في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد في فبراير (شباط) 2022، قبل أيام معدودة من الغزو الروسي لأوكرانيا، جادلت أنالينا بربوك، وزيرة الخارجية الألمانية المعينة حديثاً آنذاك، بأن أوروبا تواجه خياراً صعباً بين “معاهدة هلسنكي واتفاقية يالطا”. فالأولى، صدرت عن مؤتمر هلنسكي في فنلندا سنة 1975 الذي صادقت خلاله 35 دولة على اتفاقية تعترف بأن حدود أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية هي نهائية. ودعت إلى تعزيز التعاون الدولي وحقوق الإنسان، والثانية وقعت في القمة المعقودة عام 1945 في شبه جزيرة القرم، عندما خان القادة الغربيون دول أوروبا الشرقية من خلال منح ستالين حرية التصرف في المنطقة. وأوضحت بربوك أن الاختيار كان “بين نظام يقوم على المسؤولية المشتركة في توفير الأمن والسلام” أو “نظام تنافس بين القوى ومجالات نفوذ”. بحلول شهر مارس (آذار)، كانت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، تدعي أن الغرب قد اتخذ القرار الصحيح برفضه مناقشة قضايا توسيع حلف الناتو أو الحياد الأوكراني. فقالت “يحاول بوتين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى حقبة شهدت استخداماً وحشياً للقوة، وسياسات القوة، ومجالات النفوذ، والقمع الداخلي”، ثم تابعت: “وأنا واثقة من أنه سيفشل”.
بعد مرور عام على الحرب، أصبح هذا الرأي القائل إن مناطق النفوذ قد طويت صفحتها فباتت شيئاً من الماضي، سائداً على نطاق أوسع من أي وقت مضى. ومن عجيب المفارقات أن كثيراً من أعضاء نخب السياسة الخارجية الأميركية والأوروبية لا يعتبرون الحرب الكبرى الأولى على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية بمثابة إشارة إلى عودة واقع التنافس وسياسات القوة الدولية، بل إنه يمكن للقيم الغربية والتعاون الأمني التغلب على هذا الواقع. بالنسبة إلى عديد من المعلقين في الولايات المتحدة، كان رد الرئيس الأميركي جو بايدن على الحرب أكبر انتصار حققه في السياسة الخارجية وعلامة واضحة على أن السياسة الخارجية الأميركية تسير على المسار الصحيح. وبالفعل، فإن استراتيجية الأمن القومي التي أصدرها البيت الأبيض في أكتوبر (تشرين الأول) أبدت مظاهر الاحتفال بالنصر، مشيرة إلى “أننا نقود رداً موحداً ومبدئياً وحازماً على الغزو الروسي وقد حرصنا على حشد القوى العالمية من أجل دعم الشعب الأوكراني فيما يدافع بشجاعة عن بلاده”.
ولكن إذا ابتعدنا قليلاً عن غطرسة النصر، ستصبح تلك الصورة أقل وضوحاً. فالحرب في أوكرانيا، إن لم تكن تشكل على وجه التحديد فشلاً أميركياً في الردع، فهي تعتبر على الأقل إخفاقاً واضحاً لقرارات السياسة الأميركية المتخذة على مدى العقود القليلة الماضية الرامية إلى الحفاظ على السلام في أوروبا. من المؤكد أن الحرب أظهرت استعداد الغرب لمواجهة عودة سياسات القوة، لكنها أظهرت في الوقت نفسه جوانب القصور العملية في تطبيق تلك الاستراتيجية. لم يكن العام الماضي بمثابة دحض لعالم تسوده الصراعات أو منافسة القوى العظمى أو مجالات النفوذ، كما وصفه البعض، بل كان عرضاً لما تبدو عليه كل هذه الأمور على أرض الواقع. وهو يثبت أن الولايات المتحدة لا تستطيع دائماً ردع دولة رجعية حازمة من دون تحمل كلفة باهظة للغاية ومخاطر عالية بشكل غير مقبول.
هذا التشخيص الخاطئ مهم: إذا نظر صناع السياسة إلى الحرب في أوكرانيا على أنها انتصار للسياسة الأميركية، فمن المرجح أن يرتكبوا أخطاء مماثلة في أماكن أخرى. ومع دخول الولايات المتحدة فترة من النزاعات المتزايدة في شأن حدود مجال النفوذ الغربي، وحول طريقة تفاعلها مع مجالات نفوذ روسيا والصين، فإن تعلم الدروس الصحيحة من أوكرانيا يصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
فشل السياسة
بعد مضي عامين على فترة ولاية بايدن، نشرت تقييمات متعددة مرت مرور الكرام على العام الأول للرئيس في المنصب، مشيدة برده على غزو أوكرانيا بلا أن تأخذ في الاعتبار رسائله في الأزمة الوشيكة على مدار عام 2021. في ذلك الإطار، تباهت المحللة ليانا فيكس بأنه “يمكن القول إن سياسة بايدن تجاه روسيا هي الأكثر نجاحاً منذ أكثر من عقد”. وحتى منتقدو الوضع الراهن للسياسة الخارجية اعتبروا أن الإدارة أبدت مهارة في مواجهة الأزمة. ورأى كل من ستيفن ويرثيم ومات دوس، على سبيل المثال، أن “بايدن تعامل مع روسيا ببراعة”. وهم بلا شك على صواب. لقد استجابت إدارة بايدن بكفاءة وبطريقة عملية في وجه أكبر أزمة جيوسياسية منذ عقود، فحذرت أولاً من احتمال نشوب حرب ثم قدمت الدعم لأوكرانيا، وأبقت عينها في الوقت نفسه على خطر التصعيد.
لكن قلة من المراقبين علقوا على السنة الأولى من ولاية بايدن بنفس الطريقة. وفي الواقع، فشل معظمهم في تسليط الضوء على عدم التوافق بين تصريحات الإدارة قبل الغزو الروسي ورد البيت الأبيض بعد الغزو. في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2021، على سبيل المثال، كان مسؤولو الإدارة يؤكدون أن التزام الولايات المتحدة بالسيادة الأوكرانية كان “راسخاً” [لا يتزعزع]، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام، ناقشوا سراً إرسال مستشارين عسكريين أميركيين لمساعدة الأوكرانيين، ولكن بحلول 24 فبراير 2022، تغيرت لهجة الإدارة بشكل حاسم: لن تنخرط الولايات المتحدة بشكل مباشر في القتال في أوكرانيا، بل سيكون ردها هو عدم التدخل، والمشاركة في الحرب عبر العقوبات والمعونات والدعم الاستخباراتي.
وكان من الواضح أن هذا هو الخيار الصحيح. فالتورط المباشر للولايات المتحدة في حرب مع روسيا المسلحة نووياً سيكون خطأً كارثياً، بيد أن هذا يثير التساؤلات حول استراتيجية الإدارة المعتمدة في الأشهر السابقة والرامية إلى منع الحرب. بحسب كل التقارير، كان بايدن قد قرر قبل أسابيع أو حتى أشهر من الغزو أن كلفة القتال المباشر مع روسيا ستكون باهظة للغاية، وتحدث مسؤولو الإدارة بشكل علني عن احتمال تسليح ثورة أوكرانية في المستقبل بعد انتصار روسي متوقع على نطاق واسع، ولكن إن كانوا يعلمون طوال الوقت أن احتمالات منع الصراع كانت ضئيلة، وأن الولايات المتحدة لن تشارك بشكل مباشر، فلماذا لم يفكروا في الخيارات السياساتية الأخرى، على غرار إعلان الوقف المؤقت لقبول ضم أوكرانيا إلى الناتو؟ لماذا الاستمرار في هذه الخطوة الضعيفة للغاية على أمل أن يؤدي ذلك إلى ردع التحرك الروسي؟
الإجابة الأكثر ترجيحاً هي أنهم، في تلك الفترة التي شهدت تزايداً في المنافسة والخصومة، لم يكونوا مستعدين للإقرار بالاستنتاج الواسع النطاق الذي قد يترتب على اعترافهم علناً بأن واشنطن لن تدافع عن أوكرانيا: وهو أن قوة الولايات المتحدة محدودة في ما يمكن أن تحققه. ولا يمكن إلقاء اللوم في هذا التنافر المعرفي [صراع الأفكار] بالكامل على إدارة بايدن. ففكرة أن أوكرانيا وجورجيا ستنضمان إلى حلف الناتو يوماً ما، وأن قبول أي مسار آخر يعني قبول القيود التي تحد من القوة الأميركية، كانت افتراضاً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ إدارة جورج دبليو بوش على الأقل، حتى في ظل رفض كثير من البلدان الأعضاء الأخرى لهذه الفكرة.
في الواقع، وخصوصاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014، كان من المفهوم عموماً بين نخب السياسة الخارجية أن عضوية أوكرانيا وجورجيا في الناتو كانت فكرة طموحة أكثر من كونها عملية. وكما أوضح الباحث مايكل أوهانلون في فبراير الماضي، قبل أسابيع من الغزو: “فالقول إن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو قريباً هو أمر مستبعد (إن لم يكن مستحيلاً) لا يعد تنازلاً لبوتين، بل اعترافاً بالواقع”، ولكن حتى مع اقتراب الحرب، لم يكن صناع السياسة الأميركيون مستعدين للإقرار بهذه الحقيقة، موضحين أنهم لن يناقشوا مع روسيا سياسة الباب المفتوح التي يتبعها حلف الناتو.
ومن المستحيل معرفة ما إذا كان تقديم بعض التنازلات في موضوع ضم أوكرانيا إلى الناتو من الممكن أن يؤدي إلى منع الحرب. وربما كانت المطالب الروسية ببقاء أوكرانيا غير منحازة ستحول أيضاً من دون إقامة علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي، وهو أمر كان من غير المرجح أن يقبله كثير من الأوكرانيين. في منحى مقابل، أشار آخرون إلى أن الحرب كانت النتيجة الحتمية لرغبات الرئيس فلاديمير بوتين الرجعية والإمبريالية التي لا يمكن إشباعها. في الحقيقة، غالباً ما يشير خطابه إلى أنه ينظر إلى أوكرانيا على أنها مقاطعة روسية ضالة أكثر من كونها دولة. وربما اختار أن يغامر رغم كل شيء، معتبراً أن المكاسب الإقليمية المحتملة أكثر قيمة من التنازلات السياسية الغربية.
بيد أن القول إن السياسات غير المرنة التي اتبعها صانعو السياسة الأميركيون في أوروبا الشرقية على مدى العقود القليلة الماضية لم تلعب أي دور على الإطلاق في الفترة التي سبقت الحرب، يشير إلى رؤية المنطقة من منظور ضيق الأفق. فعدم الرغبة في التفكير في أي مسار بديل لأوكرانيا وجورجيا ومولدوفا ودول أخرى قد أسهم في خلق مزيج سام من الخلافات السياسية والمخاوف الأمنية والطموحات الإمبريالية أوصل المنطقة في نهاية المطاف إلى شفا الحرب. ومهما كانت النتيجة النهائية لهذه الحرب، فإن مجرد حدوثها هو فشل سياسي.
لماذا عادت “مجالات النفوذ”؟
في عام 2017، عندما أشادت استراتيجية الأمن القومي التي انتهجتها إدارة ترمب بعودة “منافسة القوى العظمى”، أثارت نقاشاً في واشنطن حول تعريف هذا المصطلح. قلة هم الذين اقترحوا أن ذلك قد يعني العودة إلى الصراع المفتوح في أطراف أوروبا، لكن الحرب في أوكرانيا تسلط الضوء على الكلفة التي يمكن أن تتسبب فيها منافسة القوى العظمى إذا أديرت بشكل سيئ، كما أنها تظهر احتمال وقوع كارثة في حال لم يتمكن صانعو السياسة في الولايات المتحدة من تجاوز عقليتهم الأحادية القطب.
بالمعنى الجيوسياسي الأوسع، تشير الحرب في أوكرانيا إلى عودة التنافس على مجالات النفوذ في السياسة العالمية. إن مجال النفوذ، في أبسط صوره، هو المنطقة التي يمكن فيها لقوة عظمى تشكيل النتائج السياسية أو الاقتصادية، ومحاولة منع البلدان المنافسة من القيام بذلك، رغم أنها لا تسيطر مباشرة على المنطقة. وربما بسبب ظهور مصطلح “مجال النفوذ” كمصطلح متداول خلال ذروة الاستعمار الإمبراطوري، أو ربما لأنه تم تطبيقه في كثير من الأحيان بطرق غير أخلاقية، فقد أصبح يحمل دلالة سلبية قوية. فهو يعيد إلى الذاكرة صوراً لمؤتمر يالطا والتقسيمات التعسفية لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية أو مهادنة رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين لهتلر في ميونيخ في عام 1938. ويرى المنتقدون أن مجالات النفوذ لا يمكن الدفاع عنها أخلاقياً، إذ إن القوى العظمى تحكم على البلدان الأصغر بالمعاناة على يد جيرانها الأكبر حجماً.
بيد أن هذا يعتبر سوء فهم أساسياً للفكرة. ليس بالضرورة أن يكون مجال النفوذ نوعاً من المجاملة التي تقدمها قوة عظمى إلى أخرى رغم البلدان الأصغر والأكثر ضعفاً، بل غالباً ما تكون حقيقة مجردة، وتأكيداً على الجغرافيا والقوة. ومجال النفوذ هو ببساطة مكان تؤكد فيه قوة عظمى هيمنتها فيما تكون قوة أخرى خائفة أو غير راغبة في تحديها لأن الكلفة المتصورة باهظة للغاية. لنأخذ مثلاً قضية أفغانستان: في رسالة كتبت عام 1869، سعى وزير الخارجية الروسي إلى طمأنة نظيره البريطاني بأن أفغانستان “تقع تماماً خارج النطاق الذي قد يطلب من روسيا ممارسة نفوذها فيه”. وقامت الدولتان في ما بعد بإضفاء الطابع الرسمي على هذا الترتيب ووضعتا خطوطاً واضحة حول أي دولة منهما سيكون لها نفوذ على أي أجزاء من بلاد فارس في الاتفاق الأنغلو-روسي عام 1907. كلاهما جسد حقيقة بسيطة: لم يعتقد الروس أن فوائد قتال البريطانيين من أجل أفغانستان أو السيطرة على كل بلاد فارس ستكون جديرة بالكلفة.
يشير بعض المعلقين إلى أنه لا يمكننا قبول مثل هذه الترتيبات، بحجة أن العالم قد تجاوز تلك الأفكار الاستعمارية القديمة وانتقل إلى عصر أكثر استنارة، لكن الحقيقة أكثر بساطة. خلال الفترة الأحادية القطب، وهي فترة الهيمنة الأميركية العالمية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تكن الولايات المتحدة ببساطة بحاجة إلى الاهتمام كثيراً بمسألة مجالات النفوذ لأن قوتها كانت بلا منازع. وقد عبر العالم السياسي غراهام أليسون عن الأمر باقتضاب: لقد توقف صانعو السياسة في الولايات المتحدة عن الاعتراف بمجالات النفوذ، ولكن “ليس لأن المفهوم قد عفا عليه الزمن، بل لأن العالم بأسره أصبح مجالاً أميركياً بحكم الأمر الواقع”.
وهكذا عندما زعمت روسيا في عام 1999 أثناء تدخل الناتو في كوسوفو أن يوغوسلافيا السابقة تقع في دائرة نفوذها، وذهبت إلى حد إرسال المظليين الروس في مسعى مستحيل للاستيلاء على مطار بريشتينا، تمكنت الولايات المتحدة من تجاهل الشكوى إلى حد كبير. كان من الواضح أن روسيا التي أجبر جنودها المظليون على استجداء نظرائهم في الناتو للحصول على الغذاء والإمدادات، لم يكن لديها القوة لدعم مزاعمها. وعلى نحو مماثل، عندما انخرطت الصين في قرع طبول الحرب مع تايوان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ردت الولايات المتحدة باستعراض هائل للقوة العسكرية، وأرسلت مجموعة حاملات طائرات لتبحر عبر مضيق تايوان وأجبرت القادة الصينيين على التراجع.
إن إصرار واشنطن في العقود الأخيرة على أن مجالات النفوذ ينبغي ألا توجد، كان بمثابة إعلان عن نفوذها العالمي وأسبقيتها من بين أمور أخرى. ورغم ذلك، يدخل العالم اليوم فترة من الخلاف حول حدود القوة الأميركية، إذ أصبحت روسيا والصين قادرتين بشكل متزايد على تأكيد مصالحهما الخاصة في المناطق الأقرب إلى حدودهما.
لقد رفضت الولايات المتحدة مناقشة سياسة الباب المفتوح التي اتبعها الناتو قبل غزو أوكرانيا لسبب رئيس واحد: وهو أن القيام بذلك قد يحرم البلدان في أوروبا الشرقية من اتخاذ خياراتها الخاصة بالسياسة الخارجية. قبل أسابيع قليلة من الغزو، سئل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن سياسة الباب المفتوح. فأجاب “لن يحدث أي تغيير”، مضيفاً أن “هناك مبادئ أساسية نلتزم بالتمسك بها والدفاع عنها”، بما في ذلك “حق البلدان في اختيار ترتيباتها وتحالفاتها الأمنية”.
لكن العام الماضي أظهر أن هذا النهج غير كاف، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه فشل في أخذ نفوذ روسيا في الحسبان. وفي مواجهة احتمال خروج أوكرانيا من فلك روسيا وعجزها عن الحصول على أي تنازلات من البلدان الغربية، اختار بوتين عوضاً عن ذلك الرهان على حملة عسكرية مكلفة ومحفوفة بالمخاطر. وحتى مع تعرض الحملة العسكرية لانتكاسات كبيرة، فقد كان على استعداد لاتخاذ مزيد من الخطوات الدراماتيكية من أجل محاولة السيطرة على أوكرانيا، من التعبئة الجماعية للقوات الروسية إلى القصف الواسع للبنية التحتية المدنية.
كانت النتائج بالتأكيد كارثية بالنسبة إلى روسيا: فهي لم تحقق أياً من أهدافها الأصلية تقريباً، وظلت كييف مستقلة، والاقتصاد الروسي في حالة تدهور، ومات عشرات الآلاف من الجنود الروس، لكن الغزو فرض أيضاً كلفة باهظة على شعب أوكرانيا إلى جانب كلفة كبيرة وخطر التصعيد بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة. وإذا كانت الحرب في أوكرانيا قصة نجاح لإدارة بايدن أو لأسلافها، فثمنها باهظ للغاية.
المنافسة بين القوى العظمى لا تحمل المعنى الذي تعتقدونه
في خطاب ألقته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس عام 2008، أعلنت ثقتها في رؤية تتمثل في “عالم لا تعرف فيه القوة العظمى من خلال مجالات نفوذ أو منافسة عقيمة لا جدوى منها أو فرض القوي مشيئته على الضعيف”. ورغم ذلك، بعد مرور 15 عاماً، عادت كل هذه الميزات بقوة. وعوضاً عن دحض الطبيعة الوحشية للسياسة الدولية، أظهرت الحرب في أوكرانيا الحقائق غير السارة حول التنازع القائم بين القوى العظمى على مجالات النفوذ.
كذلك، كشفت بقوة عن حدود القوة الأميركية في ردع الفاعلين [الجهات الفاعلة] في الأماكن الأقرب والأعز بالنسبة إليهم من خلال وسائل غير عسكرية. وتجدر الإشارة إلى أن التزام الولايات المتحدة بالقتال مباشرة في هذه المناطق سيترتب عليه مخاطر عالية وكلفة باهظة للغاية على الشعب الأميركي، وهو أمر اعترف به بايدن نفسه، فقال للصحافيين، “لن نخوض الحرب العالمية الثالثة في أوكرانيا”.
ولكن في الوقت نفسه لا تعترف نخب السياسة الخارجية في واشنطن بأن مبدأ تجنب الحرب بين القوى العظمى على مصالح هامشية قد ينطبق في مكان آخر. فلنأخذ تايوان على سبيل المثال: يعارض الرأي العام بشدة محاربة الصين مباشرة بسبب مسألة تايوان، وتشير المناورات الحربية إلى أن مثل هذا الخيار قد يكون كارثياً على الولايات المتحدة. ورغم ذلك، فإن صانعي السياسة الأميركيين تراودهم فكرة التحول من سياسة الغموض الاستراتيجي التي تستخدمها الحكومة الأميركية منذ زمن إلى موقف أكثر حزماً يتمثل في الدعم العسكري المفتوح لتايوان. ونظراً إلى تصميم بكين المتزايد بشكل جلي على تحقيق إعادة التوحيد مع الجزيرة، فهذا قد يبلغ حد ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبت في أوكرانيا. وأي محاولة ترمي إلى توضيح أن تايوان تقع خارج مجال نفوذ بكين قد ينتهي بها الأمر إلى إشعال الحرب التي ترغب الولايات المتحدة في تجنبها.
بغض النظر عما قد يقوله النقاد، فإن قبول فكرة أن بعض البلدان ستكون قادرة على ممارسة مزيد من النفوذ في المناطق الأقرب إلى حدودها لا يحكم بالضرورة على البلدان الصغيرة بأن تتعرض لغزو من جيرانها الأكبر حجماً. مجدداً، لنتناول ما حدث في العام الماضي: رغم تقبل أن التدخل المباشر سيكون مكلفاً للغاية، على سبيل المثال، لم تترك الولايات المتحدة أوكرانيا لتواجه مصيرها وحدها. على النقيض من ذلك، قدمت الحكومة الأميركية كميات كبيرة من المساعدات العسكرية والمالية، ضبطتها بعناية لكي تبقيها دون العتبة التي قد تؤدي إلى حرب أوسع. قد تكون أوكرانيا خارج دائرة النفوذ الأميركي، لكن الولايات المتحدة تساعدها في مقاومة اندماجها في مجال النفوذ الروسي.
وفي الواقع، يمكن- لا بل ينبغي- تطبيق مثل هذه الاستراتيجيات في مكان آخر. بإمكان البلدان الصغيرة أن تبني قدراتها العسكرية وتتلقى الدعم من دول أخرى لتجعل نفسها وجبة غير شهية بالنسبة إلى جيرانها الأكبر. وعوضاً عن السلوكيات الاستعراضية التي توحي ظاهرياً بدعم استقلال تايوان، على سبيل المثال، يجب على صانعي السياسة الاستثمار الآن في مساعدة الجزيرة على الدفاع عن نفسها من خلال استراتيجية “النيص” [استراتيجية دفاعية تتمثل في اعتماد دفاع غير اعتيادي وغير تقليدي في مواجهة دولة ذات إمكانات وقدرات أكبر، وقد استوحي اسمها من حيوان النيص الذي تغطي جسمه أشواك حادة لحماية نفسه من الحيوانات الأكبر حجماً] المتنوعة بشكل مناسب. إن إجراء مثل هذه التعزيزات قبل أي حرب محتملة لا يعتبر أكثر فاعلية فحسب، بل إذا تم تنفيذها بحكمة، قد يتمكن هذا النهج من منع حدوث تلك الحرب من الأساس.
ولكن، من أجل تبني هذه الاستراتيجيات، يجب على صانعي السياسة تعلم الدروس الصحيحة من الحرب في أوكرانيا. إذا تمكنوا من رفض غطرسة الانتصار السابقة لأوانها، والاعتراف بالحدود الفعلية والعملية للقوة الأميركية، وتعلم تفويض الدفاع إلى البلدان التي تواجه الصراع مباشرة، والاعتياد على الغموض اللازم للتعامل مع المناطق الخطرة حيث تتداخل مجالات النفوذ، فهم قد يكونون قادرين على تجنب وقوع كارثة.
إيما آشفورد باحثة بارزة في مركز ستيمسون وأستاذة مساعدة في جامعة جورج تاون. ألفت كتاباً بعنوان “النفط والدولة والحرب: السياسات الخارجية للدول النفطية.”
مترجم من فورين أفيرز، 20 فبراير (شباط) 2023
المصدر: اندبندنت عربية