أولًا: سياسات الحكومات السورية تجاه العلويين في الأعوام الأولى بعد الاستقلال
بعد وعود حكومة فرنسا الحرة عام 1941، أُعلِن استقلال سورية ولبنان عام 1943، غير أن استقلال سورية تأخر حتى 17 نيسان/ أبريل 1946، عند انسحاب آخر جندي فرنسي من الساحل السوري، بما سمّي بيوم الجلاء. وكانت سورية ولبنان قد دُعيتا إلى مؤتمر سان فرنسيسكو، بعد وقوف البلدَين شكليًا ضد ألمانيا واليابان، في 27 شباط/ فبراير 1945، ما عزز مكانتهما كدولتين مستقلتين، باعتراف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، من دون الاعتراف لفرنسا بوضع خاص لها في الدولتين، مثلما ارتأت بريطانيا[1].
ولم يحصل الاستقرار المرجو بعد الاستقلال، بسبب “عدم الانسجام الكامن في الجسم السياسي، بمستوياته المتفاوتة، لجهة التطور والمعرفة والثروة، ثم الانقسام بين أديان وطوائف، إلى جانب الولاءات الإقليمية، وغياب ثقافة احترام القانون، والنفور من الحكومات، والطبع القومي القابل للاستثارة، والخبرة المحدودة، والمصالح الشخصية، والأحزاب السياسية هشة الجذور، واختراق السياسات الحزبية للضباط على نطاق واسع… لقد كان وجود الانتداب يموّه المشكلة ويحجبها في كثير من الأحيان”[2].
بعد كلام لونغريغ هذا، يحق لنا أن نتساءل عما كان يوحِّد هذا الجسم السياسي بالفعل؟ بل يمكن القول بأن هذه المشاكل ما تزال قائمة حتى الآن، وأنها كشفت عن نفسها بصورة فاقعة بعد ثورة 2011، من بين كم كبير من المشاكل غير المحلولة في التاريخ السوري، وقد تمثل الحل على الطريقة السورية عن طريق سياسة الهروب إلى الأمام دومًا، وهذا ما وسم تاريخ سورية “الوطني” كله، بحيث عدنا إلى طرح الأسئلة ذاتها بعد مئة عام!
قُبيل الاستقلال، احتدم التنافس بين الحكومة السورية وفرنسا على كسب العلويين والسيطرة على منطقتهم، فبينما فكر الفرنسيون بتشكيل حكومة علوية تعلن استقلال الجمهورية العلوية أو إحداث انقلاب في القيادات السياسية واستبدال التقليدية منها بقيادات عشائرية جديدة[3]، عملت الحكومة السورية بعد الاستقلال على تقطيع الأوصال بين العشائر والأفخاذ لقطع الطريق على أي تمرد، وهي سياسة كانت صحيحة، برأي محمد هواش، ولكن مشكلتها أنها ضربت الجميع بدون تفريق، ما ترك فراغًا لم تلبث أن ملأته الأحزاب العقائدية[4].
وفي إشارة إلى استمرار حالة الفقر في المجتمع العلوي، بعد مضي 4 سنوات على الجلاء، يشير باتريك سيل إلى أن نحو عشرة آلاف من البنات العلويات كنّ يخدمن في بيوت دمشق عام 1950[5]. ووصف باتريك سيل بعض مظاهر الاستغلال في محافظة اللاذقية. ويضاف إلى ذلك أن العلويين أُدينوا بعد الجلاء بأنهم غير موالين للحكومة الوطنية، وأنهم خدموا في القوات الخاصة لجيش الشرق[6].
من جهة ثانية، شهدت سنوات الخمسينيات نوعًا من الجموح العلوي باتجاه التعلّم والثروة والسلطة، كردة فعل على تاريخ من الاضطهاد والعزلة[7]. ومن ضمن مسارات هذا الجموح العلوي، الميل إلى اعتناق “الأفكار العلمانية التي تنادي بها الأحزاب العقائدية، والتي كانت جذابة بشكل خاص لشباب الأقليات، الذين لم يشعروا بالارتياح لربط القومية العربية بالإسلام”[8]. في هذه المرحلة، برز تناقض جديد بين العلمانيين والإسلاميين، تمثل على أرض الواقع ببداية ظهور صراعٍ بعثي – إخواني، لا تخفى مقاصده الطائفية[9].
يقول محمد معروف (العلوي الوحدوي) عن هذه المرحلة بأن “الدولة وضعت منذ الاستقلال هدفها في إضعاف الزعماء التقليديين في كل من جبل الدروز ومنطقة العلويين، ولا سيما مَن تعاون مع الفرنسيين، وتصفية من يشكل خطرًا على الأمن العام في الدولة الحديثة”. واعتبر معروف ذلك ضروريًا، “لأن الاستقلال طري العود، وثمة خوف من عودة الفرنسيين”[10].
ومع ذلك، فإن معظم النخب العلوية خاب أملها من سياسات الكتلة الوطنية بعد الاستقلال، وكانت قد حصلت على حقوق لم تكن لتحلم بها إبان الانتداب الفرنسي، فوجد بعضها الفرصة مناسبة لركوب قطارَ الأحزاب العقائدية والجيش، من أجل الفوز بحصص سياسية أكبر من الكعكة الوطنية الهشة، وقد اعتقدت بأنها حُرمت منها عند إعادة توحيد الدول السورية (1936 – 1939)، متهمةً الحكم الوطني بأنه لم يحترم ما تم الاتفاق عليه من أجل انضمام دولتهم إلى الدولة السورية عام 1936، أي الاستقلال الإداري والمالي لمنطقتهم.
ففي 9 كانون الأول/ ديسمبر 1945، ألغي الاستقلال الإداري والمالي لمحافظة اللاذقية، وهو الأمر الذي أصرت فرنسا عـلى الإبقـاء عليه بعد إلغاء دولة العلـويين، فـأدى ذلك إلى حركـة تمـرد واسـعة في المنطقـة تزعمهـا سـلمان المرشد، وأفضت إلى إعدامه بعد الجلاء بثلاثة أشهر[11]. قبل ذلك، في 31 تموز/ يوليو 1945، وعند تشكيل الجيش الوطني، تمردت فرقة المشاة الثانية من القوات الخاصة للشرق ذات الأغلبية العلوية، وتم الاستيلاء على مخازن الأسلحة من أجل عدم وصولها إلى الحكومة الوطنية[12].
وعن سلمان المرشد في هذه المرحلة، يعتبر لونغريغ أن عدم تعاونه هو ما أفضى إلى اعتقاله في دمشق وإعدامه (1946)، وأن هذا الإعدام ترك آثارًا ممتازة على استقرار منطقة العلويين[13]، فضلًا عن توصيفه غير اللائق لشخصية المرشد[14]. في الواقع، كان الأمر أكثر تعقيدًا، وكان إعدام المرشد فعلًا تأديبيًا مدبّرًا للإطاحة بأحد أهم الشخصيات السياسية العلوية، كما روى أحمد نهاد السياف في مذكراته[15]، وربما كانتقام لمطالبة العلويين بالانفصال أو باللامركزية بدعم من الفرنسيين. وإن هذا الإعدام، علاوة على التنكيل بأبناء المرشد ومناصريه[16] لسنوات طويلة، سيُسهم في مأسسة الحركة المرشدية بصورة شبه سرية، وتطوير عصبية متينة للدفاع عن “الدين الجديد” والنفس. ولم يكن العلويون قد نسوا إعدام المرشد حتى جاء إعدام آخر ليهز وجدانهم؛ إعدام الثائر شاهين خضر، والملقب بأبي علي شاهين، في اللاذقية عام 1949[17].
كما كثرت الانتهاكات في أنحاء الجبل العلوي في السنوات الأولى بعد الاستقلال من قبل حكومة جميل مردم بك، وأخذت تصرفات الشرطة طابعًا انتقاميًا، ما ذكَّر العلويين بممارسات العثمانيين. وربما تعتبر هذه الفترة في الضمير الجماعي العلوي كـ “أحد أسوأ العهود التي مرت على العلويين، وصار المستعمر الفرنسي، بالمقارنة، هو الإنسانية بذاتها”[18].
يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل
[1] لونغريغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ص 435.
[2] المرجع نفسه، ص 449.
[3] محمد هواش، عن العلويين ودولتهم المستقلة، ص 342.
[4] محمد هواش، عن العلويين ودولتهم المستقلة، ص 343. في الواقع، يريد هواش القول، بطريقة ما، بأنه كان على الحكومة أن تراعي وضع عشيرته، المتاورة، وحليفها صالح العلي، كحلفاء لحكومات الداخل منذ زمن المملكة العربية السورية أو عهد الملك فيصل – الباحث.
[5] لم يقتصر ذلك على مدينة دمشق، وخدمت مئات الفتيات في اللاذقية وطرابلس وبيروت. يُعدّ هذا الموضوع من أكثر الأمور خلافًا وإشكاليةً بين العلويين، ولم يكن ليتم من دون نوع من الفتاوى أو الصمت من قبل بعض المشايخ الذين ستزداد نسبة زكاتهم من دخل الفتيات. ومع أن بعض المشايخ عارضوا ذلك، بقي الفقر من أهم الأسباب الضاغطة. من جهة ثانية، كان للفتيات (الخادمات) دور مهم في تطوير وإدارة التدبير المنزلي في الريف العلوي، كما ذكر باتريك سيل، وبخاصة اللواتي عملن في لبنان، وانعكس ذلك إيجابيًا على البيئات العلوية التي خدمت بناتها في المدن، بخلاف التي لم تتقبل ذلك، على مبدأ (رُبّ ضارة نافعة)! – الباحث.
[6] باتريك سيل، الأسد الصراع على الشرق الأوسط، ص 49.
[7] المرجع نفسه، ص 44.
[8] المرجع نفسه، ص 50.
[9] المرجع نفسه، ص 55. في هذا السياق، يُورد باتريك سيل حادثة قام فيها أحد عناصر الإخوان المسلمين بطعن حافظ أسد البعثي في ظهره، عام 1948. وليس من المعروف إلى أية درجة أوغرت هذه الحادثة صدر حافظ الأسد ضد الإخوان، وأثرها في المعركة المفتوحة معهم أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي – الباحث.
[10] محمد معروف، أيام عشتها (1949 – 1969): الانقلابات العسكرية وأسرارها في سوريا، ص 56. إن تبرير محمد معروف لتصرفات الدولة هنا مردّه إلى خلفية تحالف عشيرته (المتاورة) مع الحكومات الوطنية منذ ثورة صالح العلي، ودعمها لهذا الأخير ضد الفرنسيين. وثمة موقف طبقي يتمثل بانسجام مصالح العائلات العشائرية العلوية شبه الإقطاعية مع النخب الإقطاعية السورية، وكان أن عاملهم البعثيون بعد عام 1963 المعاملة ذاتها، وفصلوا ابن زعيم عشيرته محمد الهواش من الجيش، بينما بقي هو ملاحقًا ومنفيًا في الخارج حتى السبعينيات – الباحث.
[11] أكرم الحوراني، مذكرات، (الجزء الأول) ص 457. كما حدث تمرد مماثل في محافظة السويداء. المصدر نفسه.
[12] بشير زين العابدين، الجيش والسياسة في سورية (1918 – 2000)، ص 119.
[13] لونغريغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ص 427.
[14] يصف لونغريغ سلمان المرشد بـ “البدين والماكر وشبه المجنون”! لونغريغ، ص 427. في الواقع، لم تكن العلاقات ودية بين الإنكليز والمرشد، وشابها الكثير بخاصة في عامي 1941 و1942 حيث وقف الإنكليز ضد ممارسات المرشد وأنصاره في حوادث الجبل، بينما ساند الفرنسيون المرشد بقوة. انظر: محمد هواش، عن العلويين ودولتهم المستقلة، ص 305 وما بعدها. ويبدو أن الكاتب، الذي عمل كضابط سابق في المنطقة، قد عاش هذه الأحداث، وكان له موقف شخصي من المرشد حتى يصفه بهذه الطريقة غير اللائقة – الباحث.
[15] أحمد نهاد السياف، شعاع قبل الفجر، (إصدار خاص، 2005).
[16] تزعم مجيب سلمان المرشد (تولد 1930) الحركة المرشدية بعد إعدام أبيه عام 1946، وتم اغتياله من قبل آمر الشرطة العسكرية النقيب عبد الحق شحادة في قرية الصير بسهل الغاب، في عهد أديب الشيشكلي، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، فتزعم أخوه ساجي الحركة من بعده – مصادر متقاطعة.
[17] تم تناول قصة أبي علي شاهين في أكثر من عمل أدبي، ومنها إخراج نبيل المالح، في سبعينيات القرن العشرين، لفيلم سينمائي باسم “الفهد” عن رواية حيدر حيدر، بالاسم نفسه – الباحث.
[18] للمزيد من التفاصيل، انظر: محمد هواش، عن العلويين ودولتهم المستقلة، ص 344.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة