قال عبد الرحمن بن رشا: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (صنفت كتاب (الصحيح) في ست عشرة سنة وخرجته من ستمئة ألف حديث وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله) يريد القول لعله يشفع له يوم القيامة.
يحتوي الجامع الصحيح على 7397 حديث عدا التعليقات، وبحذف المكرر منها يبقى 2602 حديث، وهناك ملاحق للكتاب تتضمن أحاديث مصنفة لدى البخاري باعتبارها صحيحة أيضاً لكن البخاري لم يقرر وضعها ضمن كتاب الجامع الصحيح.
أحدث كتاب الجامع الصحيح أثرًا كبيرًا في جيل البخاري وفي كل الأجيال التي أعقبته حتى اليوم , حتى إنك لا تجد كتابًا للفقه أو تفسير القرآن أو كتب العقيدة يخلو من الاستشهاد بأحاديث البخاري وكأن كتاب البخاري قد أصبح الخبز اليومي لعلماء المسلمين في كل زمان ومكان.
ومعنى ” الجامع الصحيح ” أنه جمع فيه الأحاديث التي دققها من حيث السند فقط فهو لم يضع على عاتقه نقد المتن سوى بأضيق الحدود , فالصحيح عنده ماصح سنده وفقا لضوابطه المشهورة وهي
تتلخص في أن الحديث الصحيح المقبول هو الحديث الذي رواه العدل الضابط من أول السند إلى منتهاه، من غير شذوذ أو علّة، والعدل هو الذي يتصف بصفات التقوى والعدالة والسلامة مما يقدح في المروءة، والضابط هو الحافظ الذي يتقن حفظه، ومن غير شذوذ أي عدم مخالفة رواية الحديث لرواية من هو أوثق منه، والعلة هي أمر خفي في سند الحديث أو متنه يمنع عنه الصحة.
واشتراطات البخاري صارمة لكنها ليست مطلقة الكمال , فهو قد قام بعمل جبار في زمنه مستخدما الأدوات المتاحة لأقصى حد ممكن , لكن يبقى أن نقل الحديث شفهيا من رجل لآخر عبر عدة أجيال لايمكن أن يكون خاليا من الثغرات , فحتى لو كان السامع صادقا وعدلا أمينا فأنت لاتأمن فهمه لماسمع فكيف إذا نقل عبر خمسة رجال متتابعين في الزمان خلال حوالي مئتي عام .
من أجل ذلك وضع القدماء منذ زمن مبكر مسألة نقد المتن إلى جانب نقد السند والمتن هو نص الحديث وقالوا ” وأما نقد المتن (النص ) فينقد في أحوال فيما يطرأ عليه من رفع أو وقف أو شذوذ أو غير ذلك” .
ومن طرق نقد المتن عرضه على نصوص القرآن وقواعد الدين فان وجد مخالفا لشيء منها ردوه وتركوا العمل به , وهذا الخليفة عمر بن الخطاب فيما أخرج مسلم عنه يسمع حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل الرسول (ص ) لها سكنى ولانفقة , قال عمر : لانترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لاندري لعلها حفظت أو نسيت, لها السكنى والنفقة ,قال الله عز وجل : “لاتخرجوهن من بيوتهن ولايخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة “
وتلكم عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الشيخان ( البخاري ومسلم ) سمعت حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله أن الرسول (ص) قال : ” ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه ” فقالت : ” رحم الله عمر والله ماحدث رسول الله (ص) أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد ولكن قال : ان الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ” وقالت : ” حسبكم القرآن :” ولاتزر وازرة وزر أخرى ” وزاد مسلم : ” انكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطىء ” وملاحظتها الأخيرة على غاية من الأهمية فان معظم جهد البخاري ان لم يكن كله ومثله تلميذه مسلم قد انصب على التحقق من سند الحديث ولم يتعرض للمتن وكما قالت السيدة عائشة فقد يكون الراوي صادقا لكنه سمع الحديث أو فهمه ليس على حقيقته وتلك مسألة لايمكن معالجتها سوى من علماء أكفاء مخلصين يعرضون نص الحديث الذي لايقبله العقل السليم والفطرة على كتاب الله وعلى السنة الموثقة من الأحاديث الأخرى فان عارضها ترك ولم يؤخذ به .
لكن مايحصل اليوم وقد افتقدت الأمة العقلانية في التفكير , واستسلمت للطريق الأسهل فانقسم الناس بين من يسلم بكل ماجاء في البخاري ككتاب مقدس , وبين من يهاجمه دون علم ويحمله من الأوزار ما لايتحمل ظلما وافتراء , وبين هذا وذاك ترك الناس الطريق الأصعب وهو عرض الأحاديث المنقولة على العقل واستبعاد ما يصطدم مع النص الصريح للقرآن ويتعارض مع مقاصد الشرع والحقائق العلمية الثابتة اليوم .
إن جمود العقول , والتعامل بقداسة مع كتب الحديث قد ترك الفرصة سانحة لمن يريد الاصطياد في الماء العكر , فيبحث في تلك الكتب عن الأحاديث الغريبة كحديث ارضاع الكبير الذي لايقبله عقل ولايرضى به رجل لديه مروءة.
افتقاد العقلانية في التفكير أدى إلى إهمال تام للجناح الآخر لنقد الحديث وهو نقد المتن , واعتبار أن نقد السند وحده كاف وإساءة فهم مايعنيه مصطلح ” الجامع الصحيح ” فالصحيح عن البخاري هو حصرا ما وافق اشتراطاته التي سبق ذكرها وليس شيئا آخر فهو لم يضمن صحة الحديث كما فهم كثيرون لكنه ضمن مطابقة سند الحديث لاشتراطاته حسب الجهد الكبير الذي بذله خلال ست عشرة سنة من البحث والتدقيق .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي