على سفوحِ سلسلةٍ جبليّةٍ جرداء تنزلق نحو سهلٍ فسيح يشقه نهر قويق، أُنشئ مخيم عين التل “حندرات” الذي ولدت فيه صيف عام 1969، بعد قرابة سبع سنوات، من استئجار مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين من الحكومة السورية، ذاك المكان النائي وغير المأهول في شمال مدينة حلب، والذي يبعد عن وسطها قرابة ثلاثة عشر كيلو متراً، ليكون مخيماً للاجئين الفلسطينيين، الذين اقتلعوا من ديارهم إثر نكبة عام 1948. يُعد ثاني مخيمات مدينة حلب، بعد مخيم النيرب الأكبر من حيث عدد اللاجئين فيه. ثمة مصادفات قدريّة تتعلق بولادتي ونشأتي في مخيم، هو الأبعد عن فلسطين جغرافياً من بين كل المخيمات الفلسطينية، التي توزعت مابين سوريا والأردن ولبنان. وبمغزى ذي دلالة كبيرة، أن يشبه في تضاريسه الطبيعية، والمختلفة عن بقية المخيمات الأخرى في سورية، العديد من القرى الرابضة في الجليل الأعلى، ومنها قرية ترشيحا، التي تنتمي إليها عائلتا أبي وأمي، والعديد من العوائل التي سكنت المخيم، وتجمعت كلّها في القسم الشمالي الشرقي منه، في حارة “التراشحة”. على هذا النحو كانت تسمى حارات المخيم الأخرى، على أسماء أهالي القرى الفلسطينية التي جاؤوا منها “عين غزال والطيارنة والغوارنة والصفدية والزيب”. أما كيف تحول هذا المرتفع الجبليّ الخالي والموحش، الذي كان يخشى الحلبيون المرور فيه قبل أن يطأه الفلسطينيون، إلى مدرجٍ سكنيٍ أخضر يزدان بالأشجار الباسقة بين كتفيّ الجبل. فهذا ما ترسخ في ذاكرتي في وقت مبكر، من خلال أحاديث وسرديّات آبائنا، عن قيامهم باقتلاع صخور الجبل بالمطارق والمعاول والشواكيش، وتكسيرها إلى قطعٍ صغيرةٍ متساويةٍ في الحجم، كما يفعل الحجّارون، لاستخدامها في بناء قطعة الأرض الممنوحة لكل عائلةٍ منهم. منذ اللبنات الأولى للمخيم، كان هاجس الأهالي القابع في مخيَالهم، أن تكون بيوتهم الجديدة ومخيمهم الوليد، على صورة بيوتهم وقراهم في فلسطين، ورغم أن غالبيتهم أمسوا مفقرين بحكم اللجوء، بعد أن تركوا كل أملاكهم وأرزاقهم هناك، لم يثنهم ذلك عن إلحاق “دُورِهم” التي شيّدوا أغلبها غرفةّ تلو غرفة، مع تزايد أفراد أسرهم سنةً بعد أخرى، بالحواكير المخصصة لزراعة الأشجار، وشتلات الورود، وبعض الخضراوات، كتلك التي كانوا يزرعونها في حواكير بلادهم.
اكتملت صورة إحياء وطنهم المفقود في مخيمهم المولود، مع انتشار الزعتر البري، وأوراق الميرامية، وزهر الحنون، والعكوب، بين صخور الجبل، فيما تمددت شقائق النعمان، والزنبق البري، والخبيزة، والهندباء، في السهل، وعلى أطرف النهر المحاذي. احتالوا على الأرض الصخرية، التي تستعصي على الزراعة التي يعشقونها كفلاحين سابقين، وأخرجوا التراب الأحمر من بين “شقفان” الجبل، وحملوه بالتنك والزنابيل إلى بيوتهم، من أجل استصلاح وزراعة الحواكير، التي سوروها بالشحف الحجري. شارك جميع أفراد العائلة، من رجال ونساء وأطفال، في تلك الأعمال الشاقة. لطالما ردد من عايشوا تلك الحقبة من تأسيس المخيم، على مسامعنا نحن الجيل الذي جاء بعدها، وقد شهدنا مراحل تلتها من توسع المخيم، ما عانوه وكابدوه في تلك الأيام والسنين الصعبة، حتى غدا المخيم مكاناً صالحاً للعيش، يجمع بين ملامح الريف، الذي يقع على خط مدينة حلب جهة الشمال، وخصوصية حياة وأحلام ساكنية من اللاجئين.
في مثل تلك البقعة المفتوحة، كان من حظ ساكنيها، أن يحصلوا على “نمرة” وهي الوصف المساحي الذي تستخدمه مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين التي أنشئت عام 1949، لقطعة الأرض المخصصة لكل أسرة، وكانت أكبر من تلك التي تم منحها للاجئين في بقية المخيمات، كأنها تعويض عن قبولهم ارتياد الجبل، وحفره، وغرس بيوتهم فيه، بعد انتزاع أحشائه الصخريّة. أدركتُ ميّزات هذا الانشراح المكاني المترامي على مساحة 200 دونم، مع عدد سكانه القليل، الذي لم يصل لأكثر من 2000 نسمة في نهاية السبعينيات، ثم تضاعفت أعدادهم مع الوافدين الجدد للمخيم، حتى بلغت ما يقارب 8000 نسمة، في نهاية العقد الأول من الألفية الثانية. حينما كنت أزور في طفولتي، مخيم النيرب برفقة الأهل، قبل أن يتوسع شرق سكة القطار، فأرى مخيماً من نوعٍ آخر، تغصُّ بيوته وزواريبه الصغيرة بزحمة ساكنيه، ويهرع أهله إلى طريق السكة، وبساتين المطار، كي يتنفسوا الصعداء من وطأة ازدحامه. بيد أنَّ ضجيج الحياة، ودبيب الحركة التي لاتهدأ في ذاك المخيم، الواقع شرق مدينة حلب، كانت تجعلني وأنا في سنيّ الطفولة والمراهقة، كمن وجد ضالته في اللهو، بأشياء غير متوفرة في مخيمي الهادئ حدَّ الضجر، ومنها ركوب المراجيح، وقيادة الدراجات الهوائية المُستأجرة، وغيرها من ألعاب ترفيهية، في مقاييس ذاك الزمن، كانت تبعث فيّ البهجة والسرور.
بعد أن أتيحت لي في مقتبل الشباب، زيارة مخيمات أخرى في سوريا، ولاحقاً في لبنان، كنت أشعر باختلاف تأثير الأمكنة التي تلتصق فيها المخيمات، على طرائق حياة وأمزجة ساكنيها، رغم التشابه النسبي في اهتمامات وهموم أهليها. إذ لم تبرحني طيلة حياتي، روح البراري التي نفخها مخيم ” حندرات” وأرجاء محيطه، في عروقي منذ براعم طفولتي. تلك الروح أيقظت فضولي البكر، لمعرفة الأمكنة التي حجبتها الجبال والسهول عن المخيم. جائلاً لوحدي أحياناً، وأنا ما زلت في المرحلة الابتدائية، ومع رفقائي الصغار في أحيانٍ أخرى، حتى وصلت إلى قرية حندرات وتل جبين وحريتان والقبر الإنكليزي غرباً، وإلى قطع طريق المسلمية حتى السجن المركزي شمالاً، وصولاً إلى قرية البريج شرقاً. أما جنوباً باتجاه مدينة حلب، فأذكر وأنا في الصف الخامس الابتدائي، أن أقيمت مباراة لكرة القدم، في الملعب الكائن في حي بستان الباشا، بين فريق “فنار بخشة التركي”، و”فريق فلسطين” من لاعبي المخيم. حينذاك رفض شباب المخيم المشجعين لفريقنا، اصطحابي معهم في الباص لصغر سني، فقررت اللحاق بهم سيراً على قدماي، ولهيب الشمس الحارقة يضرب رأسي، وأمسكت بخط الشارع الرئيسي، كي لا أتوه عن وجهتي، حتى وصلت وقد شارفت المباراة على الإنتهاء. أعادوني الشباب معهم إلى المخيم، وقد بدا على وجوههم الإستغراب والدهشة، من قيام ولد في عمري بقطع كل هذه المسافة الطويلة سيراً لوحده. في البيت كانت تنتظرني شحاطة أمي، التي أغضبها ماقمت به، فنلت منها جزاء فعلتي، وأنا فرحٌ بأعماقي لأنني نفذت ما دارَ في رأسي. بقيت مشدوداً منذ تلك الأيام والسنين البعيدة، إلى لعبة الاتجاهات، واكتشاف ما يقبع وراء مدارك حواسي، وما يثير مخيلتي ويطلق عنانها، نحو البحث عن العوالم القريبة والقصيّة. سارحاً في ملكوت تلك الأصقاع الريفية، التي تختلف في أنماط عيشها ولباسها ولهجتها، عن حياة ساكني المخيم، رغم تشابه البيئة المحلية في أوجه كثيرة. فيما كانت مدينة حلب التي زرتها في طفولتي برفقة الأهل، بين الفينة والأخرى، لاسيما لشراء ألبسة الأعياد، أو زيارة بعض الأقرباء، أو لحضور مواسم “سوق الإنتاج”، التي واظب أبي أصطحابنا؛ كأسرة مجتمعة لحضورها، تشكل في ذهني ومخيلتي متاهة ضخمة وغريبة، سأفكُ بعض ألغازها وطلاسمها العالقة في ذاكرتي، عندما درست المرحلة الثانوية، ثم دراستي الجامعية فيها، ومع انتقال سكن عائلتي إليها لاحقاً.
في المخيم، لا يرضع اللاجئ الفلسطيني منذ ولادته حليب أمه فحسب، بل يرتشف في مراحل نموه وتبرعم وعيه، تلك الذاكرة التصويرية والشفوية الراسخة في روايات الأجداد والآباء، عن أدق تفاصيل عوالم قرانا وديارنا الأصليّة في فلسطين، وعن رحلة اقتلاع الرواة المطرودين منها، وما شهدوه من أهوال النكبة، والدروب التي سلكوها في طريقهم الإجباري نحو المنافي. ورثت وتشبّعت تلك الروايات العالقة، في أعماق ذاكرة ضحايا النكبة وشهودها، كغيري من الأجيال، التي ولدت في مخيمات البلاد المجاورة لأرضنا السليبة. لم أنسَ ما حييت أحاديث أبي عن رحلة خروجه وعائلته، من قريته ترشيحا عشيّة سقوطها بيد القوات الصهيونية، في 28 تشرين الأول 1948، بعد نفاذ الذخيرة من حاميتها، والمؤلفة من أبنائها المدافعين عنها، وتعرّض بيوتها لقصفٍ شديد من طائرات ومدافع العدو، أدى إلى سقوط وإصابة عشرات الضحايا المدنيين. كان آنذاك في الثالثة عشرة من عمره، وظلَّ يمشي مع عائلته الكبيرة، ثلاثة أيام متواصلة، حاملاً شقيقه الأصغر منه “عمي هاشم” على ظهره، حتى وصلوا قرية بنت جبيل الحدودية على الطرف اللبناني، ومنها إلى مدينة صور، التي كانت تنطلق منها قطارات الشحن المحشوّة باللاجئين، مروراً في مدينة بيروت، ومن ثم صوب المدن السورية.
في أمسيات الصيف، ونسائمها العليلة التي تهب على المخيم، كان يجتمع في فناء بيتنا الذي تظلله شجرة توت كبيرة، ويتوسط تقريباً بيوت أعمامي وأخوالي، وخالتي وعمتي، وجدتيّ الأرملتين، نفس الوجوه المألوفة، من الأقرباء والجيران، وأحياناً ينضم إليهم ضيوفاً من أصدقاء العائلة. كأنها مضافة صغيرة في الهواء الطلق، يستحضرون فيها ونحن الصغار نتحلق حولهم، ونشنف آذاننا على تلك السرديّات، التي تغذي المصب الحكائي، لذكرياتهم المتناثرة بين زمن ما قبل النكبة، وما عايشوه بعدها حال وصولهم إلى حلب. كانت أسماء مثل “الخان والمحجر والنيرب ً”، وهي أماكن توزعوا عليها في المدينة وأطرافها، قبل بناء مخيماتهم فيها،، تتكرر في ثيمات أحاديثهم دون انقطاع. في أحد الأيام سألت ستي فاطمة القاضي “إم صلاح” التي ترمّلت وهي في عزِّ صباها، وكنّا أحفادها من بناتها وأولادها، نتسابق على النوم في بيتها العابق برائحة القهوة، التي كانت تطحنها بماكينة يدوية، وتضع ركوتها النحاسية على بابور الكاز، كطقس يومي منذ الصباح وحتى موعد نومها، عن معنى تلك “الأسماء” التي يرددها الكبار على ألسنتهم ؟!، فقالت لي بلهجة حزينة : ” لما وصلنا حلب أيام النكبة السودا، حطونا في مهاجع وبركسات، والله ياستي كثير عليها تكون للحيوانات مش للبشر، وتوزعنا عليها، ناس سكنوا الخان، وغيرهم بالمحجر، وأكثرهم في النيرب قبل ما يصير مخيم. قسّموها لخشش، يعني بيت لكل عيلة، وما بفصلها عن بعض غير أغطية وبطانيات قماشية، وطول الوقت منسمع كلام بعضنا البعض، وإذا تصايح الزلمة مع مرتو، الكل بسمع القصة كأنها فوق راسو، ومع هالشي الحمد لله حافظت الناس على شرفها وأخلاقها، وتعلموا أولادهم فيها على ضوّ زيت الكاز”. واستدركت قائلةً: “قعدنا ياستي مدة قصيرة بالنيرب مع جماعتنا، لكن سيدك أبو صلاح، ما خلّانا نبقى هناك، وكان معو شوية مصاري من رزقنا بفلسطين، وأنا بعت دهباتي، وكرينا بيتً عربي في بستان كليب، عشنا فيه عدة سنوات، وكان حدانا جارة مسيحية اسمها أم جورج، بقينا معها مثل الأهل. بعد وفاة سيدك الله يرحمو، استكرينا بيت ثاني في حي العرقوب قرب “الخان”. وبعدها انتقلنا للمخيم، بعد ما أخذنا قطع أرض لأخوالك المتزوجين ونسوانهم وأولادهم.”
ترعرعت وتشكّلت انطباعاتي الأوليّة في تلك الأجواء، بين معشر من اللاجئين البسطاء، والمتكاتفين في السراء والضراء، يحظى كبار السن باحترام الأصغر منهم، ويرتبط الأقرباء والجيران بعلاقات وديّة طيبة، نادراً ما تعكر صفوّها خلافات أو مشاجرات. لم تكن في أيامنا تلك، صالات لإقامة الأفراح أو مجالس العزاء، فكلها تقام إما داخل البيوت أو في ساحات الحارات، ويتضامن الجميع خلالها على تأدية واجباتهم، كأنهم عائلة كبيرة واحدة. لاتلمس فروقات طبقية أو اجتماعية بين المنتسبين إليها، وحتى الحساسيات بين بعض الأسر أو الأفراد، كانت تذوب تماماً في تلك المناسبات. باستثناء حادثة القتل التي تمت بسبب خلاف بين عائليتين، في عام 1978. يومذاك دخل المخيم في حالة اكتئاب جماعي على وقع تلك الصدمة، التي قضّت مضاجع سكينته. يتولى الأب في هذا المجتمع الصغير، الذي يعرف الجميع بعضهم البعض، أو الأخ الأكبر إذا كان الأب متوفياً، تأمين رزق العائلة، فيما تتفرغ الأمهات لتربية الأطفال وإدارة الشؤون المنزلية.
رويَ أمامي على لسان الجيل الأول في المخيم، الكثير من تفاصيل حياته، البسيطة والقاسية في آن، فعدا الكهرباء التي وصلت بيوته بعد سنوات قليلة من نشوئه، كانت خدمات الدولة غائبة عنه حتى منتصف الثمانينيات. فتحت الأونروا في بداياته مدرستين، وكان الأهالي يذهبون “للحكمة” أي الطبابة في مستوصف الأونروا في مدينة حلب، قبل أن تفتح الأخيرة مستوصفاً لتخديم المخيم في سنوات لاحقة. كانوا يعتمدون في تأمين الخبز على فرن واحد يعود لإحدى عائلات المخيم ” فرن إم بسيم”، وبضع دكاكين صغيرة توزعت على حاراته. ينطلق أرباب الأسر في الصباح الباكر، لجني قوت يومهم، من عملهم الطويل والشاق، في المصانع والمعامل المنتشرة داخل أحياء المدينة. يعودون في المساء من الطريق السفلي، ويقطعون سكة الحديد المحاذية للمخيم من جنوبه إلى شماله، صعوداً إلى بيوتهم في الجبل. يحملون وظهورهم محنيّة، أكياس بقالة وغيرها، من حاجيّات عوائلهم، يشترونها من سوق “عين التل” غالباً، لعدم توفر الكثير منها في دكاكين المخيم البسيطة. فيما أخذ قسم من الأهالي يعتمدون على عربات الخضار، التي يأتي بها الفلاحون من القرى المجاورة، لبيع حمولتها في المخيم.
من حظيَ منهم – آوانذاك – اقتناء “ترانزستور”، كان يستقي منه الأخبار التي تبثها موجة صوت العرب، وقد خذلتهم وعودها بالنصر، إثر هزيمة العام 1967، كحال ملايين العرب، وما تبثه موجة إذاعة لندن، التي كانوا يفضلون سماعها، لمعرفة أخبار العالم الخارجي، قبل أن يدخل عصر التلفاز بيوت المخيم. في حرب تشرين عام 1973، شاهدوا لأول مرة بأم أعينهم بعد خروجهم من فلسطين، الطائرات الإسرائيلية القادمة من جهة الغرب، وهي تعبر سماء المخيم، وتخرق نعاسه الصباحي بجدار صوتها الهادر، في طريقها إلى قصف مطار النيرب. لم يمضِ مساء ذاك اليوم المشهود، إلا باستضافة أهالي المخيم، العديد من أسر أقربائهم من مخيم النيرب، كنازحين عندهم لبضعة أيام، ريثما انجلى غبار تلك المعركة.
———————- يتبع في الحلقة الثانية ————————-
المصدر: موقع مصير