تمر إسرائيل بوضع داخلي منقسم لم تشهد مثيلا له منذ قيامها. ما زلنا في العالم العربي قاصرين عن تحليل طبيعة هذا الانشقاق وأبعاده على القضية الفلسطينية، كما على الأردن. وسأحاول تسليط الضوء على بعض أبعاد ما يجري، كما أحاول اقتراح بعض التوصيات لكيفية التعامل مع هذا الانشقاق.
أولا علينا أن نعي أن بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ينتمون إلى ما يدعى بمعسكر الصهيونية الدينية، التي تجمع بين التطرف القومي والتطرف الديني، وبينما كانت الصهيونية حركة مدنية متطرفة، فإن هذا المعسكر يزيد على التطرف القومي تطرفا دينيا، ويؤمن بأن الله وهب اليهود وطنا في «إسرائيل الكبرى» التي تشمل الأردن وفلسطين، وأن الشعب اليهودي ليس له أفضلية على أي شعب آخر فحسب، بل له السيادة وحده على «أرض إسرائيل»، وأنه ليس للشعب الفلسطيني حقوق مماثلة لليهود فحسب، بل ليس له حق الوجود على أرض فلسطين التاريخية.
كما يتبنى هذا المعسكر موقفا متطرفا في تعريفه لمن هو اليهودي، وفي تفسيره للتوراة، ويعتبر الصهيونية التي تأسست على قواعد مدنية حركة كافرة لعدم اتباعها للشريعة التوراتية كما يرونها. من المهم جدا أن نفهم هذه الأبعاد التي تجعل من الحكومة الإسرائيلية الحالية أكثر الحكومات تطرفا من الناحيتين القومية والدينية، بل يمكن وصفها بالحكومة الداعشية اليهودية. إن فهمنا ذلك، ندرك طبيعة هذا الموقف الأيديولوجي المتطرف غير المستعد لأي نوع من النقاش أو المرونة. يرغب العديد من أعضاء هذه الحكومة تغيير النظام القضائي الإسرائيلي لجهة إضعافه والهيمنة عليه من قبل الكنيست والحكومة، لاعتبارات عدة أهمها، أن هؤلاء المتطرفين يعتبرون المحكمة العليا في إسرائيل وأغلب القضاة مدنيين يساريين كفرة، وبالتالي يودون استغلال جنوح المجتمع الإسرائيلي لليمين، كي يفرضوا إرادتهم المتطرفة على باقي المجتمع من خلال الكنيست والحكومة، ضاربين عرض الحائط بنظام الفصل والتوازن، الذي يضمن عدم تغول أي من السلطات الثلاث على الأخرى، الذي يشكل أحد أهم الركائز لأي دولة تدعي الديمقراطية نظاما لها. وفي حين أن نتنياهو ظل مدافعا طيلة حياته السياسية عن استقلال النظام القضائي الإسرائيلي، فإن حاجته لهؤلاء المتطرفين لتشكيل الحكومة، وسن قوانين جديدة تضمن بقاءه خارج السجن، أدت إلى تبنيه لهذا الانقلاب القضائي، الذي يدعوه زورا «بالإصلاح القضائي» ـ كما دعا ترامب خطته لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي زورا أيضا بـ»صفقة القرن ـ وتخليه عن حذره المعروف في اتخاذ سياسات خلافية داخل إسرائيل في السابق. ولكن هذه التعديلات المقترحة تواجه اليوم معارضة غير مسبوقة داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي، ومن المهم أيضا قبل الاسترسال في موضوع الانقلاب القضائي أن نذكر أمرين: الأول أن الانقسام الداخلي الإسرائيلي يتعلق بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي فقط، الذي تشعر بعض مكوناته أن حقوقها المدنية تنتهك اليوم من زمرة متطرفة حاكمة، ولم تشمل الاحتجاجات الإسرائيلية القائمة اليوم اعتراضات للانتهاكات التي تجري ضد الفلسطينيين، منذ إنشاء دولة إسرائيل. تتوقع المجموعات اليهودية المناوئة لهذه التعديلات من فلسطيني الداخل مشاركة الإسرائيليين اليهود في هذه الاحتجاجات، بينما ينأى المجتمع الفلسطيني الذي يحمل أفراده الجنسية الإسرائيلية عن ذلك، باعتبار أن الدعوة من أجل «الديمقراطية للجميع» وهو شعار يرفعه المحتجون باستمرار، لا يشمل المكون الفلسطيني، فـ»الجميع» في نظر المحتجين الإسرائيليين هو الجميع اليهودي فقط.
الأمر الآخر هو أن هذا الانقسام اليهودي الداخلي ليس انقساما حول العملية السلمية، بل هو انقسام يتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، ولا علاقة له بالسلام. ولذا تنضم للاحتجاجات اليوم عناصر من الجيش، واتحاد العمال وحتى بعض المتدينين، وهو من هذه الناحية أكبر بكثير من أي احتجاجات أخرى شهدتها الدولة الإسرائيلية في الماضي، لأن هناك غالبية إسرائيلية تشمل من صوتوا لنتنياهو، ممن ترفض هذه التعديلات وتخاف على مستقبل الدولة اليهودية.
عودة لماهية الانقسام، ما فتئ الإسرائيليون يدعون أنهم يعيشون في نظام ديمقراطي هو الوحيد في المنطقة، متغاضين تماما عن أن الديمقراطية لا تتماهى مع التمييز ضد جزء من المواطنين هم السكان الفلسطينيون الأصليون. ولكن إسرائيل، ولأسباب عدة، نجحت في جعل العديد من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تردد هذه المقولة، بل تؤمن بها. أما اليوم، فإذا نجحت محاولات تقويض نظام الفصل والتوازن الإسرائيلي، فلن تستطيع إسرائيل بعدها لا إقناع مواطنيها ولا إقناع العالم بانها دولة ديمقراطية، حتى إن استثنت المواطنين العرب. علينا عدم تقليل تداعيات هذا التقويض. إن من أهم الأسس التي بنيت عليها العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، ليست فقط بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة وإسرائيل، بل أيضا بين الجالية اليهودية الأمريكية ويهود إسرائيل، هو الشعور الغالب في الماضي أن إسرائيل وأمريكا تتقاسمان قيما مشتركة هي الديمقراطية والليبرالية. هناك شعور يتزايد اليوم داخل الجيل الجديد للجالية اليهودية الأمريكية لا يرى هذه القيم المشتركة كما يراها الجيل القديم، بل يشهد بصورة متزايدة دولة تحتل الغير وتمارس التمييز العنصري ضد جزء من مواطنيها، وهم الفلسطينيون تحت الاحتلال، وهي اليوم تقوض أهم ركائز الديمقراطية. وفي حين قد لا يعني ذلك تحولا آنيا في السياسة الأمريكية نحو إسرائيل، فالخطأ البالغ أن لا يتم استغلال هذه النقطة سياسيا وإعلاميا لفضح الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي في العالم بأسره، إضافة لذلك، فإن هذه الحكومة الإسرائيلية ترغب في سن قوانين جديدة لا تعترف بيهودية العديد من اليهود في العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، إضافة إلى قوانين ضد اليهود غير المتدينين في إسرائيل، وضد المسيحيين أيضا. يجري كل ذلك بينما يقف العالم العربي متفرجا على ما يجري، وكأن الأمر لا يعنيه. وبينما يواصل العالم الغربي التركيز على ترداد دعمه لحل الدولتين، من دون إقران ذلك بأي خطة واقعية لترجمته، هناك فرصة واقعية إن أحسن استغلالها لفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية والتركيز على مقولة ديمقراطية إسرائيل وممارستها للأبرتهايد، ما يمكن أن يجلب للجانب العربي شركاء جددا لم يكونوا من مناصري القضية الفلسطينية في السابق. ما يجري في إسرائيل بداية تحول خطير قد يكون في صالح الجانب الفلسطيني والعربي، إن تم تبني مقاربة واستراتيجية جديدة للتعامل مع دولة الاحتلال والتمييز العنصري، لقد أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية عجزها عن لجم إسرائيل، أو تليين مواقفها، أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.
سياسة التكيف العربي مع إسرائيل لن تنجح في لجم نظام أيديولوجي صهيوني متدين متطرف يؤمن بأن لا حق للفلسطينيين في الوجود على أرضهم. كما أن تعظيم التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل لن يفعل شيئا لتليين الموقف الإسرائيلي، بل ستستخدمه إسرائيل للمزيد من الضغط على كل من يضع جزءا من قطاعاته الحيوية بيدها. مطلوب اليوم مقاربة علمية ممنهجة للتعامل مع إسرائيل التي تحفر حفرة عميقة لنفسها، وليس سياسات تساعدها على الخروج من هذه الحفرة.
المصدر: القدس العربي