لا تنتهي أحاديث تعويم السلطة السورية هذه الأيام، فكلما تعثّرت مبادرة نسمع عن ثانية: مبادرة تركية، عُمانية، أردنية، سعودية، وهناك الإماراتية، وحتى الطبيعة أهدتها مبادرة من خلال الزلزال في فبراير/ شباط الماضي، والخبر أخيرا دعوة الرئيس بشّار الأسد إلى القمة العربية المقبلة في الرياض. ولكن هل يمكن تعويم سُلطةٍ تتقاسمها إيران وروسيا؟
مشكلة السلطة السورية ليس في محاولات تعويمها، ولا في الرفض الأميركي والأوروبي لها، ولا حتى في التقاسم المذكور أعلاه. لا، المشكلة تكمن في طبيعة السلطة ذاتها، فهي غير قابلة للإصلاح وتعديل سلوكها، وهذا ما تعيه دول المبادرات، وبالتالي لا يمكنها أن تتورّط بدعمٍ ماليٍّ يصل إلى حدود إعادة الإعمار ومعاداة الغرب. لم تدعم الإمارات قيس سعيّد في تونس مالياً، ولا حتى الأردن، فهل يمكن لها (ولغيرها) إيداع المليارات في خزينة الدولة السورية، وهي تعلم أنّها ستنُهب!
لا يمتلك النظام في سورية، بحالته الراهنة، من أمره استقلالية، والنهب قانون أساسي لديمومته. أمّا الإصلاح والتغيير فيتطلب إرادة، هي مسلوبة منه، ورؤية وطنية، تمنع الانقسامات السورية الواقعيّة تحققها. أقصى ما يستطيع فعله النظام السوري تدوير الزوايا، عسى أن تأتيه الأموال. إعلام النظام يؤكد سعادته العارمة ببدء العلاقات مع بعض دول الخليج أو مصر وتركيا، ولكنه لا يملك أيّ قدرةٍ على استعادة وحدة سورية بجهوده الذاتية، فمن أين سيؤمّن احتياجات إدلب أو الحسكة او أرياف حلب، وكيف سيدفع الأميركان والأتراك للخروج، وكيف سيفكّك هيئة تحرير الشام.
لا يمكن لدولة عربية أن تقيم علاقات اقتصادية قويّة مع هذا النظام، هي بالأحرى “تريد كفّ بلاه عنها”، تريد ضبط الحدود، منعاً لاستمرار تهريب الكبتاغون، وقد أصبح مشكلة عربية وعالمية، وهذا لن يتحقّق، فوفقاً لتقريرٍ بريطانيٍّ، يسيطر مقرّبون من السلطة على أكثر من 80% من هذه التجارة، وعائداتها المالية تصل إلى 57 مليار دولار، وبغض النظر عن المبالغات، فإن بعض تلك المليارات لا يمكن تعويضها عبر التعويم، أو الانفتاح، وهناك العقوبات الأميركية الرافضة فكرة التعويم الاقتصادي. وبالتالي، لن يتجاوز التعويم فتح السفارات أو القنصليات، ولن يتطوّر إلى علاقاتٍ طبيعية، فهذه قُطِعَت بعد 2011، ولن تعود إلى سابق عهدها.
بعد فشل الاجتماع الرباعي (ايران، وتركيا، والنظام وروسيا)، في موسكو قبل أسابيع، ها هي تعاود اللقاء في موسكو، من أجل الاتفاق على التطبيع بين النظام وتركيا، ولكن دخول إيران على خطّ التطبيع هذا سيعيق تطوّره؛ فتركيا المجاورة لسورية لا يمكن أن تفاوض إيران، “المزروعة” في سورية وتبقى قوات الأخيرة فيها، وسيكون من الصعب أن تفاوض على خروج قواتها قبل حل مشكلة ملايين اللاجئين داخل تركيا وعلى الحدود وقبل شطب جيش “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردي، وكذلك، ذكرنا، ليس هناك مصلحة للسلطة السورية في حل هذه المشكلة، وثرثراتها عن خروج القوات التركية، تعتبر نوعا من التذاكي وتمرير الوقت إلى حين الخلاص من الانتخابات التركية وسقوط أردوغان، كما يشتهي النظام السوري؛ ولكن لنفترض أنه تمّ البدء بمسار التطبيع التركي، فكيف ستطُوى الملفات أعلاه؛ ستأخذ وقتا طوًيلاً، ولن تكون نتائجها لصالح النظام، الذي يعاني في درعا، وفي السويداء، وفي أرياف حمص الشمالية. وبالتالي، ستتعقد أوضاعه أكثر فأكثر، ولهذا نكرّر إن التعويم لا يساوي العودة إلى ما قبل 2011، وهذا تعلمه جيدا الدول المطبّعة معه.
تنتظر الدول التي تسيطر على قرار النظام قدوم المليارات لسرقتها، ولن تأتي. هذه الدول مضطرّة، في مرحلةٍ لاحقة، لإعادة طرح المسألة السورية وفقاً للقرارات الدولية، والمساومة مع الأميركان بما يخصّ قانوني قيصر والكبتاغون، وهذا يبدو متعذّراً بسبب الحرب في أوكرانيا. وبالتالي، لن تكون نتائج التطبيع ذات قيمة كبيرة، ولن يتخلّى النظام عن تسهيل تجارة الكبتاغون، وهذا سيعيد العلاقات إلى ما قبل التعويم والتطبيع معه؛ وهو لن يذهب بعيداً أيضاً في سياسة الخطوة خطوة “المبادرة الأردنية”، حيث إنه غير قابلٍ للإصلاح، والخطوات هذه تقتضي البدء بمسار الإصلاح والتغيير.
رَفَضَ النظام، بشكل قاطع، أيّ انفتاحٍ على المعارضة، ولا تتضمّن المبادرات بصورتها المتداولة ذلك الانفتاح، وهذا عامل إضافي لتعقيد مسار التعويم، أو دفع أوروبا وأميركا للتهاون مع سياسة الخطوة خطوة؛ ولكن لنفترض أنّه وافق على المصالحة مع المعارضة، فكيف سيبدأ الحوار، فهل سيُعلن إيقاف إطلاق النار، أو الإفراج عن المعتقلين، أو عودة اللاجئين بشكل آمن، أو إبعاد قادة أمنيين أو عسكرين عن مفاصل حسّاسة في الأجهزة الأمنية أو قيادة الجيش. أيّ خطوة من هذا القبيل ستعني نهاية النظام، ولهذا يتمسّك بالرفض القاطع، ويعمل على تمرير الوقت، ولكن الدول المطبّعة لن تقطع شوطاً بالتطبيع قبل أن يلتزم بمسار الخطوة خطوة، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما اتفِقَ عليه، أخيرا، في الأردن، في اجتماعٍ حضرته مجموعة دول عربية عديدة، ودول أوروبية، ومنها أميركا.
تحاول كل من إيران وروسيا الضغط على القوات الأميركية في شرق سورية، وقد حدثت مناوشاتٌ في الأسابيع الأخيرة، وتجاهلت كل من القوات الأميركية والروسية إخبار بعضها عن مواعيدٍ للطلعات الجوية في السماء السورية، وهذا خرقٌ للاتفاق السابق بينهما بشأن التحرّكات في الجو. ردّت أميركا، بوضوح، ضد القوات الإيرانية أو الروسية، وضاعفت من دعم “قسد”، وهذا يعني أن محاولات إيران وروسيا فشلت، ولن يتمكّنا من جذب تركيا لهما في هذا التصعيد بكل تأكيد، رغم أن تركيا تعتبر نفسها المستفيدة الأكبر من خروج القوات الأميركية، وتفكيك “قسد”. نعم، هناك علاقات متأزّمة بين الدولتين، تركيا وأميركا، ولكن لا يمكن أن تتخلّى عن التنسيق الأمني والعسكري بينهما، وهذا يقتضي، بالضرورة، عدم التحالف مع إيران أو روسيا ضد القوات الأميركية في شرق سورية. القضية هنا أن التعويم لا يعني إدارة الظهر لأميركا، والحال ذاته مع دول الخليج، بل إن أميركا ليست ضد التعويم “الدبلوماسي”، فالنظام لم يُطرد من هيئات الأمم المتحدة منذ 2011، ولكن المسألة أصبحت تقتضي تغييراً كبيراً في طبيعته، وهو ما تنصّ عليه القرارات الدولية والقوانين الأميركية المناهضة له.
غياب التوافق الأميركي الروسي، وحرب أوكرانيا، يضعان حدوداً للتطبيعين العربي والتركي، ولن يتجاوز الدبلوماسي “الخفيف” والأمني الأوّلي. وبالتالي يظلّ تشكيل هيئة كاملة الصلاحيات في سورية المدخل إلى إعادة علاقاتها مع العالم، وعلى أرضية القرار 2254، ومجمل القرارات الدولية الخاصة بالوضع السوري، وهذا مؤجّل حاليا. وبخلاف ما ذكرنا، سيظلّ التطبيع محدوداً، وستخفت حدّته “المحدودة”، وستتأزّم العلاقات مستقبلاً، وإيران لن تتقارب مع السعودية على حساب تمدّدها الإقليمي، والسعودية لن تخطب ود النظام السوري أو الحوثيين أو حزب الله من دون خطواتٍ إصلاحية في اليمن وسورية ولبنان، وحتى العراق، وهذا دونه عقباتٌ كثيرة، وبيان بكين للتقارب بين الدولتين السعودية وإيران لن يتطوّر بسلاسة؛ وبالتالي، ليست هذه الأمور بالسهولة السائلة، التي يجري الحديث عنها عن التطبيع والتعويم واستئناف التاريخ من 2011.
المصدر: العربي الجديد