تفجيرٌ جديد داخل روسيا. الضحيّة أحد المدوّنين البارزين في شؤون الغزو الروسيّ لأوكرانيا: مكسيم فومين المعروف باسمه الحربيّ فلادلن تتارسكي. خلال احتفال في الكرملين بمناسبة ضمّ أربع مناطق أوكرانيّة إلى روسيا، قال تتارسكي: “سنهزم الجميع، سنقتل الجميع، سنسرق جميع من نحتاج إلى سرقتهم، سيكون كلّ شيء كما نحبّ”. كان لديه نحو 560 ألف متابع على قناته عبر “تلغرام” بحسب صحيفة “فايننشال تايمز”.
علاقة مضطربة
لمدوّني الحرب على المواقع الإلكترونيّة شهرة ملحوظة بين الروس. هم من القوميّين المتطرّفين الذين يدعمون الحرب ضدّ أوكرانيا لكنّهم ينتقدون، بتطرّف أيضاً، “غياب الكفاءة” لدى الجيش الروسيّ. لا يشكّلون خطراً مباشراً على الكرملين، بما أنّهم ليسوا من الطامحين إلى مواقع سياسيّة. لكنّ إضاءتهم على إخفاقات القيادة العسكريّة الروسيّة يمكن أن تزعج وزارة الدفاع والرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. بالتالي، نظرة الكرملين إلى هؤلاء المدوّنين إشكاليّة بالحدّ الأدنى. يساهم هؤلاء في تحفيز المواطنين وتعبئتهم على مواصلة تأييد الحرب، لكنّ انتقاداتهم لسير المعارك، بالرغم من أنّها نادراً ما تطال الرئيس الروسيّ شخصياً، قد تخبر الروس بأنّ الأداء الميدانيّ سيّئ جداً. فبين أيلول وتشرين الثاني، انخفضت نسبة من يقولون إنّ “العمليّة العسكريّة الخاصة” كانت ناجحة (ولو ظلت فوق 50 في المئة).
مصلحة كييف
وقع الانفجار في أحد مقاهي سانت بطرسبرغ. من بين المزاعم المنتشرة عن طريقة التفجير، تغليف فتاة للقنبلة بتمثال أهدته إلى تتارسكي داخل المقهى. بلغت زنة العبوة نحو 200 غرام من مادة “تي أن تي”. بالتأكيد، تملك أوكرانيا سبباً كافياً لاستهداف تتارسكي. لكن ثمّة ما يدفع للتمهّل في ربط كييف بالتفجير: يبدو أنّ المقهى الذي أمضى فيه تتارسكي آخر لحظات حياته يعود إلى مؤسّس شبكة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، بحسب اعتراف الأخير. وتتارسكي كان مقرّباً منه أيضاً.
لبريغوجين توتّر لا ينتهي مع وزارة الدفاع الروسيّة. هو كثير الإطلالات على وسائل التواصل الاجتماعيّ ليعرب عن الشكوى من غياب إمداد مقاتليه بالذخيرة. قبل شهر تقريباً، أعطى مقابلة لتتارسكي نفسه عن موضوع نقص الذخيرة. تحدّث في إحدى المرّات عن أنّ ذلك سيتسبّب بخسارة محتملة للحرب. أحياناً، شتم مقاتلو “فاغنر” رئيس هيئة الأركان العامّة للقوات الروسيّة الجنرال فاليري غيراسيموف، كما حصل في فيديو انتشر أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وصل الأمر ببريغوجين إلى حدّ اتهام وزارة الدفاع الروسيّة بـ”الخيانة العظمى”. كذلك، كان بريغوجين من الداعمين للقائد السابق لـ”العمليّة العسكريّة الخاصة” في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفيكين. لكنّ بوتين فضّل خفض رتبة الأخير عبر تعيين غيراسيموف قائداً جديداً للحرب. كانت الخطوة أبلغ تعبير عن دعم بوتين المطلق لوزارة الدفاع.
رسائل “الطباخ”… مزعجة
العلاقة بين بوتين و”طبّاخه” السابق (وكلمة “طبّاخ” هي كناية عن امتلاكه سلسلة مطاعم كانت تقدّم الوجبات للرئيس) ليست إيجابيّة؛ أحد المؤشّرات إلى ذلك أنّ بريغوجين لم يكن حاضراً في الذكرى الأولى على انطلاق “العمليّة العسكريّة الخاصّة”، والتي ألقى فيها الرئيس الروسيّ كلمة بالمناسبة.
لا يخلو كلام بريغوجين من الرسائل الضمنيّة التي قد لا تعجب الكرملين. أشاد زعيم فاغنر بمهارة الجيش الأوكرانيّ في الدفاع عن سوليدار: “يعمل الجيش الأوكرانيّ بوضوح وتناغم. لدينا الكثير لنتعلّمه منه”. يمكن أن يكون الهدف من هذا الكلام تعظيم المدافعين لتعظيم قوّة مقاتليه. لكن حتى لو كان بريغوجين قاصداً لهذا الهدف، فإنّ الكرملين لن يكون مرتاحاً لمنح من يصفهم بـ”النازيين” ميزة المهارة القتاليّة، ناهيكم عن “تعليم” الجيش الروسيّ فنون الحرب.
حتى في مسألة تفجير المقهى، قال بريغوجين إنّه لن يلوم كييف: “أعتقد أنّ مجموعة من الراديكاليّين الذين من غير المرجّح أن يكون لديهم أيّ علاقة مع الحكومة تتحرّك” في تنفيذ عمليّات كهذه، من بينها اغتيال ابنة المفكّر ألكسندر دوغين. وفي فيديو آخر، ينفي بريغوجين أن يكون الجيش الروسيّ يواجه حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) في أوكرانيا وهي سرديّة شائعة في الإعلام الرسميّ الروسيّ. إن لم تكن روسيا تواجه قوّات أطلسيّة في أوكرانيا، فلماذا تتعثّر قوة عظيمة في تحقيق أهدافها؟
واضح أنّ تعابير بريغوجين وإطلالاته لا تريح الكرملين. لذلك، يبدو أحياناً كأنّه يحاول تخفيف حدّة مواقفه من أجل عدم خسارة مقاتليه في باخموت كما يقول “معهد دراسات الحرب”. حين ذكر تقرير لشبكة “بلومبرغ” أنّ بريغوجين ينوي إعادة تركيز عمليّاته في أفريقيا بسبب عدم تلبية فرقته بالذخيرة، سخر منها قائلاً: “يظهر أنّهم يعرفون أكثر منّي بشأن ما سنفعله لاحقاً. ما دامت أمّتنا بحاجة إليها، فسنقاتل على أرض أوكرانيا”. مع ذلك، وبالرغم من تشديده على خدمة بلاده، تبقى كلمات بريغوجين مثيرة لعلامات الاستفهام كما درجت العادة. القتال على “أرض أوكرانيا” يناقض السرديّة الرسميّة التي تقول إنّ دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون هي أراض روسيّة. بالنسبة إلى المعهد نفسه على الأقلّ، إنّ توجيه رسالة تحذيريّة إلى بريغوجين عبر اغتيال تتارسكي هي أمر وارد.
مشكلة كبيرة
لدى بريغوجين مشكلة أكبر من أيّ مشكلات محتملة يواجهها المدوّنون القوميّون، من بينهم تتارسكي الذي كتب في 28 آذار (مارس) أنّه ذهب إلى خطوط المواجهة برفقة بريغوجين. ليس لدى هؤلاء طموح سياسيّ بعكس ما توحي به تصريحات زعيم “فاغنر”. ثبات الحكم في الكرملين لا يعزى فقط إلى ارتفاع شعبيّة بوتين بين المواطنين الروس؛ البديل من الرئيس الحاليّ أيضاً ليس حاضراً. أن يقدّم بريغوجين نفسه كبديل محتمل، أو حتى أن يلمّح إلى ذلك، سيكون تجاوزاً للخطوط الحمراء بالنسبة إلى بوتين. لكن ثمّة ملاحظة تخفّف من توقّعات أيّ رهان لبريغوجين في هذا السياق، وهو خضوعه للعقوبات الغربيّة بسبب تدخّله في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة سنة 2016 وارتكاب “فاغنر” لانتهاكات حقوقيّة جسيمة.
ربّما يعتمد “نجم” بريغوجين على مواصلة تحقيق الانتصارات على الأرض. قال الصحافيّ الروسيّ الاستقصائيّ دنيس كوروتكوف إنّه لو عجزت “فاغنر” عن تحقيق إنجازات بارزة في أوكرانيا “فسيسقط نجم بريغوجين بالطبع. وسيكون هناك الكثير من الناس الذين سيفرحون للمشاركة في دفنه”.
لكن بصرف النظر عن النجاحات العسكريّة لـ”فاغنر”، وحتى عن أيّ أهداف سياسيّة مستقبليّة له، يبقى أنّه بعد انتهاء الحرب، سيكون بريغوجين متمتّعاً بجيش خاصّ به داخل روسيا، الأمر الذي يجعله لاعباً داخلياً ذا وزن بارز في مرحلة ستكون حسّاسة. بالتالي، حتى لو كانت كييف مسؤولة عن استهداف تتارسكي، وهو ما تنفيه اليوم، يصعب تصوّر أن يكون بريغوجين مرحّباً به في موسكو على المدى الطويل.
المصدر: النهار العربي