورد مسؤولون إنه يمتلكها. في المقابل، تطلب إقناع الأميركيين بدعم حرب ضد دولة لم تهاجم الولايات المتحدة أبداً، من الإدارة أن تحكي قصة مقنعة عن السبب الذي جعل الحرب ضرورية. ولهذا كانت الإدارة في حاجة إلى الصحافة.
في تلك الفترة، توليت إدارة مكتب “نايت ريدر” في واشنطن العاصمة. وأنيطت بي المسؤولية عن تغطيتنا لأخبار الأمن القومي، إضافة إلى واجبات أخرى كنت أتولاها. ووضعني هذا في صدارة المتابعين زحف واشنطن إلى الحرب ودور الإعلام فيه. وفي الوقت الذي بدأت فيه إدارة بوش تدافع عن مشروعها لغزو العراق، قام عديد من الصحافيين في واشنطن الذين أعمت عيونهم حينذاك حمى الحماسة الوطنية في أعقاب اعتداءات الـ11 من سبتمبر، بترك قصة الحكومة تمر من دون مساءلة. وبدأنا نحن في مكتب “نايت ريدر” في واشنطن، بطرح الأسئلة ونشر القصص الصحافية التي تشكك في مزاعم إدارة بوش بأن العراق امتلك برنامج أسلحة دمار شامل فاعل، ولديه صلات مع تنظيم “القاعدة”. شكلت مصادر التغطية التي تمتلكها “نايت ريدر”، إحدى الأشياء التي ميزتها. إذ استغنت عن [الاستئناس بمعلومات] كبار المسؤولين في واشنطن. وبدلاً من ذلك، التفتت إلى الخبراء والعلماء في “بيلتواي” وخارجها [تضم بيلتواي العالم السياسي والاجتماعي المركزي في واشنطن بمن فيه من مسؤولين وجماعات ضغط]. كذلك أولت “نايت ريدر” اهتماماً متزايداً إلى الموظفين والضباط المبتدئين ممن كانوا أكثر قرباً من المعلومات الاستخبارية المتصلة بتلك الحرب.
كان من شأن نهج من هذا النوع أن يساعد أيضاً صناع السياسة الأميركيين. إن الحربين الفاشلتين في أفغانستان والعراق تبينان ماذا يحدث حينما يتجاهل كبار المسؤولين مرؤوسيهم، أو يجمعون فرقاً خاصة لديهم من المحللين بغرض تأكيد انحيازهم، إضافة إلى إظهار ما يحصل حين يصبح الصحافيون أشبه بمن يشتغلون لديهم [صناع السياسة] كمختزلين أو ناسخين. ولسوء الحظ، بعد مرور 20 عاماً، لا يوجد سوى النزر اليسير من الأدلة التي تظهر أن فرق الصحافيين في واشنطن قد تعلمت هذا الدرس. على العكس، فإن البيئة الإعلامية الكئيبة حالياً لم تفعل شيئاً سوى أنها جعلت الحصول على القصة الصحيحة أشد صعوبة من ذي قبل.
هل هذا صحيح؟
في صباح يوم الـ11 من سبتمبر (أيلول)2001، فيما تصاعد عمود الدخان من مبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عبر نهر “بوتوماك”، سعى مكتب “نايت ريدر” في واشنطن، على غرار منافسينا، إلى التأكد مما كنا جميعاً نشك فيه، وهو أن تنظيم “القاعدة” يقف وراء تلك الهجمات. كنا مجموعة من الصحافيين من أصحاب الخبرة الذين قضوا سنوات في تطوير مصادرهم الصحافية في مجتمع الاستخبارات والجيش. وفي أوقات سابقة، عملت مراسلاً ومحرراً لدى مجلة “نيوز ويك” و”وول ستريت جورنال” و”يو.إس نيوز” و”ورلدريبورت”.
كذلك حازت “نايت ريدر” صحافيين رائعين يتابعان مسائل الأمن القومي، هما جوناثان لانداي ووارن ستروبل، وقد دعما لاحقاً بجو غالاوي الذي يمكن القول إنه كان أعظم مراسل حربي في حقبة فيتنام. ضمت المنظمات الإخبارية الأخرى أيضاً صحافيين لديهم موهبة هائلة، إلى جانب عدد أكبر من الموظفين، وموازنات أضخم وسمعة أفضل، ونطاق أوسع [من نايت ريدر]. ومع هذا، لم يبد أنهم استطاعوا أن يلاحظوا خلال الأيام الأولى التي تلت هجمات التاسع من سبتمبر علامات تدل على وجود خطر، التي بدأ فريق “نايت ريدر” يراها بالفعل.
وقد ظهرت علامة الخطر الأولى في أعقاب أيام قليلة من الاعتداءات [11/9]، حينما عاد ستوربل إلى المكتب وحكى أن مسؤولي إدارة بوش لم يكونوا يتناقشون بشأن أسامة بن لادن زعيم “القاعدة” ومضيفيه في نظام “طالبان” في أفغانستان، بل أيضاً بخصوص العراق. لم يكن ذلك منطقياً. إذ اشتمل تاريخ صدام لجهة دعم الإرهاب على أدلة مثبتة يقل عددها عما تعلق بزعماء ديكتاتوريين على غرار معمر القذافي في ليبيا أو حافظ الأسد في سوريا، ناهيك عن آيات الله في إيران. لقد قدم صدام دعماً محدوداً إلى أبو نضال، وهو أحد أشهر الإرهابيين الفلسطينيين، إلا أنه طرده في عام 1983. وعاد أبو نضال إلى العراق في عام 2002 كي يموت هناك في ظروف غامضة. واعتقد بعض مسؤولي الاستخبارات الأميركية أن صدام قد أمر بقتله في محاولة منه لتجريد الولايات المتحدة من إحدى الذرائع التي قد تكون سبباً للحرب.
وعلى رغم أن بعض كبار المسؤولين في الإدارة شرعوا في محاولة ربط صدام بتنظيم “القاعدة”، إلا أن مرؤوسيهم الأكثر اطلاعاً في مجتمع الاستخبارات ووزارة الخارجية شككوا في الأسباب التي قد تدفع المتطرف السلفي بن لادن، إلى وضع يده في يد صدام حسين، الحاكم العلماني الذي انغمس ورثته، أي ولداه عدي وقصي، في الإسراف بتعاطي الخمر وملاحقة النساء.
وفي الأيام والأسابيع التي تلت الهجمات، ظهرت تحذيرات مبكرة بأن خطأ ما قد حصل. كان من السهل اكتشافه إذا كنت تبحث عنه. لكن قلة من الناس في المراكز العليا من إدارة بوش أو في المؤسسات الإعلامية الرئيسة الأخرى ممن ركبوا موجة الوطنية التي اجتاحت البلاد، بحثت عن هذه التحذيرات.
نحن بحثنا. في الـ22 من سبتمبر، أي بعد وقوع الهجمات بـ11 يوماً، أفاد ستروبل بأن بعض مسؤولي الإدارة والخبراء في خارجها كانوا متشككين في ما إذا كان العراق قد أدى أي دور في تلك الاعتداءات. وفي الـ11 من أكتوبر (تشرين الأول)، نقل ستروبل أنه على رغم ذلك فقد أرسل بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع، جيمس وولسي، المدير السابق في “وكالة الاستخبارات المركزية”، إلى ويلز من أجل البحث عن دليل على أن صدام له صلة بهجوم سابق تعرض له “مركز التجارة العالمي” [نفذته أحد خلايا القاعدة]. ونقل مسؤول أميركي رفيع المستوى إلى ستروبل أن وولفويتز وآخرين في البنتاغون قد “استحوذت عليهم” فكرة أن العراق كان وراء الهجمات.
وفي الشهر نفسه، بدأ مراسلون في واشنطن تولوا تغطية هذه القصة، في تلقي شذرات تثير الشهية من مصدر جديد، أحمد الجلبي، رئيس “المؤتمر الوطني العراقي”، وهو ضمن مجموعة عراقية في المنفى من الواضح أنها متلهفة إلى السيطرة على العراق وثروته النفطية. وقد قابلت الجلبي للمرة الأولى مع صديق في بيت ريفي في “جورجتاون” قبل هجمات الـ11 من سبتمبر، وحينما غادرنا، قلت لصديقي [معبراً عن عدم ثقتي بالجلبي] “إذا أعطاني فكة لربع دولار، لكنت سأعدها”.
آنذاك، قدم لي معسكر الجلبي معلومتين في أكتوبر وأوائل نوفمبر (تشرين الثاني) تلقتا ضربة قاضية على الفور من قبل ضباط الاستخبارات الأميركية الذين تحدثت إليهم. لذلك تجاهلتهما بدلاً من نشر قصة عقيمة من نوع “ذكر / وذكرت”.
وبحسب فريق الجلبي، فقد توجه فاروق حجازي، السفير العراقي لدى تركيا حينذاك والرئيس السابق للاستخبارات العراقية، إلى أفغانستان، والتقى بن لادن، وعرض عليه ملاذاً في العراق. وأوضح اثنان من ضباط الاستخبارات الأميركية أن ذلك القدر من الخبر صحيح، إلا أن القصة لم تنته عند ذلك الحد. فقد أفاد ضابطا الاستخبارات بأن قوة عربية صديقة زرعت عميلاً في معسكر بن لادن. وأفاد هذا العميل بأنه بعد مغادرة حجازي، التفت بن لادن إلى نائبه أيمن الظواهري، وأخبره أنهم لن ينتقلوا إلى العراق، لأنهم إن فعلوا فإن أجندة “القاعدة” ستصبح أجندة لصدام ولن تعود بيدهم هم. وقد عززت القصة الحقيقية اعتقادنا بأن بن لادن وصدام لم يكونا حليفين طبيعيين بأية حال من الأحوال.
وعاد إلي مجدداً معسكر الجلبي الذي لم يرتدع مما حصل، بتقرير مفاده بأن العراق يدير منشأة لتدريب الإرهابيين في منطقة “سلمان باك”، التي تقع على مسافة نحو 15 ميلاً إلى الجنوب من بغداد، مستخدماً هيكل طائرة من أجل تعليم [خاطفين محتملين على] خطف الطائرات. ولدى سؤالهم عن ذلك، أخبرني ضباط استخبارات أميركيون وأجانب، شرط عدم ذكر المصدر، أنهم لطالما راقبوا تلك المنشأة لكنهم لم يجدوا أي دليل على أن إرهابيين أجانب تلقوا التدريب هناك. ورأت هذه المصادر، أن “سلمان باك” احتوت على الأرجح منشأة تدريب على كيفية إحباط محاولات خطف الطائرات. وحينما تساءلت، ممن يخاف العراقيون أن يحاول خطف إحدى طائراتهم، أجاب أحد الضباط “أوه، من أسامة [بن لادن] في الغالب”.
بالتالي، قررت عدم كتابة أي شيء عن منشأة التدريب المفترضة تلك، ولا حتى عن القصة التي وجهت إليها ضربة قاضية. لم يكن من المنطقي نشر قصة من شأنها أن تبث الأكاذيب [حول موضوع يجري بشأنه] نقاش عام. وقد نشرت وسائل الإعلام الأخرى، بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز”، تلك القصة الإخبارية.
بعد ذلك، واصلت الإدارة الأميركية، وبعض المنابر الإخبارية الرئيسة، الاعتماد على معلومات وردتها من الجلبي الذي انتقل على نحو ماكر من افتراض وجود علاقة بين العراق وتنظيم “القاعدة” إلى تقديم معلومات استخبارية مشكوك في مدى صحتها حول برامج أسلحة الدمار الشامل المزعومة لدى صدام. وفي الغالب، وفر الجلبي المعلومات ذاتها للبنتاغون والصحافة، الأمر الذي جعل بعض الصحافيين يعتقدون أن لديهم مصدرين في وقت كان لديهم في الحقيقة مصدر واحد. وفي وقت لاحق، كشف لانداي وزميلته تيش ويلز التي عملت آنذاك باحثة في المكتب، عن مدى نجاح “المؤتمر الوطني العراقي” في جعل المنابر الإخبارية الرئيسة تنشر معلومات استخبارية زائفة.
ومع حلول أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر (كانون الأول) عام 2001، كان ضباط الجيش والاستخبارات الأميركيون في أفغانستان، إلى جانب أولئك الذين يدعمونهم في قيادة العمليات الخاصة الأميركية في “تامبا”، بولاية فلوريدا، يسألونني بشكل غير رسمي عن سبب تعمد المسؤولين في واشنطن تحويل الموارد المخصصة لجهودهم [في أفغانستان كي تصرف على العراق]. وفي 13 فبراير (شباط)، كتبت أنا وستروبل قصة إخبارية أجابت على تساؤلاتهم. وقد جاء فيها أن “مسؤولاً أميركياً رفيع المستوى ذكر يوم الثلاثاء أن الرئيس بوش قرر إطاحة الزعيم العراقي صدام حسين وأصدر أوامر إلى وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات أخرى لوضع منظومة من الخطوات العسكرية والدبلوماسية والسرية [اللازمة] من أجل تحقيق هذا الهدف”.
خلال الشطر الأكبر من عام 2002 وأوائل عام 2003، تمثلت مهمة العلاقات العامة الرئيسة لإدارة بوش في الترويج للحرب. وتقبلت مؤسسات إخبارية كثيرة ما أوردته الإدارة في إطار هذا الترويج. ومع ذلك، جردت التقارير الأساسية بعض العروض الترويجية للبضاعة التي كانت الإدارة تبيعها، من صدقيتها، لكنها فشلت في وضع حد نهائي لها. وفي السادس من سبتمبر من عام 2002، أفاد لانداي بأن بعض المسؤولين الأميركيين شعروا بالقلق بسبب الافتقار إلى أدلة دامغة على وجود أسلحة دمار شامل عراقية. ونقل مسؤول استخباري أميركي إلى لانداي أنه “لا توجد معلومات استخبارية جديدة تشير إلى أن العراقيين قد حققوا تقدماً كبيراً في برامج أسلحتهم النووية أو البيولوجية أو الكيماوية”.
في خطوة تالية، جرى تسريب ادعاء إدارة بوش بأن العراق طلب شراء أنابيب ألمنيوم من أجل تخصيب اليورانيوم، بشكل ملائم إلى صحيفة “نيويورك تايمز”، مما أتاح لمسؤولي إدارة بوش إجراء مناقشة علنية لمعلومات يمكن اعتبارها سرية. بيد أن تلك القصة لم تنج. وسرعان ما انكشفت بواسطة إجراء بسيط للتأكد من الحقائق، نهض به لانداي. فقد اتصل بخبراء في “مختبر أوك ريدج” الوطني بولاية تينيسي التابع لوزارة الطاقة. وأخبروه أنه لا يمكن استخدام تلك الأنابيب في تخصيب اليورانيوم.
بعد أربعة أيام، أفاد ستروبل بأن لدى بعض مسؤولي الإدارة مخاوف بشأن سياسة بوش تجاه العراق. وفي الـ24 من أكتوبر 2002، كشف لانداي وستروبل عن العداوة الموجودة بين متشددين في الإدارة عازمين على إطاحة صدام من جهة، وبين محترفي الاستخبارات وخبرائها في “وكالة الاستخبارات المركزية” ووزارة الخارجية ووكالات أخرى الذين لا يثقون بالمعلومات الواردة من الجلبي ورفاقه، من جهة أخرى.
واتصالاً بذلك، فإن غالاوي الذي حصل على وسام النجمة البرونزية لمجازفته بحياته أثناء محاولة إنقاذ جندي أميركي جريح في فيتنام عام 1965 وبوسعه الوصول إلى كبار المسؤولين العسكريين على نحو لا مثيل له، أسهم في تحضير عديد من تلك القصص، لكننا أبقينا اسمه بعيداً ولم نذكره في معظمها، لأن صداقاته معروفة. ومع ذلك، فقد غضب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد من تقارير غالاوي إلى درجة أنه استدعاه من أجل عقد اجتماع وجهاً لوجه في مكتبه داخل البنتاغون. حينما وصل غالاوي إلى هناك، استدعى رامسفيلد تعزيزات [أي أنه استدعى خبراء عسكريين بغية دعم موقفه]. واتهم غالاوي بالاعتماد على جنرالات متقاعدين اتخذهم مصادر له. رد غالاوي بأن عديدين من مصادره ما زالوا في الخدمة الفعلية. ثم أضاف، “اللعنة. قد يكون بعضهم في هذه الغرفة”. حينما عدنا إلى مكتبنا، سألته أنا ولانداي وستروبل عما إذا كان ذلك هذا صحيحاً أجاب غالاوي “لا”. وأردف “لكن، كان من الممتع مراقبتهم وهم يتعرقون”.
ربما كانت تقاريرنا تزعج المسؤولين، لكنها لم تبطء زحف الإدارة إلى الحرب. حتى أن بعض صحف “نايت ريدر” تجاهلت التقارير التي كان يعدها مكتبهم في واشنطن. وبدلاً من ذلك، نشروا قصص “نيويورك تايمز” (التي اعترفت الصحيفة لاحقاً بأنها خاطئة). ووصل الأمر إلى حد أن رئيس تحرير إحدى صحف “نايت رايدر” المحلية المعروفة، كلف مراسلين فيها أن يتحروا إذا كان ما نكتبه دقيقاً لأن “تايمز” و”واشنطن بوست” لم تنشرا تقارير عن تلك الأشياء نفسها [التي نكتب عنها].
لم تردعنا تلك القرارات المحلية المشروعة بعدم نشر تغطيتنا، أو جراء قرار إدارة بوش تجاهل قصصنا بدلاً من لفت الانتباه إليها عبر الاعتراض عليها. وواصلنا إعداد تقاريرنا. بعد كل شيء، لم نسع أبداً إلى التأثير في سياسة الولايات المتحدة، ولا استهدفنا عرقلة سير التخطيط للغزو، بل سعينا بأفضل الطرق الممكنة إلى مجرد إثارة النقاش داخل الحكومة.
حينما بدأ الغزو، في مارس 2003، لم يطبق سوى قليل من الخطة الموضوعة سلفاً. فوجئ كثيرون في الإدارة ووسائل الإعلام. وفي المقابل، لم نتفاجأ، أنا ولانداي وستروبل وغالاوي. في عام 2004، أفاد لانداي وويلز وآخرون في فريقنا بأنه لم يكن هناك تخطيط مناسب لمرحلة ما بعد الحرب.
خارج الفقاعة
آنذاك، تمثل ما ميز مكتب “نايت ريدر” في واشنطن عن نظرائه في الفرق الصحافية هناك، ببعده عن السلطة والسياسة. لقد عمل فريق “نايت ريدر” في واشنطن مع الصحف اليومية في جميع أنحاء الولايات المتحدة. لم يكن قراؤنا في واشنطن ونيويورك، بل كانوا منتشرين في أنحاء البلاد كافة من أنكوريج وألاسكا، إلى ميامي وفلوريدا. والأهم من ذلك، أن صحف “نايت ريدر” كانت تصل إلى حوالى 30 مجتمعاً عسكرياً، بما في ذلك “بينينغ فورت” و”فورت براغ” و”فورت لويس” و”فورت رايلي” و”غراند فوركس” وقواعد شو للقوى الجوية”. لقد خاطبت ذات مرة الموظفين في اجتماع عام مشيراً إلى أننا “لسنا صحيفة نيويورك تايمز. ونحن لسنا صحيفة واشنطن بوست. نحن لسنا سي بي إس أو أ بي سي أو سي إن إن. نحن نعد تقارير عن الأشخاص الذين أرسل أولادهم وبناتهم وأزواجهن وزوجاتهم إلى الحرب، وليس من أجل الأشخاص الذين أرسلوهم”.
وكنتيجة طبيعية لذلك، لم نعتبر أنفسنا جزءاً من نخبة واشنطن، ولم نتق إلى الارتقاء من مرتبة الصحافة لنصبح بمثابة منادي البلدة الذي يصرخ لمصلحة كهنتها ممن يحتلون المرتبة العليا. امتلك كل أفراد الفريق الصحافي الذي يتابع الـ11 من سبتمبر علاقات جيدة بأشخاص نافذين، لكن لانداي وستروبلو غالاوي لم يروا حاجة إلى تملق أي أحد، سواء من كبار المسؤولين في البنتاغون، أو مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، أو في أي مكان آخر، ولننس مسألة الاعتماد عليهم. لقد أمضوا جل وقتهم في محاولة كسب ثقة الناس الأكثر تواضعاً وبعداً من السياسة. وسرت نكتة دائمة عن الفترة الزمنية التي كنت أقضيها في مقابلة مصادر لم تذكر أسماؤها في الممرات المخصصة للطلاء في “متجر لوي” أو “كراكر بارل” في ماناساس بولاية فيرجينيا، بدلاً من حفلات السفارات في واشنطن.
وأخيراً، وربما كان ذلك هو الأهم، حصلنا على الدعم الثابت من رؤسائنا، أي توني ريدر، الرئيس التنفيذي لشركة “نايت ريدر”، والراحل جيري سيبوس نائب رئيس الأخبار، وكلارك هويت، رئيس التحرير في واشنطن والمشرف المباشر علي. بعد ذلك بوقت قصير، علمت أن معلنين اتصلوا مع ريدر وطلبوا منه إخبارهم متى ستظهر أحدث سلسلة من المقالات “غير الوطنية” كي يتمكنوا من سحب إعلاناتهم. أخبرهم أنهم سيرون ذلك في الوقت الذي سيشاهدها هو، أي حينما تصل إلى أكشاك بيع الصحف.
هذه المدينة
بعد ظهور تقاريرنا عن مدى نجاح “المؤتمر الوطني العراقي” في دس القصص الإخبارية، أصدرت الصحف التي أخطأت في تعاملها مع غزو العراق تصحيحات واعتذارات، وكذلك تراجعت عن بعض ما أوردته. ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تصحيحاتها واعتذاراتها في الصفحة 10 من عددها الصادر في 26 مايو (أيار) 2004. في المقابل، لا يتوفر سوى أدلة قليلة على حدوث كثير من التغيير في ثقافة واشنطن أو طريقة إجراء التغطيات الصحافية. ولا يزال بعض أعضاء إدارة بوش يرفضون الاعتراف بأخطائهم. في الواقع، لقد جرى تجاهل أحد الدروس الرئيسة المستخلصة من غزو العراق أو نسيانه، وهو ذلك الذي يبرهن على أهمية الاستماع إلى الخبراء بدلاً من الاكتفاء بالإصغاء إلى ما تريد سماعه وتجاهل البقية.
استطراداً، تجلت تلك الأمور كلها حينما سارعت إدارة بايدن إلى سحب آخر القوات والمقاولين الأميركيين من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021. ومرة أخرى، تفاجأ البيت الأبيض، وكثيرين من أعضاء الكونغرس، ووسائل الإعلام بما جرى. هذه المرة، تمثل سبب المفاجأة بالانهيار السريع للحكومة الأفغانية المدعومة من قبل الولايات المتحدة وقوات الأمن، الأمر الذي ترك عشرات آلاف من الحلفاء الأفغان وعائلاتهم عالقين هناك وقد تقطعت بهم السبل.
ومرة أخرى أيضاً، تجاهل المسؤولون الأشخاص الموجودين على الأرض واتخذوا قرارات مستمدة من السياسات المحلية أكثر من استنادها إلى الخبرات المهنية والمباشرة. كانت حماقة مهمة بناء الدولة الأميركية في أفغانستان واضحة بالنسبة إلى ضباط الجيش الأميركيين قبل عقدين من الزمن، حينما شرعوا في محاولة تعليم نظرائهم الأفغان كيفية الطيران، وقيادة السيارة، وصيانة المعدات العسكرية الأميركية. وبحسب ما أخبرني أحد ضباط القوات الجوية الأميركية في عام 2005، فإنه “من الصعب تعليم الناس كيفية الطيران حينما تكتشف أنهم لا يستطيعون القراءة”.
في أوائل يونيو (تموز) 2021، أي قبل شهرين من انسحاب بايدن السريع من أفغانستان، كتبت أنه “على رغم المحادثات والاجتماعات بين الوكالات التي استغرقت أشهراً، لم يتخذ مسؤولو البيت الأبيض أي قرارات بشأن كيفية إخراج عشرات الآلاف من الأفغان الذين دعموا الجهود الدولية لإقامة ديمقراطية تتمتع بالاستقرار في كابول، وإيصالهم إلى حيث ينعمون بالأمان. يرى بعض المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين أن الوقت قد فات بالفعل على منع وقوع كارثة إنسانية وسياسية. على رغم أن الإدارة ضاعفت جهودها لإصدار تأشيرات الهجرة الخاصة لـ18000 أفغاني تقدموا بطلبات للحصول عليها، إلا أن المسؤولين العسكريين يحذرون سراً من أن انهيار حكومة أشرف غني قد يعرض للخطر ثلاثة أضعاف هذا العدد من الأشخاص، وربما يصل إلى 150 ألف أفغاني”. وقد عرضت المقالة التي كتبتها بما فيه هذا التقييم الكئيب، على عدد من المطبوعات، لكن لم يرغب أحد في نشرها.
واليوم، تبذل جهود جديرة بالثناء لتعزيز التقارير الاستقصائية الأساسية وتهدئة السعي المحموم المتزايد من أجل لفت الانتباه، الذي غالباً ما يتخذ [أي السعي] شكل تسريبات رسمية وقصص مثيرة توصف بأنها “سبق صحافي” تشد الانتباه ثم لا تلبث أن تخبو في فترة باتت تقاس الآن بالثواني. على أية حال، فإن أحدث فورة من الرئيس السابق دونالد ترامب أو النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين من جورجيا، مهما كانت سخيفة، وكذلك آخر الإشاعات عن هاري وميغان، بوسعها أن تجذب الجمهور بشكل مضمون.
وبشكل متزايد، تستمر بعض الصحف والمجلات، بما في ذلك “نيويورك تايمز”، بـأداء أعمال تستحق الثناء، بالشراكة مع جماعات متخصصة في إعداد التقارير الاستقصائية على غرار “برو بابليك” والمراسلين ورؤساء التحرير الاستقصائيين الذي لا يعملون من أجل الربح. وفي الوقت نفسه، إن عمل الصحافة في البلاد آخذ في الانكماش، والأكثر أهمية مما عداه أن هذا الانكماش يحصل على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
لقد أوفدت إلى واشنطن عام 1975 كمراسل مبتدئ في مكتب “بيرغن ريكورد” الذي تألف فريقه من شخصين. هذا الشهر، سرحت سلسلة “غاننت” جوناثان سالانت، آخر مراسل لمكتبها في نيوجرسي، يعمل في عاصمة البلاد. وبالنسبة إلى أولئك الذين يتساءلون أين ذهبت مؤسسة “نايت ريدر”، أوضح أن شركة “ماك كلاتشي” اشترت “نايت ريدر” في عام 2006، وأعلنت إفلاسها في عام 2020، ثم اشتراها صندوق التحوط “شاتهام أست مانجمانت” Chatham Asset Management في وقت لاحق من ذلك العام. يتوفر أرشيف لقصص “نايت ريدر” في العراق ويمكن الاطلاع عليها لقاء رسم معين.
إضافة إلى تآكل ثقة الجمهور في وسائل الإعلام، فإن انخفاض عدد المراسلين المحليين الذين يغطون أعمال الحكومة الأميركية يحرم المراسلين الشباب من فرصة العمل في أفضل الأماكن للتعلم. كذلك يؤدي ذلك الأمر نفسه إلى تجريد المحاربين القدامى من أفضل الأماكن لتعليم ذلك الدرس الأساسي المستخلص من أفغانستان والعراق، ومفاده بأنه إذا سعيت إلى معرفة حال الجريمة المحلية، فاسأل السكان ورجال الشرطة العاديين الذين يعملون في الدوريات على الأرض، وليس قائد الشرطة أو رئيس البلدية.
* جون والكوت أستاذ مساعد في “كلية الخدمة الخارجية” بجامعة جورج تاون. ترأس مكتب “نايت ريدر” في واشنطن العاصمة وثمانية مكاتب دولية بين عامي 2002 و2009.
فورين أفيرز مارس (آذار) / أبريل (نيسان) 2023
المصدر: اندبندنت عربية