إبادة حلب للمرة الثانية

صبا مدور

بلا غارات ومدافع هذه المرة ودون أي ضجيج إعلامي يُكتب فصلٌ إيرانيٌ جديد في سيطرة الحرس الثوري الايراني على مدينة حلب منذ أن غزتها الميليشيات الايرانية عام 2016 وهجرت أهلها ودمرت جزءاً كبيراً من معالمها ومساجدها وكنائسها.

واليوم يسلم الزلزال ومعه النظام السوري من جديد ما تبقى من ركام هذه الحاضرة لطهران، لاستكمال نفوذها المتنامي عبر سنوات السبع العجاف الماضية منذ سقوط المدينة وزيارة قاسم سليماني. حيث تشير التحركات الإيرانية عقب الزلزال مباشرة إلى محاولة صريحة لاستغلال الكارثة في بناء واقع ديموغرافي وأمني جديد في حلب يعزز حضور إيران وميليشياتها، ويحقق ما عجزت أساليب الترغيب والترهيب وقبلهما القصف والتدمير بتحقيقه. حيث تتصرف إيران هنا على طريقة (عقيدة الصدمة) التي تحدثت عنها نعومي كلاين في كتابها الشهير، سوى أن المصطلح الأصلي تعلق باستغلال الجشع الرأسمالي للكوارث من أجل إعادة البناء بطريقة تناسب أصحاب الأموال والشركات الكبرى، على حساب المنكوبين الفقراء، في حين تريد إيران استغلال الزلزال ليكون غطاء لبناء قاعدة جديدة للنفوذ الإيراني المباشر في حلب، سكانيا، وأمنيا واقتصاديا، وثقافيا.

فما إن حلت الكارثة في السادس من شباط ، وصل في غضون ساعات القنصل الإيراني في حلب سلمان نواب نوري إلى الأحياء المتضررة، قبل أن يصل إليها المسؤولون السوريون الرسميون، ثم جاءت زيارة قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني للمدينة في اليوم الثالث بعد الحدث لتضيف الكثير من علامات الاستفهام على معنى زيارة مسؤول عسكري يقود التدخلات الإيرانية المسلحة في المنطقة، لا سيما أنه لم يزر بقية المناطق المتضررة الخاضعة لسيطرة النظام في اللاذقية وحماة وطرطوس، كما أن الجهد الهندسي الإيراني كان ضعيفا أو معدوما في هذه المدن مقارنة بحلب.

بعد قاآني بيومين وصل أمين عام ميليشيا حزب الله العراقي ورئيس أركان الحشد العراقي عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) وهو الشخص الأقرب لإيران في العراق، بوصفه (رئيسا لبعثة الإغاثة العراقية)، وهو ما عزز من الريبة في أمر المساعدات برمتها، وما تحويه حقيقة من مواد، فشل الإيرانيون من قبل في إيصالها، حتى جاء الزلزال ليوفر الذريعة والمناخ الإنساني لنقلها دون شكوك بمحتواها ذي الطبيعة العسكرية، أو قلق من تعرضها للقصف كما حدث من قبل.

لم تكن تلك الزيارات العاجلة، والقوافل مجهولة المحتوى التي رافقتها هي السبب الوحيد لبناء فرضيات المسعى الإيراني، بل يمكن أيضا متابعة الشركات الإيرانية التي حضرت بسرعة لمواقع الزلزال، بدعوى المساعدة في الإنقاذ، لكن حقيقة الأمر كان يتعلق بتغيير معالم مناطق بعينها بذريعة الدمار. في هذا الخصوص يمكن ملاحظة أن شركة “خاتم الأنبياء” الإيرانية التابعة للحرس الثوري بدأت بعمليات سريعة لهدم العديد من الأبنية السكنية في أحياء الصالحين والفردوس والقاطرجي وباب النيرب والشعار، بذريعة تضررها من الزلزال، وكان من اللافت أن  عمليات الهدم شملت عددا كبيرا من البنايات يفوق بكثير تلك المنهارة او المتضررة، التي لا يتجاوز عددها 70 بناية، كان معظمها متصدعا بالأساس بسبب قصف النظام وداعميه روسيا والميليشيات الإيرانية. ويمكن في هذا الخصوص العودة إلى ما نقلته (العربي الجديد) عن الناشط عمار الإدلبي وقوله، إن مكتب إعادة الإعمار التابع لشركة “خاتم الأنبياء”، عرض على أصحاب البيوت المتضررة من الزلزال، أو حتى غير المتضررة في هذه الأحياء الشرقية من حلب، شراء بيوتهم بوضعها الراهن، و أن الشركة تضغط على أصحاب البيوت لتسجيل أنفسهم كمستكتبين على منازل مزعومة، ستقوم الشركة ببنائها خلال السنوات المقبلة، مقابل توقيع عقود تتيح لها التصرف ببيوتهم التي تصورها لهم بأنها عديمة الفائدة، وهي آيلة للسقوط، كما تحرك سماسرة مرتبطون بجمعيات تدعمها إيران، مثل “جمعية المهدي” وجمعية “جهاد البناء”، لإقناع الأهالي ببيع منازلهم المهدمة أو المتصدعة عبر أساليب الترغيب والتهديد.

شكلت هذه الممارسات السريعة وواضحة الأهداف، نمطا من تسريع محاولات متواصلة لبناء شبكة هيمنة في حلب، سبقت الزلزال بسنوات، وبعض من علائم هذه المحاولات يعود إلى ما قبل الثورة عام 2011، لكن الجهد الواضح وغير المبالي بالمدينة ومرجعيات سكانها، ظهر بعد العام 2016، حيث طغت سيطرة الميليشيات وجرى قمع أي صوت معارض لتغيير طابع المدينة، وأقيمت مكاتب اقتصادية، تتولى السيطرة على العاصمة الاقتصادية والصناعية لسوريا، فضلا عن جهود تغيير ديموغرافي من خلال السيطرة على العديد من المنازل في أحياء حلب الشرقية، لأشخاص من سكان بلدتي (نبل والزهراء) الشيعيتين قرب المدينة، ولعناصر ميلشيات تابعة لإيران، وقد ترافق ذلك مع عملية محمومة لنشر التشيع في المدينة سواء ببناء عدد كبير من الحسينيات أو باستعادة ميراث شيعي مزعوم في المدينة يدور حول وجود مراقد أو آثار لها صلة بآل البيت، فضلا عن استغلال ظروف الفقر والحاجة للسكان من أجل إجبارهم على التشيع.

هذا النهج الايراني المتواصل في محاولات تغيير ملامح مدينة حلب ديمغرافيا وثقافيا وأمنيا يطلق عليه مصطلح “الإبادة” أو  Urbcide”” أي إبادة المدن وهو مفهوم مشابه بمصطلح الإبادة الجماعية ضد عرقية ما Genocide””. ويعني في علم المدن التدمير المتعمد والعنف المستخدم في إبادة المدينة وإنكار ثقافتها وتاريخها من خلال الهدم وإعادة الاعمار والتخطيط السكاني والمشاريع التي تغير المشهد الاجتماعي والحضري لأهداف سياسية واقتصادية بحتة.

ما يدعو للقلق على مستقبل حلب أن هول الزلزال لم يوقف جرافة المشروع الايراني الذي يكتسح المنطقة، بقدر ما سّرعها. وهو مشروع هدم لا بناء، يحاول العبث بهوية المنطقة وتفكيكها وإعادة تركيبها وفق أبعاد طائفية قاتلة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى