ثورة السوريين على نظام حكم العائلة، نظام الفساد والاستبداد ما زالت مستمرة؛ وهي تتجسد اليوم بصورة خاصة في رفض أكثر من نصف السوريين العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام.
أما السوريون الذين ما زالوا يعيشون في المناطق التي تتوزع السلطة فيها بين النظام والروس والإيرانيين، فهم يعيشون أوضاعاً اقتصادية صعبة مسدودة الآفاق. كما أنهم يتوجسون من التحديات التي تنتظرهم نتيجة انهيار قيمة الليرة السورية، وتراجع أو توقف مختلف أوجه النشاط الاقتصادي. هذا إلى جانب الصراعات التي ظهرت إلى العلن بين أجنحة الحكم، بل في داخل العائلة المالكة الحاكمة نفسها التي أدارت البلد بعقلية مافياوية، واستثمرت كثيراً في سياسة خلق الفتن بين السوريين، وذلك عبر استغلال النزعات المذهبية والقومية والمناطقية. وكان الهدف المستمر هو استنزاف إمكانيات البلد، وابتلاع المساعدات التي كانت تأتي من الخارج تارة باسم دعم دول الطوق، وتارة باسم التنمية والتطوير، وطوراً باسم مكافحة الإرهاب. واليوم هناك تحضيرات واستعدادات ضمن العائلة بهدف السيطرة على أموال ومشاريع إعادة الإعمار، وذلك بالتنسيق مع المافيات المالية-السياسية على المستويين الإقليمي والدولي.
ورغم ظهور العديد من التسميات في السنين الأخيرة لتوصيف الحالة السورية، ومنها الأزمة السورية، أو الحرب الأهلية السورية، أو الأحداث السورية؛ فإن كل ذلك لا ينفي طبيعة ما حصل، ويحصل، في سوريا منذ أواسط آذار/مارس 2011 وحتى اليوم. فالثورة لم يكن لها أن تنطلق لولا انسداد الآفاق أمام الشباب السوري نتيجة تراكم آفات الاستبداد والفساد التي أقنعت السوريين بأن ما يجري في بلدهم لا يخرج عن نطاق ممارسات مجموعة مافياوية تقبض على مفاصل الدولة والمجتمع بالحديد والنار.
ورغم سعي هذه المجموعة المستمر لشرعنة وضعيتها عبر رفع شعارات ديماغوجية تضليلية، منها شعارات قومية كبرى، وأخرى تتحدث عن المقاومة والممانعة، ومواجهة مخططات المتربصين بسوريا، بل وبالمنطقة العربية كلها؛ تيقن السوريون بعد سلسلة من التجارب المريرة بأن هذا النظام لم يكن له أن يفعل بالسوريين واللبنانيين ما فعل، لولا الضوء الأخضر من الجهات التي يدعي مقارعتها، مقابل الالتزام بشروط الصفقة التي مكّنت بشار الأسد من استلام مقاليد الحكم في لعبة مكشوفة مقيتة، أمام أعين السوريين والعالم؛ لعبة شارك فيها كل من زعموا لاحقاً بأنهم قد أصبحوا من المعارضين للنظام، وتركوه لأسباب مختلفة. ولكن الملاحظ هو أن هؤلاء كانوا يكتفون بالإيحاءات والإيماءات في مرحلة معارضتهم المخميلة، وذلك أثناء تناولهم لنظام حافظ الأسد، ومن دون الدخول في التفاصيل التي تدينه، وتدينهم معاً، والأسماء والأسباب في هذا المجال معروفة.
عشرة أعوام قاسية عاشها السوريون، ولا ضوء يلوح في نهاية النفق المظلم. نظام في غرفة الإنعاش، يعيش بفعل الأجهزة الروسية والإيرانية التي يمكن أن تُقطع عنه في أية لحظة إذا كانت شروط الصفقات مناسبة؛ وعندها سيتحول موته السريري إلى موت حقيقي.
في مقابل هذا النظام، هناك معارضة رسمية مغلوبة على أمرها؛ ما زالت أسيرة العقلية السحرية التي تعتقد بإمكانية حصولها على صفقة أو صفقات من الدول المنغمسة في الوضع السوري.
وبالتوازي مع خروج النظام والمعارضة الرسمية من دائرة الفعل والتأثير، ما زالت عملية تقاسم سوريا كمناطق نفوذ، وأوراق تفاوضية، وبنود على قائمة الخطط الخاصة بالدولة المتواجدة اليوم على الأرض السورية بجيوشها وميليشياتها وأجهزتها المخابراتية، وتوابعها المحلية المتمثلة سواء في جيش النظام، أم في الميليشيات المحلية والوافدة. بل والأنكى من ذلك هو أن هذه الدول بدأت في الآونة الأخيرة بتشكيل ميليشيات محلية خاصة بها، لاستخدامها في تعزيز نفوذها في الداخل السوري، أو إرسال عناصرها كمرتزقة إلى ميادين أخرى تهمها، وتخدم مشاريعها. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى جهود المتعهدين الذين يقومون بإرسال السوريين كمرتزقة يعملون لصالح طرفي الصراع في ليبيا.
ورغم جهود كثيرة بذلت من قبل العديد من السوريين لتجاوز واقع التشظي الذي يعاني منه أولئك الذين من المفروض أنهم يمثلون النواة الصلبة للمشروع الوطني السوري المستقبلي، إلا أن النتائج بكل أسف كانت صفرية في معظم الأحايين، بل كانت سلبية أحياناً، إذ أدت إلى المزيد من التصدعات والخلافات. وهذا مؤداه المزيد من العزلة والانطوائية، والتبرم والتحسر والتعلق بآمال لن تتحول إلى وقائع من دون جهود منظمة، تتضافر في ما بينها بفعل رؤية وطنية واضحة مطمئنة للجميع؛ رؤية تقطع مع كل أساليب التذاكي والمماحكات العقيمة، والمجاملات الخاوية، وتضع حداً للممارسات المبنية على الأحقاد، والعقلية الانتقامية، والاستقواء بالآخر المتربص على أهل الوطن المشترك.
لقد اعتقد الكثيرون ممن تصدروا المشهد السياسي في الثورة السورية بأن الحل القادم سيكون بتغيير الرأس، والمحافظة على الجسد من دون أية تغييرات جوهرية للنظام السياسي تتناسب مع الأسباب التي أدت إلى الثورة. ولكن بعد عشر سنوات من القتل والتدمير والتهجير والمعاناة وتفجر الولاءات ما قبل الوطنية، واستفحال أمر النزعات المتشددة المذهبية، نلاحظ اليوم هيمنة لغة التكفير والتخوين، ومصطلحات ومفاهيم التعصب الديني والقومي على خطاب النظام وأتباعه من جهة، والكثير من الجماعات والأفراد المحسوبة على الثورة السورية أو المعارضة من جهة أخرى.
الوضع السوري في أشد الحاجة إلى أطروحات وطنية جريئة، يقدمها من لم يفقدوا بعد المصداقية بين أوساط لا يستهان بها من السوريين. فهؤلاء ربما لا تساعدهم ظروفهم الخاصة، ولا الظروف الإقليمية والدولية، على القيام بدور تنظيمي قيادي في العمل السوري الوطني المطلوب، ولكن في إمكانهم تقديم تصوراتهم حول كيفية الخروج من دائرة المعاناة السورية التي تجسد حالة تدميرية مسدودة الآفاق، إذا ما استمرت الممارسات والمقاربات الراهنة، سواء المحلية أم الإقليمية والدولية على حالها.
المشكلة الأساسية، وعقدة العقد، التي لم تجد طريقها إلى الحل بعد لدى قسم كبير من النخب السياسية والفكرية السورية تتجلى في كونها لم تتفق بعد على طبيعة الهوية السورية. فهناك من لم يقطع الأمل من المشروع القومي العربي، ويتناغم معهم أصحاب المشروع القومي الكردي. هذا مع تيقن هؤلاء وأولئك من استحالة تحقيق ما يطمحون إليه في ظل الوضعيات المشخصة لدول المنطقة وكياناتها، وطبيعة المعادلات الإقليمية والدولية التي تضبط التوازنات في منطقتنا.
مقابل هؤلاء، لم يقطع أصحاب المشروع الإسلامي الأمل، وما زالوا يستخدمون اللغة العامة الضبابية ذاتها، ويتحاشون التناول النقدي لتجارب الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي اتخذت من الإسلام الأيديولوجية لها، وأساءت إلى وحدة السوريين وإنجازات ثورتهم السلمية، بل قوضتها، وجعلتها من الرومانسيات المفقودة. كما أساءت إلى سمعة الإسلام والمسلمين، خاصة في المجتمعات الأوروبية التي تشهد صعوداً لافتاً للتيارات المعادية للأجانب وللمسلمين منهم تحديداً.
أما الذين يشددون على الوطنية السورية، سواء من جانب النظام أم من جانب المعارضين له بعقليته، فما زالوا يحلمون بالنظام المركزي المتحكّم بمفاصل الدول والمجتمع السوريين عبر الأجهزة القمعية، ومؤسسات الفساد والإفساد.
السوريون في انتظار مراجعة نقدية جدية جريئة لكل ما حصل لا تتمحور حول تبرئة الذات، وتقديم تصورات واقعية تأخذ بعين الاعتبار المقدمات التي أدت إلى الثورة، والحصيلة التي نعيشها راهناً.
علينا أن نعترف أن النسيج المجتمعي السوري الوطني قد أصابه الكثير من الضرر نتيجة السياسات والممارسات التي كانت قبل الثورة من جانب النظام، وبفعل التطورات والمتغيرات التي حدثت أثناء الثورة جراء وحشية النظام، واعتماده على النظام الإيراني وميليشيات “حزب الله”، والميليشيات العراقية المذهبية. هذا إلى جانب التدخلات الخارجية، والتفاعلات بينها وبين القوى الداخلية المحلية.
بالإضافة إلى ما تقدم، لا بد من أن نأخذ في حسابنا بأن وضعية مناطق النفوذ التي تعيشها سوريا حالياً ستؤدي في المستقبل القريب، وليس البعيد، إلى ظهور فئات، إن لم نقل شرائح، لها مصلحة مباشرة في استمرارية الوضع القائم، طالما أنه يوفر لها قسطاً من الأمان والانتفاع، وسيكون من الصعب مستقبلاً إقناع هذه الفئات بألا تكون المدافعة عن مصالح الآخرين في مناطقها ما دامت تستمد منهم أسباب نعمتها، وامكانية تأثيرها، حتى ولو ضمن الحدود الدنيا.
النظام السياسي القادم في سوريا لن يعرف الاستقرار من دون إيجاد الشكل الإداري المناسب للوضعية السورية في ضوء الحصيلة التي نعيش آثارها اليوم. فهناك مخاوف مشروعة من النظام المركزي الذي أثبتت تجربة أكثر من ستة عقود من الاستبداد اخفاقه، وذلك منذ سيطرة حزب البعث على الحكم عام 1963، خاصة في المرحلة الأسدية المستمرة منذ نصف قرن. ما نحتاج إليه هو نظام لا مركزي إداري، أو اتحادي، فيدرالي؛ لا يهم الاسم، وإنما المهم هو المضمون الذي ينبغي أن نصل إليه بطريقة إبداعية لمصلحة جميع السوريين من دون أي استثناء أو تمييز، وذلك حتى تُراعي الهواجس المشروعة، وتتمكن الكوادر المجتمعية المحلية التي تمتلك المصداقية، والمؤهلة مهنياً، من إدارة شؤون منطقتها على مختلف المستويات، بما فيها الأمنية أيضاً، وتعمل على النهوض بها عبر توفير فرص التعليم والعمل للجيل الشاب، وتأمين الشروط الضرورية للتنمية المستدامة. وكل ذلك يجفف منابع التطرف بكل أشكاله، ويرمم جسور التواصل بين جميع السوريين.
المصدر: القدس العربي