لا يمكن أن تمرّ الذكرى السنوية العشرون للغزو الأميركي للعراق، وسقوط بغداد، مرور الكرام، باعتباره حدثا تاريخيا مضى وانقضى، مع استمرار آثاره وتداعياته الكارثية على العراق والمنطقة العربية. لعقود عديدة مقبلة، وإلى أن ينصلح شأن العراق والمشرق العربي، سوف يُذكر الغزو الأميركي للعراق، إلى جانب اغتصاب فلسطين، باعتباره من أسوأ الكوارث التي حلّت بالمنطقة العربية في العصر الحديث، لا بل يذهب بعضهم إلى قرن أهميته وتداعياته بسقوط بغداد على يد المغول عام 1258، باعتباره نقطة فاصلة بين مرحلتين، مع فارق أن اجتياح بغداد الأول صار على يد قبائل همجية دمّرت معالم واحدة مع أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية، في حين تم تدمير العراق وتفكيك أوصاله في الحالة الثانية باسم الحضارة والمدنية والديمقراطية.
من غير الممكن هنا تناول التداعيات المدمّرة للغزو الأميركي للعراق باستفاضة، لكن المتفّق عليه أنه جاء بنتائج معاكسة تمامًا للأهداف المعلنة له، على صعيد الدولة، ونظام الحكم، وموازين القوى، والاستقرار الإقليمي، وتنامي نزعات العنف والتطرّف المتصلة بارتفاع منسوب التوتر الطائفي.
على صعيد الدولة، تحوّل العراق، رغم الضعف الذي اعتراه بعد قراره الكارثي بغزو الكويت عام 1991، من دولةٍ مركزية قوية نسبيًا، تمارس سيادتها على الجزء الأكبر من أراضيها، ولها تأثيرها الملموس في موازين القوى الإقليمية، إلى دولةٍ فاشلةٍ بعد أن تولّى الأميركيون تفكيك مؤسّساتها وحلّ جيشها، ما فتح الباب واسعا أمام نشوء سلطاتٍ موازيةٍ لسلطة الدولة، حيث انتشرت المليشيات التي تتلقّى أوامرها من خارج الحدود وتكاثرت حتى صار عدُدها يقترب من 70. لم تفقد دولة ما بعد الغزو بذلك احتكارها سلطة استخدام القوة على أراضيها فحسب، بل صارت سلطة التشريع التي تقع في صميم مسألة السيادة تمارس من وراء الحدود بحراسة هذه المليشيات التي صار لها أحزاب سياسية في البرلمان. ولأن العراق دولة نفطية غنية، برزت فيه واحدة من أغرب الظواهر السياسية، حيث تنفق الدولة على مليشيات لا تمون عليها. وفي حين أن الدول الريعية في المنطقة تتولّى الإنفاق على مجتمعاتها في مقابل السيطرة عليها، تنفرد الدولة العراقية في الإنفاق على شبكات زبائنية تتحدّى سلطتها وتخرق سيادتها، وتتلخّص مهمتها بإبقائها ضعيفة.
أما بخصوص نظام الحكم، فلم يصبح عراق ما بعد الغزو أبعد عن الديموقراطية منه اليوم، إذ سيطرت على الحكم نخبٌ لا تفتقر فقط إلى أي ثقافةٍ ديموقراطية، أو مدنية، بل اتّبعت فوق ذلك سياساتٍ طائفيةً حادّة مرجعياتها فوق – وطنية. فوق ذلك، يعدّ العراق البلد الوحيد في العالم الذي يظفر فيه الطرف الخاسر في الانتخابات بالسلطة (انظر انتخابات 2010 وانتخابات 2021). وبسبب عقم العملية الانتخابية واستشراء السياسات الطائفية والتوترات التي نشأت عنها، تنامت نزعات التطرّف في العراق، ومنه نفذت إلى بقية المنطقة، وبلغت ذروتها بصعود أحد أعنف التنظيمات الإرهابية المعاصرة (داعش)، علما أن واشنطن برّرت غزوها العراق بمزاعم كاذبة عن وجود علاقة تربطه بتنظيم القاعدة. ورغم الهزيمة الكبرى التي تلقّاها التنظيم في سورية والعراق، إلا أن كل الأسباب التي أدّت إلى ظهوره ما زالت قائمة. لذلك تذهب أكثر التوقعات باتجاه ترجيح عودته بشكل أو بآخر. فوق ذلك، ساعدت الولايات المتحدة في إنشاء واحدٍ من أكثر نظم العالم فسادا في العراق، إذ قدّرت الأمم المتحدة حجم الأموال المنهوبة والمهدورة في العراق بأكثر من 800 مليار دولار على امتداد العقدين الماضيين. ومرّة أخرى، يعدّ العراق البلد الوحيد الذي يملك أحد أكبر احتياطات النفط والغاز في العالم، لكنه يستورد الكهرباء والغاز من الشقيقة إيران!
على صعيد الاستقرار الإقليمي، دمّر الغزو الأميركي للعراق بنية النظام الإقليمي، وأخرج العرب من ساحة الفعل السياسي، وحوّل دولهم إلى ساحة صراع بالوكالة، خصوصا مع تفجّر ثورات الربيع العربي. لكل هذه الأسباب وغيرها، سيبقى غزو العراق يُذكر باعتباره الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الولايات المتحدة بحقّ المنطقة وبحقّ نفسها أيضا مع انحسار قدرتها على التأثير في الديناميات الإقليمية التي ساهمت هي نفسها في إطلاق شرارتها بسقوط بغداد.
المصدر: العربي الجديد