لا يتوقع أحد عاقل، أن تتوقف انهيارات “إسرائيل” الداخلية، فقد بنيت هذه “الدولة” على زيف مطلق، لا يحجب أبدا حقيقتها ككيان احتلال استيطانى إحلالى ، وأريد لها أن تبدو كدولة طبيعية ، لها سمات دول الغرب الاستعمارى الذى أنشأها ويحميها ، وتنتحل صفة المجتمع المستقر بتكوينه التاريخى ، وبصراعات الطبقات والمذاهب فيه ، وبتوزيعات نخبه إلى يمين ويسار ووسط ، وبتداول سلطة يبدو ديمقراطيا ، وبفصل سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية ، يجعل إسرائيل كما يزعم المؤسسون والتابعون ، تبدو كمثال ديمقراطى غربى فريد وسط صحراء الاستبداد العربى المحيط .
بدا الاصطناع ظاهرا فى القصة كلها ، فما من دولة طبيعية فى الشرق والغرب والجنوب والشمال ، تبدو على الهيئة “الإسرائيلية” ، جرى ويجرى جلب سكانها من بيئات تاريخية وعرقية وثقافية مختلفة ، اللهم إلا فى دول الإحلال الاستيطانى فى الأرض الجديدة عبر القرون الأخيرة ، كما جرى مثلا فى تاريخ الأميركتين الشمالية والجنوبية ، وفى استراليا ونيوزيلندا وغيرها ، مع فارق مرئى تماما ، هو أن دول الاستيطان النهائى الناجح ، أحلت جماعات الاستيطان بثقافاتها الوافدة ، ومحت أو كادت تمحو كل وجود مؤثر للسكان الأصليين ، ولم تبق منهم سوى شذرات سكانية متفرقة ، لا تقوى بعد اقتلاع جذورها الأصلية على مقاومة ذات مغزى ، فقد أفنيت الشعوب الأصلية بمذابح جماعية مروعة ، وهو ما أتاح للشعوب الوافدة ، أن تبنى مجتمعاتها فى خلاء سكانى وجغرافى ، وأن تستعير من ثقافة المنشأ الغربى الغازى ، وأن تطور ما يشبه الديمقراطيات الغربية ، بعد مخاضات عنيفة ، وثورات وانتفاضات ، وهو ما لم يحدث مثله فى سيرة الاستيطان الإسرائيلى ، ولا فى سير حالات سبقت من استيطان الغاصبين ، خصوصا فى قلب العالم القديم ، كما جرى مثلا فى الجزائر وجنوب أفريقيا ، وقد انتهت إلى استيطان فاشل بامتياز ، ولأسباب ظاهرة ، أهمها كثافة حضور الشعوب الأصلية ، واستعصاؤها على مذابح الاقتلاع والإحلال ، أضف إلى ذلك مآزق أخرى فى حالة “إسرائيل” ، التى أراد لها مؤسسوها ، أن تبدو كدولة حديثة ، ترتكز فى عملية تكوينها على أساطير توراتية قديمة فى الوقت نفسه ، وهو ما بدا فى معضلة “ديفيد بن جوريون” المؤسس الأول ، القادم وأسرته من “بولندا” ، والملحد بلا شبهة ، فقد كان يهزأ بالتوراة ووعودها وأرض ميعادها ، لكنه يراها مفيدة نافعة فى جلب اليهود إلى فلسطين ، ويثق بالقوة وحدها ، التى لا تبنى كيانا محاربا بغير “الكيبوتزات” و”الهستدروت” وتكريس أساطير العمل العبرى ، وعبثا حاول “بن جوريون” مع نظرائه تطبيع الدولة ، فلم يجد سوى ما أسماه “إعلان الاستقلال” ، وإن بدا فى العنوان زيفه ، فهو فى حقيقته إعلان احتلال لا استقلال ، مشفوع بأساطير دينية كاذبة ، لا يصدقها “بن جوريون” نفسه ، الذى لم يجد متسعا لصياغة دستور لدولته ، ينظم به سلطاتها وعقدها الاجتماعى ، فقد وجد نفسه بصدد كيان مهمة ، لا كيان دولة يجرى تطبيعها ، والمهمة الحربية المفتوحة ، لا تتساوق مع بناء مجتمع مدنى مستقر ، وكيان المهمة بلا حدود ، لا تحميه سوى العسكرة الدائمة ، والذهاب لملاقاة الخطر ، وبغير حدود يمكن عقلنتها وتبريرها ، فالمهمة العدوانية بلا نهاية ، والدولة بالتعريف ذات حدود نهائية معروفة ، والذين اجتمعوا فى الكيان من مشارب متنوعة متناقضة ، بعضهم يؤمن بأساطير زيف من نوع “إسرائيل الكبرى” ، وبعضهم الأكثر نفوذا يترك الأقواس مفتوحة، ولا يستبقى من اليهودية سوى معنى ثقافى ، يتسق مع دعوى الصهيونية ، التى تزعم أن اليهودية ليست مجرد ديانة ، بل شعب وقومية وعرقية واحدة نقية ، وهو ما لا يقوم عليه دليل فى الواقع ، ولا فى علم تطور الأجناس ، فلا “الأشكناز” الغربيون يشبهون “السفارديم” الشرقيين والعرب ، ولا “يهود التوراة” الذين انقرضوا تقريبا ، يشبهون المتهودين من نسل مملكة “الخزر” القروسطية فى شرق أوروبا ، وهم الكثرة الغالبة بين يهود الغرب والمجلوبين منه ، وفى غابة التناقضات ، كان اللقاء الوحيد الممكن على حد السيف ، وعلى ملتقى الحروب الناجحة المدعومة من الغرب بكل قوته ، وحين توقف الفوز الحربى السريع ، بدأت التناقضات تطفو على السطح ، وتؤتى أكلها السام فى العمق ، ولم يكن من فراغ ، أن “نفتالى بينيت” زعيم حزب “البيت اليهودى” مثلا ، وهو ابن اليمين الدينى الإسرائيلى المهووس بأوهام التوراة ، وإن كان يعادى “بنيامين نتنياهو” اليوم ، ويجد نفسه محشورا رغم أنفه فى زمرة ما يسمى أحزاب وجماعات المركزوالجنرالات واليسار، وتعتبر نفسها فى حرب مع حلفاء “نتنياهو” الأشد تطرفا ويمينية ، وفى زحمة التباسات مختلطة بالانهيارات ، بدا “نفتالى” هلعا على مصير “إسرائيل” كدولة ، وقال أنها تواجه خطرا وجوديا غير مسبوق منذ حرب 1967 ، فقد كانت هذه الحرب آخر انتصارات إسرائيل ، ولم تفز “إسرائيل” بعدها فى حرب أبدا ، لا فى حرب الاستنزاف ولا فى حرب 1973 ولا فى حرب لبنان ولا فى حروب غزة الخمسة ، وها هى اليوم ، ومنذ سنوات ، تواجه حربا من نوع مختلف فى الضفة والقدس والداخل المحتل منذ نكبة 1948 ، أى أنها تواجه الحرب بين ظهرانيها ، وفى صلب فكرتها المتواطأ عليها تلفيقا ، والتى لم تحسم أبدا هوية الدولة ، إلا بصياغات رجراجة على الورق ، فتعريف “إسرائيل” لنفسها كدولة “يهودية” خالصة ، يواجه بحقيقة مختلفة ، هى أنها تحتل أرضا هى فلسطين التاريخية كلها إضافة للجولان ، غالبية سكانها من الفلسطينيين العرب ، لا من اليهود المجلوبين ، ثم أن تعريف إسرائيل لنفسها أحيانا كدولة “ديمقراطية” ، يواجه بحقيقة نافية للديمقراطية ، فلا تتسق الديمقراطية مع الاحتلال والفصل العنصرى ، ثم أنه ليس من تعريف متفق عليه لليهودية فى إسرائيل ، وتضخم اليمين اليهودى المتطرف يهدد بجعل “إسرائيل” إثنتين لا واحدة ، “إسرائيل” لليهودية الأرثوذكسية “الحريدية “، و”إسرائيل” أخرى لليهودية الثقافية و”الإصلاحية”، وبين “الإسرائيلتين” فصام داخلى ، بدت فيه مشاهد الأسابيع الأخيرة العاصفة ، وتدفق مظاهرات الغضب من الطرفين ، المتدافعة إلى الشارع بمئات الألوف ، وكأنها تمهيد لصدام دموى ، تخوف معه بعضهم من اندفاع “إسرائيل” إلى حرب أهلية بين “إسرائيل العلمانية” و”إسرائيل الحاخامات” .
المحصلة إذن ، أنه لم يكن للكيان الإسرائيلى أن يصل إلى حالة الإنشقاق الأخيرة ، وإلى دوامات الانفلات الجامح ، الذى زحف من الشارع إلى صلب جيش الاحتلال نفسه ، لم يكن لذلك وسواه أن يحدث فى التكوين الهجين، إلا تحت ضغوط خمسة عقود مضت من الشعور المتزايد بالإحباط ، وبتدنى فرص الفوز فى المقتلة ، التى بنى كيان المهمة الإسرائيلى على اتصالها ، فالقصة أبعد من خلاف عابر باسم إصلاح أو تقويض القضاء و”المحكمة العليا” ، وأكبر من شهوة “نتنياهو” بالبقاء على رأس السلطة ، وعبر “هد حيل” القضاء الذى يطارد جرائم فساده وخيانته للأمانة ، ولم يجد لذلك سبيلا ،غير التحالف فى حكومته “السادسة” مع المدانين بالإرهاب وأرباب السوابق ، من نوع أحزاب “بن غفير” و”سموتيريتش” ، وكلهم يتلطى تحت عناوين دينية من ماركة “العظمة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” ، ويريدون أن يجعلوا من القضاء ظلالهم لا سيفا عليهم ، ويدركون بالغريزة أن عقائدهم إجرامية ، وأن استتارها بالدين محض زيف ، لا يتساوق مع اعتبارات الدولة أى دولة ، حتى لوكانت كيان مهمة كالكيان الإسرائيلى ، ولا حتى مع مخاتلات اللعب على الحبال ، التى درج عليها زعماء “إسرائيل” الكبار والصغار ، وتسوية التناقضات بتجاهلها غالبا ، وتوجيه طاقة التجمع الإسرائيلى للعدوان الهمجى على الشعب الفلسطينى المقاوم ، وهو ما دفع فرقاء السطح “الإسرائيلى” للبحث عن تسوية مع “نتنياهو” ، وتهدئة الاشتباك الداخلى بعد استعراضات القوة التى جرت ، والتقاط مناورة “نتنياهو” بتأجيل مناقشة قوانين السيطرة على القضاء فى “الكنيست” ، والبحث بالتفاوض عن صيغة وسطى ، قد لا يدوم أثرها طويلا ، فاليمين الدينى المدعوم بتزايد متصل فى قوته الانتخابية ، استغل حتى فرصة التهدئة لكسب قوة سلاح إضافية ، وإضافة ميليشيا باسم “الحرس الوطنى” ، بعد تسليح مئات آلاف المستوطنين ، وفى حرب كبرى يتصورها ضد صحوة المقاومة الفلسطينية ، لا يجد لها بديلا لكسب ما يسميه “إسرائيل الكبرى” ، التى عرض بعضهم خريطتها المتضمنة للأردن ولما وراء الأردن ، وفى عوارض دفاع نفسى مع اجتياح المخاوف للكيان الإسرائيلى ، واللجوء مجددا لحقيقته ككيان مهمة حربية دائمة لا كدولة طبيعية ، بينما يحتمى الواهمون بطبيعية دولة إسرائيل وراء جدار رمزى اسمه “المحكمة العليا” ، لا تعنى للفلسطينيين سوى حقيقتها كأداة قهر وتسويغ احتلال ، يواجه كيانه انهيارات داخل لا مفر منها ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .
المصدر:عربي 21