ذات الكنزة الخضراء والضَّمائر القزمة

محمد أمين الشامي

لم يبق شكل من أشكال الموت لم نجرِّبه. وكثيرًا ما أردِّد هذه العبارة: متنا قصفًا وذبحًا وحرقًا وخنقًا وغرقًا وخوفًا وجوعًا وتشرُدًا. والآن، وأخيرًا وليس آخرًا متنا زلزلةً.

لم يبق نوع من أنواع الفقد لم نقاسِ آلامه. فقدنا الوطن والحارة والزُّقاق وشوارع درج عليها شبابنا وأهلونا والرِّفاق والصِّحاب والخلّان والجيران والبيوت والذِّكريات والأحلام والمشاعر والأحاسيس. وآخرها كان الإنسانيّة.

لم يبق ضرب من ضروب الخذلان لم يعصف بنا. خذلنا الأخ القريب والصِّنو البعيد والصَّاحب بالجنب والجار ذي القربى وحتّى ابن السَّبيل. وآخرهم دعاة الأخوَّة بين بني البشر، ودعاة الرِّفق بالإنسان، حتى لو كان من الدَّرجات الدُّنيا بتصنيف لاجئ.

ولم يبق قاع لم ينبت فيه قبر حمل اسم هارب أو مؤمِّل أو حالم أو يائس أو طريد أو. طفل، من قاع السَّجن إلى قاع الذّاكرة إلى قاع البحر إلى قاع الأرض وصولًا إلى قيعان الضَّمائر اليابسة.

وكأنَّ كلَّ مشاهد الثُّكل قبلًا والآن لم تكف فكانت هذه الصّورة. وكأنَّ كلَّ صور الموت الَّذي ولد من الحياة والحياة الَّتي ولدت من الموت قبلًا والآن لم تكف فجاءت هذه اللَّقطة. وكأنَّ كلَّ اللَّقطات الَّتي نقلتها وسائل الإعلام والكلمات والصَّرخات والدُّموع والاستغاثات قبلًا والآن لم تكف فكانت تلك الكلمات الفجيعة.

جاءت هذه الصّورة بعبارتها الَّتي تحملها “لتزلزل” كيانات الصَّبر والتَّصبُّر والتَّحمُّل واليقين الَّتي اشتغلنا على بنائها فينا على مدار ثنتي عشرة سنة إيمانًا واحتسابًا وهجرة وغربة ولجوءً وتحمُّلًا، وتحيل كلَّ ذلك إلى مجرَّد صدىً لدقّات أخذت توهن ورجعٍ لخفقات فقدت انتظامها وبقايا دموع أضاعت مآقيها وسط التَّزاحم، إذ النّاس سكارى كما رأينا وليسوا بسكارى، ولجسد ما عاد فيه من الرُّوح إلّا مِزقٌ كتلك الَّتي تركها الَّذين مضوا وراءهم وقد تشبّثت بها خرائب البيوت والعمارات دليلًا على أنَّهم كانوا منذ لحظة هنا واختفوا في اللَّحظة التّالية إلى الأبد.

أحدهم يلملم ثياب أبنائه، وآخر يسحب من براثن الرُّكام ما بقي من ملابس أهله، وأخرى تملأ رئتيها بآخر رائحة للمغادر على جناح الموت، وتستمر المشاهد تترا، حتّى وصلت إلى الصّورة المرفقة، وأعتذر للعالم الرَّقيق الحساس المرهف على بشاعة اللَّقطة وقساوة الكلمات الَّتي حملتها شاهدة من خشب كتب عليها بلهجة محليّة:

مجهولة الهويّة

طفلة لابسي

كنزة خضراء

وهنا ينتهي الاقتباس، ويصمت كلَّ شيء.

ولذلك، أيُّها السَّادة:

اعتنوا بملابس أبنائكم جيدًا، ألبسوهم ألوانًا ملفتة، وانتبهوا أيضًا إلى مظهركم والعلامات المميِّزة لكم، فالعالم الَّذي لم يهتم لمعاناتكم ولم يتحرَّك لأجلها، قد يلتفت إلى لون الكنزة الَّتي يرتديها ابنك أو ابنتك، وإلى العلامة الَّتي تميزك إذا ما جرى عليك لا قدَّر الله ما جرى على الطِّفلة صاحبة الصّورة، حيث جهل البشر اسمها فعرَّفتها لهم “كنزتها الخضراء”، وكم من مجهول في الأرض معروف في السَّماء.

المصدر: إشراق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى