غالبية منّا قرأت رواية “القوقعة” للمعتقل السياسي مصطفى خليفة. تأثرنا بها وربما بكينا بسبب مشاهدها، وهذه هي الاستجابة الطبيعية لأي إنسان طبيعي.
لقد قرأت أنا وأصدقائي العلويون رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة، وتأثرنا بها كثيراً، لا بل اندمجنا في سطورها وانغمسنا في أحداثها، فأصبحنا ننظر إلى السقف فنرى “الشرّاقة” التي يقف فوقها الشرطي، حتى أن البعض من أصدقائي صارحوني بأنهم شعروا بحالة من الحنين إلى تفاصيل السجن والثقب الذي كان ينظر منه المعتقل إلى الخارج خلسةً: “لقد اندمجتُ في دهاليز السجن حتى أحسست بمشاعر الفقد بعد انتهاء القراءة”.
قراءتنا للراوية، وكلامنا عنها هنا، في بعض خلفيته شعور بأن هويّتنا العلوية لا تعني انتماءنا إلى الصورة النمطية التي أُلصِقت بالطائفة عموماً. هذه الصورة، لا يستطيع أحد إنكار وجودها طبعاً، لكن في الوقت نفسه من الخطأ تعميمها أو صبغها على جميع أبناء الطائفة أو أغلبيتها، كما لا يمكن تعميم داعش والنصرة على جميع أبناء الطائفة السنية.
السجن هو المختبر
السجن هو أداة مهمة بيد النظام، وهي بمثابة مختبرات عملية يتم فيها التجريب والتطبيق على المساجين
تقوم الدولة البوليسية على ممارسات قمعية صارمة تتحكم من خلالها بمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وتتدخل في توجهات مواطنيها الروحية والدينية والعقائدية، وتستخدم لأجل ذلك مجموعةً من الأدوات أهمها الميليشيات المقنّعة التي تتمتع بتسهيلات كبيرة من جهة الحكومة، في حين تتبرأ الأخيرة من انتهاكات الميليشيات في الإعلام، وهي التي تخدم مصالحها في النهاية.
بالإضافة إلى الميليشيات، تولي الدولة البوليسية اهتماماً كبيراً ببناء المعتقلات والسجون، وتزج فيها كلّ من يتجرّأ على النقد أو الاعتراض، لتحتجزهم وتبعدهم عن الساحة السياسية، بحججٍ جاهزة، مثل: تهديد الأمن القومي، أو التآمر مع الخارج، أو النيل من هيبة الدولة، ويرى بعض الباحثين أنّ السجن هو اليد الطولى لأيّ نظامٍ شمولي أو دولة بوليسية، فهو يُخضع المحتجزين من جهة، ويبث الرعب في المجتمع من جهةٍ أخرى، أي أنه عملية إخضاع مزدوجة لمن هم داخل المعتقل وخارجه.
يقول جابر بكر، وهو سجين ومعتقلٌ سابق وباحث في شؤون السجون السورية، في أحد لقاءاته على بودكاست “طق طق”، مع عمار دبا، إنّ “السجن هو أداة مهمة بيد النظام، وهي بمثابة مختبرات عملية يتم فيها التجريب والتطبيق على المساجين ودراسة تفاعلاتهم واستجاباتهم وردود أفعالهم على المديَين القصير والبعيد، ليعود ويطبقها على الناس في الحياة العامة. النظام ينظر إلى السوريين على أنهم أعداء ومساجين”.
لماذا يصعب تقبّل الآخر كما هو؟ شاركونا آلامكم (أو تجاربكم) إن كنتم قد تعرضتم لرفض ما، من أي نوع. شاركونا بما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.
ويضيف: “النظام كان يتوقع (بطريقةٍ أو بأخرى)، حدوث انفجار شعبيّ سنة 2011، استناداً إلى تجاربه في السجن، من هنا يكتسب السجن أهميةً في الدراسة. فلكي تعطّل الآلة عن العمل، يجب عليك أن تفهم طريقة عملها”.
لقد ذكّرني “أبو سعد” بعمّتي “أم علي“
محمد حسن (اسم مستعار)، والذي يبلغ من العمر 30 عاماً، وحيدٌ عند أهله، تخرّج من كلية التربية الرياضية في جامعة تشرين في اللاذقية، وفي أوقات فراغه وخلال عمله في متجره الصغير عند أطراف المدينة، قرأ الرواية، وأبدى إعجابه واهتمامه الكبير بها وبشخصياتها، فـ”هؤلاء السجناء في تدمر يمثلون عموم أبناء الطائفة العلوية المسجونين من قبل السلطة، وفئةً من المنتفعين المرتبطين بها…”، يقول.
ويضيف: “لا يوجد مشهدٌ يعبّر عن ذلك أكثر من مشهد ‘أبو سعد’، الأب المفجوع بأولاده الثلاثة الذين حُكموا بالإعدام مع بعضهم، وقد سُجن الأب بعد رفض توسلاته للإبقاء على ولده الأصغر (سعد)، لأنه لم يذُق بعد طعم الحياة، ولم يتزوج ولم ينجب، وهكذا نحن سُجنّا وعُذّبنا في هذه الحياة، ولم نذُق بعد طعمها”.
يتابع محمد، وتبدو عليه علامات التأثّر: “لقد ذكّرني أبو سعد بعمتي ‘أم علي’ السبعينية المتزوجة في إحدى قرى حمص البعيدة، والتي خسرت أولادها الخمسة خلال أدائهم الخدمة العسكرية الإلزامية. وقفت عمتي في جنازة ابنها الخامس والأخير، وهي تلبس بزّةً عسكريةً وترقص وتزغرد وتبكي وتنوح ‘سكابا يا دموع العين سكابا على حسون، أغلى هالحبابا…’، ثم تنفعل فجأةً ‘حسون ما مات، هوي نايم نايم، شبكن، فوراً بتصدقوا’. كانت تغني لوعةً وليس فخراً. لوعة وحرقة أفقدتاها توازنها العقلي مثلها مثل أبي سعد عندما سيق مع أولاده الثلاثة إلى المقصلة ليُقتلوا أمام عينيه. حالتان متشابهتان جداً: أب ملتاع وأم مكلومة”.
“نواح عمتي أم علي ليس إلا صدى تمتمة أبو سعد وبكائه وهذيانه وهيجانه، في مهجع السجن الصحراوي. الحالتان لا خيار للإنسان فيهما، فأبو سعد تم اقتياده إلى السجن مع أبنائه لا حول لهم ولا قوة، وكذلك عمتي. ولو رفض أولادها أداء الخدمة الإلزامية لسيقوا مجبرين إلى ساحة المعركة، أو ربما ذهبوا وقد أعماهم الجهل والأدلجة والبرمجة منذ نعومة أظفارهم، وربما الخوف الذي عاشته الطائفة على مرّ سنوات سحيقة من التنكيل والاضطهاد، لكنها لا تبرر بالطبع ما ارتكبته فئة منهم”.
متى سيعرف النظام أنّ السجون لا تتسع لجميع السوريين؟
تقول منظمة العفو الدولية في تقرير لها في شباط/ فبراير 2017: “إنّ سجن صيدنايا هو المكان الذي تذبح الحكومة السورية شعبها فيه. كل أسبوع، يتم اقتياد 20 إلى 50 شخصاً من زنزاناتهم من أجل شنقهم في منتصف الليل. نحو 13 ألف شخص قُتلوا في سجن صيدنايا منذ عام 2011، بسرّية تامة. وقُتل آخرون في صيدنايا بعد أن تعرضوا للتعذيب بشكل مستمر ومنهجي، وحُرموا من الطعام والماء والأدوية والرعاية الطبية. تُحمّل جثث القتلى في صيدنايا في شاحنات نقل وتُدفن في مقابر جماعية. ومن غير المعقول أن تطبَّق هذه الممارسات على نطاق واسع، وبشكل منهجي، من دون الحصول على إذن من أعلى المستويات في الحكومة السورية”.
البلد كلّه عبارة عن سجن كبير
يقول سراج حسين (46 عاماً)، وهو اسم مستعار لأستاذ فلسفة في إحدى مدارس الساحل السوري النائية: “البلد كله عبارة عن سجن كبير، وعلى مدى 50 عاماً كان كل ما ينشر، أو يدخل إليه، من كتب أو منشورات أو مجلات، تابعاً لجهة واحدة، الأمر الذي قسم السوريين إلى فئتين من الناس؛ الأولى اقتنعت بما يُنشر أو بما يُسمح بنشره، والثانية ظلّت متعطشةً إلى المعرفة والأفكار الجديدة برغم الرقابة والمنع، وتقول بعض التقديرات إنّ عدد المتطوعين في الأجهزة الأمنية السورية تجاوز المليون قبل الحرب، ما يؤكد على ضخامة الرقابة وكثافتها، والتي لا ينقص إلا أن تعدّ أنفاس المواطنين ودقات قلوبهم، ولو نسبنا عدد المساجين في سجن تدمر الصحراوي إلى عدد السجّانين، وقارناه بنسبة عدد السكان في سوريا إلى عدد العاملين في الأجهزة الأمنية، لربما كانت النسبة متقاربةً إلى حد كبير”.
ويتابع: “في رواية ‘القوقعة’، يسرد الكاتب استنفار جميع المساجين لجلب قطعةٍ من جريدة علقت في الشراقة، أثارت تلك القطعة جوع المعرفة، جوع الأخبار الجديدة، جوع السوريين إلى المعارف، لقد حققوا انتصاراً على سجانيهم لأنهم لا يزالون فضوليين تجاه الأشياء الجديدة. رغم كل شيء، لم ينجح السجن في قتل فضولهم”.
روز سليمان (اسم مستعار، 33 عاماً)، خريجة هندسة اتصالات، وتعمل في أحد المتاجر التي تُعنى بالأجهزة الإلكترونية في مدينة طرطوس الساحلية، تقول بعد قراءتها رواية “القوقعة”، إنّ حادثة ذهاب أم السجين إلى بيت أم مدير السجن في القرداحة، ومعها كيلوغرام من الذهب مقابل ورقة صغيرة تسمح لحاملها بلقاء ابنه المسجون في السجن الصحراوي، لم تُذكّرها سوى بما كان يدفعه أخوها الذي يؤدي الخدمة الإلزامية في ريف دير الزور، حيث كان يدفع نقوداً أو “بيدون زيت” (أي قرابة 20 ليتراً من زيت الزيتون)، فتقول: “بيدون زيت لقاء كل إجازة يأتي فيها أخي لرؤية أهله مرةً كل 45 يوماً. دون ذلك لن يستطيع رؤيتنا. عشرون لتراً من الزيت هي ثروة أهلي الوحيدة التي يجمعونها من الأغصان العالية بأيديهم المتعبة والمتشققة، ثم يعصرون حبات الزيتون المضرجة بعرقهم ودمائهم لإخراج هذا الزيت، لربما دفعنا على مدار خدمة أخي العسكرية التي استمرت تسع سنوات ما يقارب كيلوغراماً من الذهب”.
اعتُقل 75،000 مواطن سوري على يد القوات الأمنية، وأصبحوا الآن في عداد المفقودين
“السجن واحد والسجّان واحد والضريبة ذاتها”، تختم روز باكيةً.
الجرائم المدفوعة بشحنات طائفية
يقول ياسر (49 عاماً) -فضّلنا عدم ذكر اسمه الكامل- وهو علوي المولد، درس الفلسفة في فرنسا: “لقد قرأتُ رواية مصطفى خليفة، وتعاطفتُ معه ومع زملائه إنسانياً وعاطفياً، ولم أستطع إخفاء الكآبة التي خنقتني وأنا أقرأ سطور الرواية، برغم إصرار بطل الرواية على أن يجد الأمل والمعنى من حين إلى آخر لكي يتشبث بآخر خيوط الحياة. كل ما كتبه خليفة كان واقعياً جداً حتى ما ذكره بخصوص الحقد الطائفي”.
لكن لياسر وجهة نظره تجاه مصطلح “الحقد الطائفي”، فـ”الجرائم المدفوعة بشحنات أو مشاعر طائفية هي أفعال لا أخلاقية بالضرورة، وأتفق مع مقولة “الجهل أصل كل الشرور”، لذلك فإنّ الإنسان الطائفي وفق المصطلح الشائع- هو إنسانٌ سيئ وشرير على أبناء الطوائف الأخرى، ولكنه أيضاً يقوم بأفعالٍ لا أخلاقية تجاه أبناء طائفته وأهل مدينته وقريته، وأحياناً مع زوجته وأطفاله. لا أعتقد أنّ في مقدور الإنسان أن يكون انتقائياً في أذية فئة من الناس دون غيرها، وإن نجح في ذلك فمن الصعب أن يستمر فترةً طويلةً”.
يروي: “أعرف الكثير من الأشخاص الطائفيين المشحونين الذين أسكن معهم في الحي نفسه، لقد كانوا يرمون النفايات في أرضي، ومنهم من يربّي أغنامه في غرفة تكاد تكون ملاصقةً لغرفة نومي، ويخنقنا بالرائحة ويزعجنا بأصواتها. ذات مرة أخبرته بأنني سأضطر إلى الشكوى إن استمر في إصراره على عدم تبديل غرفة تربية أغنامه، فهددني بأقاربه في الأمن… وتوجد أمثلة كثيرة لضباط علويين يسرقون طعام العساكر في الجيش، ولا يطعمونهم سوى ما يسدّ رمق يومهم مع أنّ جلهم من أبناء طائفتهم، وعندما يقوم بالاعتداء على الطوائف الأخرى يوصف بالطائفي”.
ويضيف: “لا أعتقد أنّ هذا التوصيف منطقي، لا بل يؤثر بشكل سلبي على الأزمة السورية ويذكي نيرانها ويؤجج الصراعات التي أحرقتنا جميعاً، بالطبع لا أستطيع لوم الكاتب على ما كتبه في روايته، ولا أستطيع إلزام عامة الناس بمثل هذا التفكير، ولكن من المفيد أن تتنبّه النخبة إلى مثل هذه التفاصيل، عسانا نصل إلى بناء أجيال جديدة تحمل أقل قدرٍ ممكنٍ من الأحقاد والمشاعر الطائفية”.
وبحسب منظمة العفو الدولية، فقد أُعدم 5،000 إلى 13،000 شخص في سجن صيدنايا بين عامي 2011 و2015، واعتُقل 75،000 مواطن سوري على يد القوات الأمنية، وأصبحوا الآن في عداد المفقودين، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الانسان، وتم إجبار أكثر من 11 مليون شخصٍ على ترك منازلهم منذ آذار/ مارس 2011.
مساجين الرواية مثل أبناء طائفتي
صديقنا مجد (29 عاماً)، وهو طبيب مقيم، وفي السنوات الأخيرة من اختصاص جراحه القلب، يقول إن “حادثة الطبيب الذي كان يتسبب في قتل زملائه بناءً على أحقادٍ شخصية، لاحظها هو خلال سنوات الدراسة في كلية الطب البشري، حيث كانت الهيئات الإدارية المكونة من الطلاب تُختار بعناية من المنتمين إلى الحزب الحاكم، فيقوم هؤلاء بكتابة التقارير بزملائهم وقد استُدعي بعض زملائي إلى جهات أمنية برغم انتمائهم إلى الطائفة العلوية، وكانت اللهجة متطابقةً بين رجال الأمن وعضوين من الهيئة: ‘أنتم شباب أول عمركم حرام تضيّعوا مستقبلكم، في ناس فاتت ع الحبس ما طلعت منه، ديروا بالكم على حالكم’، عرفنا حينها أنّ من بين زملائنا الطلاب الذين سيكونون أطباء المستقبل من يترصد كلماتنا ويعدّ أنفاسنا، وتأكدنا أن هنالك من لا يميّز بين الطوائف؛ المهم هو أن نسير على ‘الصراط المستقيم’ الذي يرسمونه لنا”.
ويضيف: “لا أشبّه المساجين في الرواية سوى بأبناء طائفتي العلويين، الذين سُجنوا وحوصروا بين سلطةٍ تستغلهم وتتاجر بهم، وتستثمر في خوفهم ورعبهم من مجازر السلطان سليم، وتسجنهم بين خيارين: إما الدفاع عن سلطة لا تمثّلهم أو الموت بين يدَي داعش”.
برأيه، وبالرغم من أنّ كل طوائف الشعب السوري تعيش في ظروفٍ مشابهةٍ للظروف والقوانين التي وصفها خليفة، لكنّ ما يجعل الطائفة العلوية مسجونةً أكثر، هو أنّ “ليس لها أي أحدٍ يسأل عنها خارج حدود السجن، إذ لا أهل لها خارجه ليدفعوا كيلوغراماً من الذهب لأمّ مدير السجن”.
يقول الكاتب السوري بسام يوسف، وهو من مواليد العام 1961، ومن أبناء الطائفة العلوية، ومعتقلٌ سابق لمدة عشر سنوات من 1987 إلى 1997 بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي: “كان أفراد الشرطة يتسلّون بالمعتقلين، ويوقظونهم عند الساعة الثالثة فجراً، فقط كي يتسلوا بهم. لا يقتصر وجود هذه الحالة على السجن، فهي موجودة في الجيش، حيث يوقظون المجنّدين الأغرار كي يتسلّوا بهم فيخلعون عنهم ثيابهم وينزلونهم في بركة الماء عراةً حفاةً. هذا هو النظام السوري”.
“نحن السوريين لم نسرد كل شيء عن وجعنا، وإنما سردنا جزءاً بسيطاً جداً. سيحكي السوريون كثيراً، عن سجنهم وغربتهم وكل العذابات التي لاقوها، أتمنى مني ومن غيري ممن خرجوا من السجون أن نهتم كثيراً بقضاياها، لأن السجون السورية شيء لا يُصدَّق ورعب لا يُصدَّق، وكل الذي عشناه لا يعادل نسبة 1 في المئة من الذي يعيشه السجناء السوريون الآخرون في سجون هذه الطغمة”، والكلام ليوسف.
المصدر: رصيف 22