روسيا والصين في العالم: «ظهراً لظهر»!

فيتالي نعومكين

«نحن نقف ظهراً لظهر مع روسيا، ونحمي أنفسنا من الذئاب التي تهاجمنا»، عبارة قالها الزعيم الصيني شي جينبينغ. لقد قادتني هذه الصورة التي جاءت على لسان الزعيم الحالي لجمهورية الصين الشعبية إلى شيء من الدهشة، واستحضرت ذكريات الماضي البعيد. ذلك أن المرة الأولى التي تم فيها الاتفاق على الوقوف «ظهراً لظهر» كانت بين الزعيمين ماو تسي تونغ وجوزيف ستالين في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي.

وتعود صياغة هذه العبارة إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. لكن، كان الأمر يتعلق آنذاك بمسؤولية دعم الحركة الشيوعية في جنوب وجنوب شرقي آسيا من جانب الصين، وفي أوروبا والشرق الأوسط من جانب الاتحاد السوفياتي، الذي يقف وظهره إلى ظهر بكين.

وعادت هذه القصة إلى الظهور لاحقاً في سياق مختلف قليلاً. فقد نظرت القيادة السوفياتية في الستينات من القرن الماضي إلى حرب فيتنام من منظور رغبة الصين في توسيع نفوذها في آسيا، كأحد مظاهر التنافس بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة، للتأثير في المنطقة (إذ كانت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية آنذاك صعبة للغاية). وفي هذا الصدد، نظرت موسكو إلى عبارة ماو تسي تونغ الموجهة إليها: «أنتم (الاتحاد السوفياتي) تهتمون بأوروبا، ونحن (الصين) سنهتم بآسيا»، على أنها تأكيد على الاتفاق القديم بشأن تقسيم مناطق النفوذ.

ومع الأخذ في الاعتبار هذا العامل، إلى جانب عوامل أخرى، في عام 1965، نظرت قيادة الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي في مجموعة من القضايا على مسار الشرق الأوسط متعلقة باستعادة «علاقات التفاهم والثقة المتبادلة» مع تركيا، (بعد فترة من العداء). علاوة على ذلك، اقترحت وزارة الخارجية السوفياتية اعتبار هذا البلد «بوابة إلى الشرق الأوسط». وقد أدى تحسين العلاقات مع أنقرة إلى تحقيق كثير من الأهداف، بما في ذلك «تعزيز مواقف الاتحاد السوفياتي مع عدد من الدول العربية آنذاك، كواحدة من أهم مهامنا السياسية الخارجية ذات الطبيعة الاستراتيجية».

لكن، بالعودة إلى أيامنا هذه، فكما كتب إغناتيوس مؤخراً في إحدى الصحف الأميركية: «لم يكن الشرق الأوسط أحادي القطب منطقة شديدة الاستقرار، حيث كانت الولايات المتحدة المهيمنة فيه تشجع سياسة المواجهة بين حليفتيها؛ المملكة العربية السعودية وإسرائيل. بينما سيكون للشرق الأوسط متعدد الأقطاب، بتأميناته اللامتناهية وتوازناته، مخاطره الخاصة».

لا يمكنني تصديق ذلك؛ إذ يستخدم المحلل الأميركي المعروف المفردات المألوفة لدى السياسيين الروس، الذين يُعتبر تعدد الأقطاب بالنسبة إليهم السمة الرئيسية للنظام العالمي الجديد الناشئ. على سبيل المثال، وصف وزير الخارجية سيرغي لافروف في يناير (كانون الثاني) من هذا العام نشوء عالم متعدد الأقطاب بأنه «عملية لا يمكن وقفها». فالوزير الروسي واثق بأن الصين والهند وتركيا ودول الخليج وأميركا اللاتينية ستصبح مراكز التعددية القطبية، ولن يمنع ذلك «زيارات النصائح الإرشادية» ولا حروب الغرب الهجينة.

ومع ذلك، لا يميل القادة الصينيون الآن، كما يبدو، إلى تطوير أطروحة التعددية القطبية، التي كانت موجودة في كثير من الأحيان حتى وقت قريب في خطاباتهم وفي الوثائق الرسمية للحزب الشيوعي الصيني. وإذا قمنا بتحليل دقيق لخطب قادة الدولة ووثائق الحزب الأخيرة، بما في ذلك مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في الفترة من 16 إلى 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، فمن المدهش أننا لن نرى مفهوم «تشكيل التعددية القطبية»، الموجود في وثائق المؤتمر التاسع عشر، الذي عقد في عام 2017، حيث برز حينها هذا المفهوم باعتباره واحداً من السمات الرئيسية للعالم الحديث (في انسجام مباشر مع المفهوم الروسي). وبدلاً من ذلك، أظهر التقرير فرضية الحاجة إلى النضال من أجل «التعددية» في الشؤون الدولية ضد الإجراءات «الأحادية». وبالطبع، لم تختفِ «التعددية القطبية» تماماً من القاموس السياسي الصيني.

ولكن، أولاً، كما لاحظ أندريه فينوغرادوف، العالم الروسي البارز المتخصص في الشؤون الصينية، رغم الحفاظ على مفهوم التعددية القطبية في خطابات القادة الصينيين، فقد تراجعت مكانته بشكل ملحوظ. وثانياً، في الوقت نفسه، من غير المرجح أن تتوقف الصين عن استخدام المقاربات النابعة من مفهوم التعددية القطبية في سياستها العملية، التي يمكن، على وجه الخصوص، أن تتجلى في دعوات القيادة الصينية لقادة ألمانيا وفرنسا بعد المؤتمر العشرين للحفاظ على «الحكم الذاتي الاستراتيجي» وتعزيزه.

لكن، هل تتناقض هاتان الفرضيتان المذكورتان أعلاه إحداهما مع الأخرى حقاً؟

أعتقد أننا نتحدث فقط عن الفروق الدقيقة الناتجة عن تحول معيَّن في الأولويات في استراتيجية السياسة الخارجية الصينية. ويشير بعض المحللين الروس إلى أن هذا التحول حدث بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، عندما اشتدت المواجهة بين روسيا والغرب بشكل خاص. لقد اتخذت الصين قراراً مصيرياً بتعميق التعاون الاستراتيجي مع روسيا، كما يتضح من أول زيارة دولة يقوم بها الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى روسيا في أول محطة خارجية له منذ إعادة انتخابه، وكذلك مستوى الاستقبال والنتائج المذهلة لمحادثاته مع الرئيس فلاديمير بوتين. فكما جاء في البيان المشترك للاتحاد الروسي والصين خلال الزيارة في 21 مارس (آذار) من هذا العام: «لقد وصلت العلاقات الروسية الصينية القائمة على شراكة شاملة وتفاعل استراتيجي، التي تدخل حقبة جديدة، بفضل الجهود المتواصلة للطرفين، إلى أعلى مستوى في تاريخها ومستمرة في التطور إلى الأمام». ومع ذلك، وكالعادة، لا تريد بكين «وضع كل بيضها في سلة واحدة»، وتعتزم بناء علاقات، وإن كانت غير متكافئة، مع مجموعة واسعة من الشركاء، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث تصدر بضائع بقيمة 700 مليار دولار، ومع دول غربية أخرى. ووفقاً لأحد أشهر المحللين الصينيين، هو شيجين، «لن تتمكن روسيا أبداً من إقناع الصين بعزلها أو جرها إلى الحرب الأوكرانية». لكن موسكو، على عكس «شركائها – الأعداء» الغربيين، لا تعمل على استمالة أحد إلى أي شيء، وتحترم حق الجميع في الدفاع عن مصالحهم السيادية وطرح مبادرات حفظ السلام. فإذا أرادت بكين التأكيد على أنها تتخذ موقفاً محايداً هنا، فهذا حقها.

أود الإشارة إلى أن وثائق المؤتمر العشرين تذكر مثل هذه الصيغ الجماعية للتفاعل مع روسيا وعدد من الدول الصديقة الأخرى، التي تمثل، وفقاً للمصطلحات الروسية، الأغلبية العالمية، مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس. ولم يرد ذكر مثل هذا في وثائق المؤتمر التاسع عشر لأسباب غير معروفة لنا. ومن الواضح أن بكين تُظهر اليوم اهتماماً أكبر بالتفاعل مع هذه المجموعات والمنظمات. وهذا من شأنه أن يساعدها في تحقيق هدفها الطموح المتمثل في تحقيق الريادة العالمية من حيث القوة الوطنية الشاملة والتأثير الدولي بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 2049.

بالطبع، لدى بكين مخاوف متزايدة من أن تصبح هدفاً لعقوبات غربية جديدة، رغم أنه من غير المرجح أن تؤدي العقوبات إلى إبطاء النجاح الاقتصادي للبلاد، والأكثر من ذلك أن العقوبات ستلحق مزيداً من الضرر بأولئك الذين يستخدمونها ضد الصين. و«الانعطاف الصقوري» للولايات المتحدة تجاه الصين، فضلاً عن تفاقم الوضع حول تايوان، يسببان رد فعل سلبياً لدى كثير من الخبراء الأميركيين المؤهلين تأهيلاً عالياً. والتقارب مع روسيا لا يهدف لمساعدة بكين في حل مسألة ضمان نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 2023 بنسبة 5 في المائة فحسب، بل لموازنة هذه الوتيرة مع معدل نمو دخل الفرد أيضاً.

وسيلعب توريد موارد الطاقة الروسية دوراً مهماً في التعاون التجاري والاقتصادي متعدد الأطراف مع روسيا، حيث من المقرر توريد 98 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا إلى الصين بحلول عام 2030. كما سيتم تشغيل خطوط أنابيب جديدة، وعلى وجه الخصوص خط «قوة سيبيريا 2» الذي يمر عبر أراضي منغوليا، وخط «قوة سيبيريا 3». في الوقت نفسه، يبدو من الغريب أنه في مواد وسائل الإعلام الصينية المكرسة لزيارة شي جينبينغ، كما لاحظ المحللون الروس، لم يتم عملياً ذكر خط أنابيب الغاز «قوة سيبيريا 2». فهل كان مطلوباً التقليل من أهمية المشروع؟ لكن لمن؟ ولماذا؟

من المخطط أيضاً إنشاء ممر بري للحبوب من روسيا إلى الصين. وقد تمت مناقشة التعاون العسكري التقني خلال زيارة شي جينبينغ إلى موسكو، وفقاً لما ذكرته وسائل الإعلام الروسية. بيد أنه لم يكن هناك حديث عن تحالف عسكري. ويتطور التبادل التجاري مع روسيا على قدم وساق، فإذا كان حجمه في عام 2021 قدر بنحو 147 مليار دولار، فلقد بلغ واقعياً 194 مليار دولار في عام 2022.

ويتمثل الاتجاه الجديد نسبياً في استراتيجية السياسة الخارجية الصينية في حفظ السلام. ولا داعي لإعادة التأكيد على مدى أهمية الإنجاز الذي مثله التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإيران، من خلال الدور المهم للوساطة الذي لعبته بكين. ولا يزال من الصعب القول إنه من الممكن الاعتماد على إنشاء نظام الأمن الجماعي في الخليج في المستقبل على خلفية هذا النجاح، حيث يجدر في هذا الصدد التذكير بالرؤية الروسية لإنشاء مثل هذا النظام. ولربما تكون تجربة التفاعل بين موسكو وبكين عبر صيغة «ظهراً لظهر» مفيدة هنا.

المصدر: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى