قراءة في كتاب : ملاك الثورة وشياطينها 2 ||  عامان في الشمال السوري

أحمد العربي

(أصاب الثورة السورية ما يصيب كل الثورات. من الأمراض الانتهازية والاستغلال والتصارع، وقدمت الكثير من الشهداء، لكنها الوحيدة التي عاداها اغلب دول العالم وخاصة الفاعلة منها؛ ظاهرا وباطنا).

12. كان للعمل المسلح في صفوف الثورة مراحل مر بها، فمن السلاح الفردي واغلبه سلاح صيد، والذي تطلب الحصول عليه ان يبيع كل ثائر ما عنده من الغالي والنفيس للحصول عليها، وهنا وقع الثوار ضحية السوق السوداء وغلاء الاسعار والنوعيات الرديئة للاسلحة، اسلحة معمرة وبعضها بطل استعماله، الذخيرة قليلة واغلبها فاسد، مما استوجب وجود ورشات تصليح ومن ثم تصنيع السلاح ولو بشكل بدائي بين الثوار، المجموعات بدأت عشوائية وتلقائية وترتبط مباشرة بالبلدات. أبناء البلدة يتحملون مسؤولية حمايتها، كان الهم الأول للثوار حماية التظاهر وحماية اهلهم، وسرعان ما يتطور الصراع في النظام يصعد هجومه على الثوار والحاضنة الشعبية لهم، ويعتمد نظرية الأرض المحروقة، والثوار ينتقلون لمرحلة الهجوم ولو بشكل جزئي وعشوائي، سيعاني الثوار من نقص السلاح والعتاد، ويعوض بعضه مما غنموه من النظام حين يتم التقدم لبعض مواقعه، سينشأ على هامش حاجة السلاح وعدم توفر سوقا سوداء له، وتنشأ ظاهرة الداعم المالي للسلاح وغيره، حيث ستبدأ بشكل فردي وتتحول بعد ذلك للدول ظاهرا وباطنا، سيبقى الثوار عاجزين دائما عن دحر النظام نقص في السلاح كمية ونوعية، السلاح الثقيل ممنوع عن الثوار إلا ما غنموه من النظام، وكذلك المضاد للطائرات، حيث سيشكل قصف الطيران على الثوار واهلهم وبلداتهم عاملا مهما في ضرب الثورة و الثوار والحاضنة الشعبية التي ستدمر بيوتها وستنتقل مشردة داخل البلاد وخارجها، إلى تركيا بشكل أساسي؛ تركيا التي ستغلق حدودها بعد أن غرقت بملايين السوريين في أواخر 2014، سيظهر أن هناك إرادة من الأطراف الداعمة أن يبقى الحال في سوريا “لا غالب ولا مغلوب”، ولكن تبعات الصراع ستكون كارثية على السوريين بكل المعاني، ستظهر كل أمراض المجتمع من فوضى السلاح وعلى هامش الثورة، تجارة السلاح رائجة كمكسب اقتصادي، والخطف بقصد الفدية خاصة لاطراف النظام او الاجانب وبعضهم صحفيين، والسلب للمعامل وبعض البيوت المهجر اهلها، تحت دعوى تأمين المال الازم لاطعام الثوار ولشراء السلاح لهم، لقد نشأت عصابات سلب ونهب وتعدي على املاك الناس متغطين بحاجة الثورة والثوار، ستظهر مشكلة غياب القادة الميدانيين الناضجين سياسيا والمنتمين للثورة والمدركين لكل ابعاد الصراع وتداعياته، خاصة ان اغلب الثوار الاوائل قد استشهد او اعتقل او يأس وغادر الى الغربة، لقد تصدر اغلب الثوار طبقة من محدودي العلم والدراية السياسية والخبرة العسكرية ايضا، وهنا لابد التأكيد على التناقض المعاش بين الضابط المنشق عن النظام والملتحق بالثورة وبين القائد الميداني، حيث ادت اخيرا لازاحة اغلب الضباط المنشقين وخبراتهم وليتحولوا الى مجرد بضاعة كاسدة في مخيمات اللجوء، ولن يغيب عن الذهن ان ذلك لم يكن بعيدا عن ادراك الدول المتحكمة بالصراع، ولنقل هي ارادت ذلك. لقد كان الثوار محكومين بوعيهم المحدود وحاجاتهم الملحة اليومية لحماية أنفسهم وإطعام مجموعاتهم وتأمين السلاح والمال لهم، لذلك دخلوا لعبة الصراع والمنافسة والمناطقية والفساد والبحث عن الداعم دون تقيد بشروط الاستقلالية وعدم التحول لعصابات مسلحة مأجورة بعد أن كانوا ثوار ولهم قضيتهم العظيمه. سيتطور الوضع باستمرار الصراع لتشكيل غرف دعم الثورة السورية “موك” و “موم” من الغرب والسعودية وقطر وتركيا بقيادة أمريكا، بحيث تؤمن بعض حاجات السلاح والعتاد والمال لقوى الجيش الحر، وضمن معادلة “استمرار الصراع دون حله” ، سيدرك الجميع الثوار والنظام: أن الوضع السوري أصبح تحت الهيمنة الدولية، أمريكا وروسيا وإيران والغرب وتركيا ودول الخليج كلهم حاضرين ولكل دور ومصالح، وحل القضية السورية لم يعد بيد السوريين فقط، بل توافقات إقليمية ودولية لم تتحقق للان.

13. بالعودة للنظام الاستبدادي السوري وطريقة إدارته لمواجهة الثورة واسقاطها، فبعد أن أخذ ضوء أخضر دولي؛ ان يفعل مافعل وانه مازالوا يحتاجون لخدمات منه وانه محمي دوليا وإقليميا، روسيا وإيران اللتين وضعتا كل امكانياتهما العسكرية والمالية والسياسية في خدمة النظام ودعمه في صراعه مع الثورة والثوار وضد الشعب السوري، لذلك اعد النظام نفسه لمعركة طويلة ضد الثوار وخطط ان يحولها من ثورة شعبية سلمية تسترد حقوق الناس و تبني الدولة الديمقراطية، لتتحول إلى حرب ضد المجموعات “الإرهابية” المسلحة التي تقاتل الدولة السورية ومن ثم العالم كله، وتحول الصراع إلى صراع ضد الإرهاب وتجييش العالم كله لأجل ذلك، النظام حاضر بشكل مباشر بين فصائل الجهاديين العالميين، وخاصة القاعدة من أيام احتلال الامريكان للعراق وما قبل وما بعد، وسجونها ممتلئة بهم وهي اخترقتهم استخباراتيا، ستفرج عن أغلبهم من بدايات الثورة، فهم معبئين بفكر السلفية الجهادية، وينتمي أغلبهم للقاعدة، ولهم ثأر شخصي مع النظام، رغم انهم كانوا تحت الرعاية الإيرانية والسورية في فترات سابقة، سيخرجوا من السجون ويتحولون للعمل المسلح ضد النظام بالالتحاق بالثورة، وسيكونون اغلب قادة هذه المجموعات، فبعضهم اكتفى بإسلامية فصيلة دون إعلان الالتحاق بالقاعدة مثل أحرار الشام وجيش الإسلام، وبعضهم يلتحق بالقاعدة التي تواجدت بالعراق باسم الدولة الاسلامية، وفي سوريا باسم جبهة النصرة، سيمر العمل الجهادي الاسلامي كقاعده ونصره في مسار معقد، فهناك الخلاف الداخلي الذي انتج داعش والنصرة كطرفين متصارعين بفكر واحد، داعش في سوريا طرحت نفسها كدولة اسلامية استعدت النظام والجيش الحر، لكنها حيدت النظام وضربت الجيش الحر وامتدت بالمناطق المحررة وصنعت دولتها وتمركزت في مناطق مختلفه من سوريا اهمها مدينة الرقه. واما النصرة فقد اعلنت انها مع الثورة السورية ولو انها لم تتخلى عن فكر القاعدة، وانها انهت الارتباط التنظيمي معها -كما ادعت- ، وبقيت طول الوقت مغطية حضورها بانها مع بقية الثوار يعملون لهدف واحد، ولو أن واقع الحال أكد أنهم يعملون من أجل أجندتهم الخاصة. ويظهر أنهم كانوا وراء إنهاء الكثير من فصائل الجيش الحر، والاستحواذ على اغلب الثورة والثوار، وكان آخرها استسلام أحرار الشام أمامها في إدلب. وتحول ادلب وشعبها والثورة فيها لرهينة تنتظر قدرها الدولي ” في محاربة الإرهاب”.
.سيلاحظ أهمية تدفق الجهاديين الإسلاميين من القاعدة وغيرها إلى سوريا كساحة صراع يراد له أن يكون ذريعة لتحويل الثورة لصراع أهلي ومن ثم حرب على الارهاب، وتنتهي الى امد بعيد فكرة الثورة ضد الاستبداد ولأجل الديمقراطية، وستجد القاعدة والنصرة من يدعم بداياتها،  سلاحها جديد ومتوفر ونوعي، وكذلك المال متوفر وبكثرة، وهناك بنية تنظيمية مضبوطة، وبنية عسكرية مع خبرات متنوعة عربات متفجرة وغيرها، وبناء فكري عقائدي مدروس، و سرعان ما ستمد داعش والنصرة ذاتهما ماليا عبر طلب الفديات التي حصلوا من خلالها الملايين، وعبر بيع النفط والحبوب بعدما سيطروا على صوامعهم، وغيرها مما وصلت يدهم لها من الخيرات السورية. يتغلغل الجهاديين القادمين عبر الحدود في أوساط الثورة، وسيتم تقبلهم بداية من باب تقبل نصرة الشعب السوري المظلوم، وسرعان ما ستتشكل مجموعاتها وتكسب أنصارها من الشباب السوري الذي يبحث عن طرف ما يقدم له وسائل العيش والسلاح لقتال النظام كعدو قتل وشرد وظلم اهلهم، سيكون الجهاديين نماذج بالالتزام والعمق الفكري والعقائدية وعدم الفساد، لكن سيكونون أول من يقدم للشباب السوري نماذج من القتل العشوائي تكفير الآخرين و حز رؤوس البشر، وعدم التمييز بين كبير وصغير وطفل وامرأة، ستظهر اشكال شرعية جديدة عبر “شرعيين” يبرروا كل الوحشية والعنف والإساءة والقتل باسم “الله وشرعه الإسلامي”، سيظهر على يد داعش كنموذج تحول بعض الصراع إلى وحشية لا يتفوق عليها إلا مجازر النظام وقصفه وقتله العشوائي للسوريين الذين استمر يطاردهم حيث حلوا وصولا الى المخيمات على الحدود التركية.

14. لقد كان من أسوأ ما حصل في الثورة السورية غياب تمثيل سياسي حقيقي للثورة من ثوارها على الأرض، وسرعان ما ملأ الفراغ بعض السياسيين السوريين المعارضين للنظام من السابق، وهذا بحد ذاته لا عيب فيه فالثورة لكل الشعب، لكن هذا التمثيل بقي صوريا حيث لم تكن هناك علاقة عضوية بين التمثيل السياسي سواء كان مجلس وطني أو ائتلاف ومن بعد الهيئة العليا للتفاوض وبين الثوار، وان تواجد بعض التواصل فهو دون مستوى التعبير عن وحدة قضية الثورة السورية سياسيا وعسكريا، والسبب يعود بمستوى آخر إلى كون السياسيين مرتبطين الى حد كبير بالدول الداعمة لهم واجنداتها، وكذلك العسكريين مرتبطين بالدول الداعمة لهم واجنداتها، وهذا جعل الداعم من يتحكم بالمسار السياسي والعسكري للثورة، مع ادراكنا ان الداعم ليس واحد،  أمريكا والغرب لهم أجنداتهم ومصالحهم. وكذلك تركيا. وقطر والامارات والسعودية والاردن ولاحقا مصر وخلف الستار (إسرائيل) ولكل أجندته والكل فاعل، واغلب الأجندات متناقضة ومصارعه، والاهم انها لاتعبر عن مصلحة الشعب السوري وثورته، لذلك لاحظنا التخبط والضياع والصراع سياسيا وعسكريا في الثورة السورية وتعبيراتها، ولن نستبعد حضور النظام وإيران وروسيا ايضا داخل الثورة السورية، سواء بالاختراق، او عبر حضور الامر الواقع سياسيا وعسكريا؛ ليسوا جزء من لقاءات جنيف والاستانة وداعمي لمنصة القاهرة وموسكو، ورعاة لبعض الاتفاقات العسكرية سواء خفض التصعيد في الجنوب والغوطة وحلب وحمص…الخ.
. كل ذلك اقترن واقع على الأرض أعاد إنتاج مجموعات عسكرية أمراء حرب بأجندات مناطقية والبعض تحول لمرتزق ومنتفع من كونه مسلحا وله حضوره وسطوته، وأصبح الناس يحنون إلى براءة الثورة الأولى ونقاءها ونظافة ثوارها، والبعض أخذ يقارن بين إساءات النظام وداعش والنصرة وبعض الفصائل الإسلامية وبعض الفصائل المحسوبة على الجيش الحر؛ وأن لا اختلاف نوعي بينهم بل فقط بدرجة الإساءة للشعب السوري.

15. هكذا وبعد معايشة فداء عيتاني للثورة السورية وثوارها على الأرض، يجد ان سوريا اصبحت مسرحا عملياتيا للوجود الروسي وخاصة في الجو، والوجود الإيراني عبر حرسه الثوري ومرتزقته الطائفيين من افغان وغيرهم، وكذلك حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية الطائفية، حيث أصبح هؤلاء القوة الحقيقية للنظام السوري على الارض ان بقي له سلطة وحضور، وكذلك تواجدت الدولة الإسلامية “داعش” وتمددت في مساحات كبيرة في سورية والعراق، وجبهة النصرة التي كانت ما تزال مرتبطة عضويا باغلب فصائل الثورة السورية -وقتها نهايات 2014-، معتمدة تكتيك التقية سياسيا والمفخخات والاندفاع عسكريا، وتواجد بعض الجيش الحر الذي ما زال يحمل رسالة الثورة السورية، وبعض الفصائل الإسلامية التي مازالت متأرجحة بين عمقها الفكري القريب من القاعدة والنصرة، ومصلحتها السياسية القريبة من الجيش الحر، أما الشعب السوري الذي لم يبق منه في مناطقهم “المحررة” إلا القليل، اغلبهم تشرد في دول الجوار ومنها تركيا، دمرت البلدات والقرى والمدن واصبح التشرد واللجوء قدرا، وتحول الناس إلى منكوبين ينتظرون رغيف ومعونة الأمم المتحدة الذي لا يحضر في اغلب الاحيان، اما المسار السياسي للثورة فهو أقرب إلى المراوحة بالمكان، وهناك عمل دائم -من كل الأطراف- لمزيد من التنازلات إلى النظام وداعميه، والعمل لإعادة إنتاجه بكل الوسائل والاساليب، تارة “أولوية الحرب على الارهاب”، وتارة “لغياب البديل عن النظام”، وتارة “بالدفاع عن والحفاظ على مصلحة الاقليات”، وتارة بأن النظام اثبت كفاءة في مواجهة “الارهاب الاسلامي”. أمريكا وروسيا والغرب والدول الإقليمية تعمل وفق مصلحتها وما تحصل لنفسها من الكعكة السورية أو تحمي نفسها وأمنها القومي، والشعب السوري هو الضحية وسوريا هي مسرح الصراع والتدمير والقتل والتقسيم والتقاسم بين الأطراف المعنية.

.اخيرا. الكتاب مليء بالمعلومات والتحاليل والمتابعات، واي قراءة وتلخيص لا تفيه حقه، هو شهادة ميدانية بعين المنتمي للثورة ولحق الشعب السوري بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل، لكن بعين الناقد والدارس الوضع بكل تفاصيله عيوبه وايجابياته.

.كتاب يؤكد أن ثورتنا ليست بخير. والتدوين يتوقف في أواخر 2014. وهذا صحيح حتى الآن. وإن بعض مشاكلنا في ثورنا منا وفينا. والبعض له علاقة بتعقيدات الخطط لكل الدول الحاضرة في سوريا بدءا من أمريكا وروسيا والدول الإقليمية صاحبة المصلحة، وأن مصير سوريا والمنطقة وخاصة دول الربيع العربي قيد الدرس والصناعة.
.مرة أخرى الدور الدولي والإقليمي في سوريا ليس كما يجب وحالنا ليس بخير.
.المطلوب منا كشعب سوري ثورة وثوار الكثير، ونحن خرجنا لأهداف مشروعة: حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية وحياة افضل.
.ما زالت مبررات ثورتنا قائمة، ويضاف لها سنوات الثورة ومنعكس فعل النظام وأعوانه وداعش والنصرة وأخطاء ثورتنا وثوارنا على الشعب السوري، وإصراره على استرداد حقوقه. وبناء دولته الوطنية الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى