منذ ماينوف عن تسع سنوات خلت، جاء محمد أمين إلى مدينة (كهرمان مرعش) قادمًا من مدينة (أريحا) شمال سورية، التي قصفها النظام السوري المجرم، وقتل منها ومن شعبها الطيب الكثير الكثير. وكان من الضحايا/ الشهداء ابن محمد أمين (أحمد بهاء) الذي رحل إلى الرفيق الأعلى شهيدًا جراء القصف الهمجي الأسدي على الشعب السوري. لم يكن (محمد أمين) يحب الهجرة ولا التهجير، ولا يُفضل مغادرة الوطن. بل جاء ذلك بضغط عاطفي إنساني من أسرته التي تمنت عليه أن ينجو بمن بقي من الأسرة قبل أن يكمل نظام الإجرام فعلته، ويقتل الآخرين. وبالفعل فقد عاش (محمد أمين) مع أسرته بهدوء وجد وعمل، كي يستطيع أن يُعلم الأبناء والبنات، ويُنتج أسرة جميلة وطيبة المعشر، وهو ماكان خلال سنوات التهجير القسىري التي عاشها كلها في (كهرمان مرعش) وفي بيت متواضع قديم، لكنه مليء بالحب والعمل واستقبال الضيوف، والكرم العربي الذي لايعرف حدودًا له .
حتى جاء الزلزال الرهيب صبيحة السادس من شباط/ فبراير 2023حيث كانت الأسرة في نومها الهانيء ليصبح هذا البيت الجميل (وخلال لحظات) ركامًا فوق رؤوس وأجساد ساكنيه، ولأن الكارثة كبيرة، والفاجعة أكبر، لم يتمكن أحد في البداية من الوصول إلى هذه الأسرة الرائعة، حيث كانت الإمكانية بإخراج شاب وطفلتين فقط، بينما قضى محمد أمين شهيدًا (بإذن الله) مع أسرته المؤلفة من زوجته رنا وبناته هبة الله، ودارين، وفاطمة الزهراء، وكذلك زوجة ابنه، وطفلها الرضيع.
كانت هذه الأسرة التي فقدنا، تمتلك من المحبة والتواد والإيثار مايوزع على الدنيا كلها، وكان رب الأسرة محمد أمين من الشخصيات الوطنية السورية التي تتميز بالإيمان الكبير والعميق بالله جل شأنه، كما كان محبًا إلى درجة العشق لرسول الله(ص)، وهو من زار قبره أكثر من مرة فحج واعتمر، واكتحلت عيناه برؤية قبر الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
كان محمد أمين ممن لايقبل الضيم من أحد، فكيف إذا كان نظامًا طائفيًا فاجرًا قتل ماقتل من السوريين في ثمانينات القرن الفائت، ثم جاء ليتابع عبر الوريث المجرم (بشار الأسد) في قتل السوريين حتى تجاوز عديد قتلاه المليون، وهجَّر أكثر من نصف الشعب السوري، واعتقل مايقرب من ٩٠٠ ألف من أبنائه الميامين. لذلك فقد كان خيار محمد أمين منذ نعومة أظفاره الانحياز للناس البسطاء، كل الناس، والعمل ليلًا نهارًا لإنجاز الثورة الشعبية السورية على الطاغية المستبد، من هنا فقد انحاز إلى ثورة الحرية والكرامة، وساهم حثيثًا في التنسيق لمظاهراتها الأولى التي انطلقت في (أريحا) و(جبل الزاوية) فكان ثائرًا سلميًا مكافحًا، في منهجه ونظرته إلى الثورة ضد الفاشيست الأسدي. فعمل كل مافي وسعه مع أولاده ليكون مساهمًا سلميًا فعالًا في كنس الطغاة، فشارك في كل المظاهرات التي خرجت ضد الطغيان الطائفي الأسدي، وكان بقلمه وخطه العربي الجميل وفنه الراقي، من كتب وخطط معظم لوحات الثوار التي حملوها في انتفاضتهم الثورية ضمن شوارع أريحا ومحافظة إدلب.
محمد أمين كان من طينة أخرى غير مانراه عادة ضمن أنساق المجتمعات، فهو من النوع الذي يمتلك حيوية ونشاطًا لم أر مثله، وهو من الشخصيات التي لاتنحني لأحد سوى الله، هامته كانت واقفة شامخة على مدى الأيام، وهو من يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، وهو الذي إذا اؤتمن وفى، ولم يخن يومًا ولم يهون، بل كان وعلى الدوام ذلك الرجل الرجل، عفيف النفس كريم النفس العطاء رغم فقره وقلة حيلته المالية، لكنه أبدًا لم يكن إلا عزيزًا كريمًا معطاء.
قبل الزلزال بأسبوع (تقريبًا) اتصل بي كعادته للإطمئنان عن صحتي وأوضاع الأهل في (غازي عينتاب) حيث كانت أوضاعي الصحية تشغله، ويخاف عليَّ كثيرًا ويتابعني للإطمئنان عنها،اتصل وتحدث طويلًا بعباراته المحببة إلى قلبي، ثم قال هاهم أطفالي وأبناىئي يودون التحدث إليك، وبالفعل فقد جعلني أتحدث معهم جميعًا فردًا فردًا، وكأنه يريد أن يودعوني، حيث لم يعد بالإمكان رؤيتهم بعد كارثة الزلزال. كانت سهرة هاتفية جميلة ستبقى ذكراها عالقة في مخيالي، حتى أرحل وأراهم هناك حيث الكل في الواحد .
وإذا كان الحديث عن أخي (محمد أمين سعدو) يحرك المواجع، ويعتصر عبره القلب، وأشعر بأن القلب والعقل يتقطعان، إلا أن ماتركه هذا الرجل من بعض أولاده، ومن رؤيته الحضارية للحياة، ومن تفكيره الإيماني، وعطائه المتتابع، سيجعل الحمل علي ثقيل ثقيل، والقدرة على متابعة المسير صعبة للغاية.
إنما الأمل بالله مازال لدى السوريين، وهو موجود وكذلك عمق الوعي الإرادوي متوفر، وسوف يبقى، حتى تحقيق ما أمل بتحقيقه محمد أمين، والكثير من السوريين الذين حلموا بالحرية والكرامة ورحلوا قبل إنجازها، سيبقى الأمل بالله موجود وحاضر، والإرادة الشعبية السورية باقية ومصممة رغم ذلك، بالوصول إلى الغايات النبيلة، ولن تثنينا بعون الله أية معوقات، حتى لو حال دون ذلك ذلك شذاذ الارض قاطبة، الوصول إلى المبتغى كان أمل محمد أمين وأملنا، بمعونة الأصدقاء والأشقاء، من إخواننا الأتراك، حيث وجدنا من التآلف والمحبة إبان الزلزال المدمر، ما لم نكن نحلم به، حيث تعود أواصر القربى والتعاون والود منجدلة من جديد بين ظهراني الشعبين التركي والسوري رغم أنف الذين لايريدون ذلك. رحمك الله يا محمد أمين، ورحم الله كل شهداء الزلزال من ترك وسوريين، بل وكل الشهداء. .
المصدر: مجلة المشترك