في قصيدته “الشاعر”، يقول الراحل عبود كنجو متحدثًا عن نفسه بضمير الغائب “أدرك الآن أن العصافير مصعوقة خائفة… أدرك الآن أن عذاباته تزرع الريح كي تحصد العاصفة!” بذلك يعبر عن روح الثورة الكامنة في أعماقه، وانتظرها طويلًا، وعمل لأجلها، ودفع أثمانا غالية، مثله مثل آخرين كثر بشروا بها.
عبود كنجو شاعر وأديب سوري لم ينل ما يستحق من الاهتمام والتقدير، تنوعت إبداعاته بين الشعر العمودي والحر وقصيدة النثر، والقصة والرواية والدراسات الأدبية، والكتابة الصحافية، وجسّد في حياته وسلوكه القيم الإنسانية العليا. كان ككل الشعراء والأدباء حالمًا عاشقًا مزج بين الأدب والسياسة، وناضل بثبات في سبيل الحرية والإنسان.
ولد في قرية بيانون شمال حلب عام 1945، وحفظ القرآن وهو طفل صغير، قبل أن تجتذبه مدينة حلب، لطلب العلم ومن ثم العمل، ليتعرف إلى عوالمها ويشغف بسحرها، دون أن ينفك ارتباطه وانشداده إلى القرية بجمال طبيعتها وصفاء أهلها ونقاء علاقاتها، ويكشف قاموسه اللغوي والشعري الغني وصوره التي تستعيد وتستلهم عالم القرية.
لم يكن كنجو مقلًا في انتاجه، بل فاضت قريحته بمئات القصائد الجميلة ضمتها أعماله الابداعية المتتالية كمواسم القرية عبر الفصول. وعلى الرغم من مصاعب النشر التي وقفت عقبة كأداء في وجه المبدعين في سورية، استطاع الراحل تحديها والتغلب عليها بجسارة.
أصدر مجموعته الأولى (لأنك تسكنين القلب) عام 1976، وتلتها مجموعته (صهيل الشمس) عام 1978، ثم (فضاء الورد) 1994، وبعدها (أعلن حبك في الخافقين) 1995، وكذا (مرسوم كقوس الغمام) 1996، ثم أصدر (كان قمرها عاليا) 1997، وآخرها (حريق العندليب)
كتب القصة القصيرة وصدرت له مجموعة بعنوان: (قتل العصفور)، وكتب الرواية ونشرت له روايتان: كانت الأولى (المهزلة) التي تدور أحداثها في مدينة حلب في ذروة انتفاضتها الشعبية وقمع السلطة لها وللمجتمع، عام 1980 وما بعد، وترصد وقائع رهيبة عما جرى.
وكانت الرواية الثانية: (زمن العجائب) بطلها محمود حجازي الذي هو نفسه الكاتب، سرد فيها تجربته الذاتية وعبر عن أفكاره وحياته وتجاربه، وأماله وخيباته، في الحياة والحب والحرية، وما يجدر ذكره أن الروايتين طبعتا سرا في داري نشر مجهولتين لا أحد يعرف لهما اسمًا أو عنوانًا، تحاشيًا للمصادرة والمنع والعقاب والمرور عبر الرقابة الأمنية، وهو أمر يكشف جانبًا من معاناة الكاتب الحر في بلد تحكمه سلطة متوحشة شمولية.
وللشاعر الراحل مساهمة مميزة في ميدان النقد والبحث الأدبي، وهي كتابه (جمال عبد الناصر في الشعر العربي الحديث) الذي صدر عن دار الوحدة في لبنان.
عاصر الفقيد منذ ريعان شبابه صعود المد القومي العربي، وتأثر به وتفاعل تفاعلًا عاطفيًا وفكريًا، فتبنى الفكر العروبي الوحدوي، وانخرط في صفوف عدة تنظيمات ناصرية وقومية، وكان أحد أعضاء (تنظيم الطليعة العربية) الذي عرف فرعه في سورية باسم (التنظيم الشعبي الناصري)، وكان أحد كتاب ومحرري صحيفته السياسية السرية، وكان عادة ما يكتب في زاوية (الأدب المناضل) خواطر وقصصًا قصيرة وقصائد مغفلة التوقيع -كما هي العادة في التنظيمات السرية المعارضة- ولكن ما كتبه في هذه الزاوية جزء مهم من تراث الشاعر المناضل رحمه الله، حالت جرائم القمع والملاحقة دون جمعه وأرشفته ونشره، ولا بد من أن يضاف الى نتاجه وينشر باسمه.
في صيف عام 1992 تعرض للاعتقال من فرع الأمن العسكري في مدينة حلب، مدة تجاوزت ستة أشهر على خلفية مواقفه الوطنية والسياسية، كذلك جرى تحويله من التعليم إلى الخدمة الإدارية في مديرية التربية بحلب.
عانى عبود كنجو من الفقر والحرمان، والتهميش، واضطرته الأوضاع الصعبة -مرارًا- لبيع بعض الكتب النادرة، أو الموسوعات من مكتبته الضخمة، ليعيش منها أو يسد رمق أسرته الكبيرة، وللعمل في إصلاح الكتب الثمينة الممزقة والمهترئة، بعد أن يرميها أصحابها على قارعة الطريق أو سلال المهملات، في ظل سلطة دمرت الثقافة والمثقفين تدميرًا مبرمجًا، وفي مجتمع لم يعد يهتم كثيرًا بالثقافة والعلم والفكر، ومن ثم؛ بالكتاب، بوصفه محصلة حتمية للعوامل الأمنية والاقتصادية المريرة.
السيرة الذاتية والأدبية لعبود كنجو طويلة وغنية، فقد عمل مراسلًا صحفيًا لمجلة “الشراع” اللبنانية، في قسمها الأدبي، منذ تأسيسها في كانون ثاني/ يناير 1982، أكثر من 5 سنوات، ونشر في كثير من الصحف والمجلات العربية، ونال جوائز تقديرية وتشجيعية كثيرة. رحل عبود كنجو بعيدًا عن وطنه، في 31_ 12_ 2014، في مدينة مرسين التركية ودفن هناك، ليكون واحدًا من كثرة من مفكرين وأدباء ومثقفين هجروا وأبعدتهم الأوضاع عن وطنهم وأرضهم فدفن غريبًا، كما عاش غريبًا داخل وطنه.!
نضاله السياسي وقناعاته الفكرية كانت تمده بكثير من القوة والتوازن والتفاؤل، وكثيرًا ما كان قبل الثورة يردد أمام رفاقه (يكفيني أني أعيش الحلم).
عبود كنجو الشاعر والمناضل والإنسان يستحق من شعبه ومن النخبة الثقافية والنضالية والمعارضة، وتيارات الثورة، رد الجميل والمكانة والوفاء لشاعر كرس حياته وقلمه وذهنه وقلبه للنضال في سبيل الحرية والعدالة وقضايا العرب الكبرى، وتحرير سورية من نظام الاستبداد.
كان الفقيد الكبير مثالًا للمثقف المنتمي العضوي الملتزم المناضل، ولم يكن انعزاليًا أو انطوائيًا، ولا صوفيًا إلا في الحب، إذ ادخر له كنزًا كبيرًا من المشاعر الصوفية والوجد والعشق المجرد، وحبه هذا لم يكن إلا كقلبه يتألف من فلقتين: للوطن أولًا وللأنثى ثانيًا. كان مناضلًا صوفيًا عاش واستشهد وهو يؤدي مناسك العشق والوطنية والحلم بالثورة، وظل دائمًا ينتظرها بإيمان عميق: إنها آتية حتمًا على وقع خطى الفجر والشمس.. وقد حصل. وأعتقد أنه رحل مطمئنًا تغمره السكينة.
المصدر: جيرون