لا داعي لأن نحسب الزمن في سوريا، فالزمن تجمد حول مشهد واحد ووحيد هو (الهول). ولم تسعفني اللغة لأجد كلمة تعبر أكثر من كلمة (الهول). لكن ذاكرتي لا تزال متوهجة بأحداث يستحيل نسيانها ويستحيل أن يخف وهج ألمها. سأذكر بعضاً من تلك الأحداث.
منذ 2009 كنت ما أزال أعمل طبيبة اختصاصية في طب العيون في المشفى الوطني، وكنت أقصد متجرا جديدا كبيرا قرب المشفى الوطني يقال إن صاحبه رجل متدين. اشتريت عدة علب من السردين (كانت هناك إشاعات بأن المواد الغذائية سوف تفقد)، وعلب جبنة (مثلثات) ومنظفات وغيرها. في سيارة الأجرة وأنا عائدة إلى بيتي خطر لي أن أتأكد من صلاحية علب السردين والجبنة فصعقت حين قرأت عبارة (مخصص لمخيم الزعتري) مكتوبة على المعلبات! بالتاكيد هناك مواد غذائية كثيرة أخرى تمت سرقتها وبيعها في كل محافظات سوريا وهي أساساً معونات غذائية وألبسة خاصة بمخيم الزعتري… يا سلام! يبدو أن البنزين كان متوفراً بكثرة حتى تصل المعونات الغذائية الخاصة بأسوأ مخيم (الزعتري في الأردن) إلى الساحل السوري. عدت إلى المتجر وطلبت مقابلة صاحبه. كل العاملين رفضوا وقالوا إنه مسافر فقلت لهم لكن هذه المواد خاصة بمخيم الزعتري فكيف وصلت إلى اللاذقية وتباع؟ الجواب لكل الموظفين: لا نعرف و”نحن ما خصنا”.
بعد أيام من تلك الحادثة اتصل بي صديق وقال لي هل تريدين بطانية مزدوجة من الصوف، أي أن البطانية بوجهين ومن الصوف الحر. وصلت تلك البطانيات بكميات كبيرة مساعدة خاصة للنازحين من حلب وغيرها وكان سعر البطانية 2000 ليرة سورية (يومها كان الدولار لا يتجاوز 150 ليرة سورية). المساعدات وصلت الى جمعية دينية ومن أكبر طائفة مسيحية في اللاذقية. طبعاً رفضتُ البطانية وغضبت من صديقي وقلت: “كيف تباع المساعدات”! رد علي: كل المسؤولين أخذوا بطانيات لبيوتهم وأعطوا أصدقاءهم.
المساعدات في الأسواق
صباح اليوم التالي لاتصال صديقي بشأن البطانية الفاخرة بـ 2000 ليرة كنت أمارس رياضة المشي ورأيت في معظم شوارع اللاذقية العديد من الشبان أمام كل منهم “بسطة” عليها على الأقل ثلاثون بطانية من بطانيات المساعدات للنازحين والمحتاجين. كانوا يبيعون البطانية بـ (3500 ليرة سورية) وعلى مرأى من الجميع – أي في أشد شوارع اللاذقية ازدحاماً – وطلب مني أحد الشبان أن أشتري بطانية فسألته: هذه البطانيات للنازحين فكيف وصلت إليكم؟ ضحك بسخرية وقال: هبطت من السما.
ومشيت كالمسرنمة وصوت الشاب يلاحقني: اسمعي مني اشتري بطانية أو أكثر والله نوعها ممتاز كأنها بطانيات إسبانية من أجود الأنواع.
تعود تلك الذكريات الآن كأنها ليست ذكرى، بل واقع أبدي. الذكرى تصير ذكرى حين تشعر أنها ماتت أو صارت خلفك أو تمت محاسبة قضائية عادلة ونزيهة للصوص والمهربين الذين صاروا من أثرياء المجتمع السوري، الذين أثروا ثراءً فاحشا واحتلوا مناصب حساسة في الدولة.
الذكرى التي تتفجر في ذاكرتي هي مقالي عن الخوذ البيضاء الذي نشرته عام 2017. كنت – مثل كثير من المشاهدين – أتابع على الفضائيات الإسعافات الإنسانية الرائعة التي يقوم بها عناصر الخوذ البيض وكيف يعرضون حياتهم للخطر من أجل إنقاذ الضحايا تحت الأنقاض. كانت الخوذ البيض تعمل في حلب (جحيم حلب) وقد حصل الفيلم الوثائقي (الخوذ البيضاء) على جائزة الأوسكار للمخرج (أورلاندو فون إينسيدل) وللمصور السوري من حلب رائد صلاح ولمدير الدفاع المدني خالد الخطيب. كان الفيلم رائعاً وأذكر العبارة البليغة فيه “إن أنقذتم حياة كأنكم أنقذتم العالم”. الغريب أنه سرت إشاعة أن مخرج الفيلم الوثائقي هو نجدت انزور، ثم تلاشت الإشاعة بعد عرض اسم مخرج الفيلم أورلاندو فون إينسيدل. وبدأت حملة شرسة من النظام السوري والموالين له بتخوين الخوذ البيضاء، وشن أحد الضباط هجوماً شرساً عليهم إذ كان يكتب دوماً على صفحته أن الخوذ البيضاء يرفعون علم “تنظيم الدولة” (داعش) على رأس كل ضحية ينتشلونها من تحت الأنقاض وأن لهم ارتباطات خارجية وإنهم إرهابيون!
وقد تأثر بعض المواطنين بتلك الحملة الشرسة التي قام بها النظام السوري في شيطنة الخوذ البيضاء وتخوينها وارتباطها بأجندات خارجية تؤذي سوريا. الكثير من الموالين للنظام أصحاب المراتب العالية جداً كانوا يشتمون ويخونون يومياً الخوذ البيضاء وبعد أن ينتهوا من كلام التخوين وإلصاق أحقر الصفات بهم يبدؤون بالترحم على المجندين السوريين الذين ماتوا. ويا لعبارات التفخيم للشهداء! يباركون لأهل الشبان بعمر الورود “الذين ماتوا دفاعاً عن الوطن”! أي انعدام حس وإنسانية أن تبارك لأب وأم فجعوا بموت ابنهم! وبأنه نال أعلى وسام في الحياة وهو الشهادة، بينما أولاد هؤلاء المسؤولين الكبار في دول أوروبية وأمريكا، كما يرسلون زوجاتهم ليلدن في أمريكا (الشيطان الأكبر) كي يحصل الوليد على الجنسية الأمريكية.
في مديح الخوذ البيضاء
بعد خمس سنوات من كتابة مقالي في مديح الخوذ البيضاء تمكن أحد كتبة التقارير، وهو يدعي أنه فنان تشكيلي، من كتابة تقرير كيدي ضدي وطبع أكثر من ثلاثين مقالاً من مقالاتي التي كنت أنشرها في جريدتي “الحياة” و”السفير” وقدم تلك المقالات للأمن العسكري. وتم استدعائي إلى الأمن العسكري. كان المحقق غاضباً وأمامه كل مقالاتي وأخذ يقلبها بطريقة استفزازية كأنه يريد أن أفهم أنه يحتقر كتاباتي. وفجأة أخرج مقالاً ونظر إلي نظرة جمدت الدم في عروقي وقال: أنت تمتدحين الخوذ البيضاء ومعجبة بهم ولوح بالمقال في وجهي. وجدتني أقول له: لكنني كتبت هذا المقال منذ خمس سنوات! فما غايتك أن تحكي عنه الآن أظن لو نحكي عن أزمة الرغيف في سوريا (مقابل مبنى الأمن العسكري في اللاذقية) كان هناك طابور أكثر من 200 رجل وامرأة ينتظرون دورهم في الحصول على ربطة خبز عن طريق البطاقة الذكية. أغضبه جداً جوابي وقال: أنا هنا من أسأل، ولست أنت أتفهمين؟ فكررت ما قلته بأنني كتبت المقال منذ خمس سنوات. فرد: لكن النظام السوري الممانع والمقاوم اعتبرهم إرهابيين فلم أرد. حل صمت من رصاص بيننا وقلب مقالاتي وقال: كل مقالاتك هي نشر للغسيل الوسخ (هذه العبارة موحدة في كل الأجهزة الأمنية) قلت: أنا أكتب بنزاهة وصدق عن معاناة السوريين. وتشجعت لأسأله: لماذا بعد خمس سنوات من كتابتي لمقالي في مديح الخوذ البيضاء يمنعني من السفر ويستدعيني للتحقيق في مبنى الأمن العسكري المؤلف من عدة مباني والذي حين أدخل إليه أشعر أنه من الطبيعي أن يتوقف قلبي فأنا عزلاء وسط سلطة مطلقة يتمتع بها المحقق. لا أنسى أن أحد المحققين قال لي مرة: أتعرفين مدى صلاحياتي أترين تلك البناية المؤلفة من عشرة طوابق يمكنني أن أستدعي كل سكانها إلى مكتبي وأحتجزهم لمدة ستة أشهر على ذمة التحقيق. كيف يمكن في هكذا ظروف من البطش أن نحس بنقطة كرامة أو حرية والحذاء العسكري صار رمزاً مقدساً ووضعوا فيه زهوراً؟ أي شجاعة أو نعمة تتمتع بها الزهور كي لا تموت وهي مزروعة في جزمة عسكري. لكن الزهور لا تملك قلباً أو هي تعرف أنها محظوظة أن عمرها قصير.
أصبح المواطن السوري كالزهور “ينقصف” عمره من الجوع والقهر، و”التعتير” وانعدام الحرية والكرامة. لا يجب أن ننسى أي تفصيل في حياتنا في سوريا التي تكفي كلمة واحدة لوصفها هي
ألف وردة للخوذ البيضاء. كل المحبة والتقدير لكم. ولكم ترفع القبعات. لم تضعوا علم “داعش” على رؤوس من أنقذتموهم من تحت الأنقاض، بل وضعتم تاج الحرية والكرامة والحياة.
* كاتبة سورية
المصدر: القدس العربي