لم تكن العاصمة السورية دمشق على حافة القلق والتوجس يوماً منذ العام 2011، كما هي عليه اليوم، جرّاء الخلاف المتسع بين رجل الأعمال السوري رامي مخلوف والنظام، كما يقول أحد الكتّاب السوريين الذين فضّلوا البقاء في بلدهم، على مغادرته، كما أجبر على ذلك ملايين السوريين، على مدى أكثر من تسع سنوات من عمر ثورتهم. هذه الثورة، حوّلها النظام إلى “أزمة” تعصف براهن البلاد ومستقبلها. ويرى الكاتب، الذي طلب عدم ذكر اسمه، في حديثٍ مع “العربي الجديد”، أن “الحرب المعلنة بين رامي مخلوف (ابن خال رئيس النظام بشار الأسد)، والنظام، فتحت الباب واسعاً أمام أسئلةٍ سورية محورية تتعلق بالمصير، وبالمجهول الذي تتجه إليه البلاد في ظلّ أزمات متلاحقة، تكاد تُطبق على ما تبقّى من السوريين”.
ويلفت الكاتب إلى أن “جولةً بسيطة في الأسواق الرئيسية في دمشق، تكشف حجم المأساة والكارثة التي بدأت تطل برأسها”، متحدثاً عن أسعار سلعٍ جنونية، فيما سقف الراتب لا يتعدى الـ30 دولاراً (نحو 50 ألف ليرة سورية بسعر صرف يوم أمس الجمعة)، ما يعني دولاراً واحداً في اليوم لكل عائلة، بغضّ النظر عن عدد أفرادها. ويأتي ذلك في ظل أحوال العمال السوريين، الذين تأثرت أشغالهم في ظلّ تفشي فيروس كورونا المستجد، بحسب المصدر. ويحذر الكاتب من أن “الدولار يحلّق، فترتفع الأسعار. وفي حال تفاقم الأوضاع أكثر، ربما تشهد دمشق وباقي المناطق الخاضعة للنظام ما يشبه المجاعة”.
وحول صراع العائلة، يعرب المصدر عن اعتقاده بأن الحرب المفتوحة بين رامي مخلوف وآل الأسد، والذي “انتقل إلى وسائل الإعلام، ظاهره اقتصادي وباطنه سياسي بحت”. فبرأيه، “تحول مخلوف، الذي كان ركناً مهماً من أركان النظام، فجأة، إلى مجرد متهرب من دفع الضريبة للدولة. هناك صراع خفي بين جهات عدة داخل النظام، غايته تحقيق توازنات جديدة في نظام مفلس على الصعد كافة، ويقع عموم السوريين في آخر سلّم اهتماماته”.
ويشير المصدر إلى أن “دمشق ليست المدينة التي نعرفها”، لافتاً إلى أن “من يتجول فيها بدءاً من أحياء المزة غرباً، مروراً بالبرامكة والشعلان وبوابة الصالحية وأبو رمانة والجسر الأبيض والمهاجرين، وانتهاء بالأحياء القديمة وصولاً إلى باب توما، يرى الوجوم والترقب الحذر على وجوه السوريين”. ويعتبر الكاتب أن “هناك حالةً من الخوف لدى السوريين من تبعات ما يجري على حاضرهم ومستقبلهم، فهم يريدون الخلاص من النظام الذي يحكمهم بالحديد والنار، لكنهم يدركون أن الثمن سيكون قاسياً جداً، فتفكيك منظومة أمنية كالتي تسند النظام ربما ليس بالأمر الهيّن، في ظلّ تردد دولي واضح”.
وقد فاقم التراشق الإعلامي ما بين رامي مخلوف والنظام، مأساة السوريين في الداخل، حيث ارتفع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة بشكل غير مسبوق، وهو ما ينعكس على الفور على أسعار المواد الغذائية، في ظلّ عجز النظام – وربما تعمده – عدم ضبط الأسواق. وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أن أسعار الخضروات وصلت إلى سقوف غير مسبوقة في تاريخ سورية، مشيرة مثلاً إلى وصول سعر “الخسّة الواحدة إلى 300 ليرة سورية، وسعر كيلوغرم البندورة إلى ألف ليرة”. وأوضحت أن مأساة السوريين في الداخل لا تقتصر على أسعار المواد الغذائية الضرورية، مشيرة كذلك إلى انقطاع التيار الكهربائي الدائم، ووضع المراكز الصحية والمشافي العامة المُزري. وفي هذا الخصوص، تلفت مثلاً إلى أن “المعاينة لدى طبيب متخصص في عيادته تصل فاتورتها إلى 10 آلاف ليرة سورية (حوالي 6 دولارات)، فضلاً عن الأسعار المرتفعة للأدوية”، مؤكدة أن هذا الارتفاع طاول كل شيء في سورية، فيما لا حول ولا قوة للمواطن”. وترى المصادر أن “أغلب السوريين في الداخل نادمون على البقاء، حيث لا ضوء في نهاية نفق بدأ في العام 2011، ونحن اليوم في منتصف العام 2020. أما الحلّ السحري، فبعيد المنال”.
وفي إشارة لوضع الأسواق، تؤكد المصادر على “حالة الركود السائدة في دمشق”، لافتة إلى أن “المواطنين يشترون المستلزمات الضرورية فقط، كالمأكل والمشرب، وفي نطاق ضيق للغاية، وربما نصل إلى مرحلة يمتنع فيها التجار عن البيع والشراء بسبب تقلبات سعر صرف الدولار على ضوء الصراع المحتدم بين أركان السلطة”.
ومن المرجح أن تنتقل الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى مستويات أكثر خطورة، في حال استمرار النزاع بين رامي مخلوف، الذي يملك نحو 60 في المائة من الاقتصاد السوري مع عائلته، وبشّار الأسد، الساعي إلى تجميع كل أسباب القوة بيده استعداداً ربما لمرحلة مقبلة.
ولا يبدو أن النظام يخشى من انفجارٍ شعبي عارم على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تطحن السوريين في مناطق نفوذه، حيث لا تزال قبضته الأمنية والعسكرية حاضرةً فيها.
وتشير مصادر محلية في العاصمة دمشق، تواصلت معها “العربي الجديد”، إلى أن الاستياء والاحتقان الشعبي لن يصلا إلى مرحلة حراك ثوري جديد “لأن السوريين يعرفون جيداً أن النظام مستعد للبطش بهم، كما فعل في كل المناطق التي خرجت ضده”. وترى المصادر أن “الأحياء والمدن المدمرة في دمشق ومحيطها رسالة واضحة لكل من يفكر بتجسيد استيائه في حراك ثوري”. ويشرح أحد المصادر أن “مدينة داريا قرب دمشق، وأحياء دمشق الجنوبية، وحي جوبر والقابون، وبرزة وغوطة دمشق الشرقية، وهي كلها مدمرة بشكل كلي أو جزئي، ربما تمنع السوريين في العاصمة دمشق من التفكير – مجرد التفكير – بالتعبير العلني عما يشعرون به”. وجزمت المصادر أن “شعبية بشار الأسد باتت بالحضيض”، مضيفة أنه “لم يعد لديه مؤيدون في الشارع السوري. لقد دمرت سورية خلال 20 عاماً من حكمه، وتشرد أكثر من نصف أهلها، فضلاً عن سقوط مليون قتيل، ومثلهم ما بين معتقل ومغيّب ومعاق، والبلاد باتت مناطق نفوذ دولي وإقليمي”. وتعتبر المصادر أن معظم السوريين في الداخل “باتوا يبحثون عن حلّ حقيقي لقضيتهم من دون وجود لبشار الأسد وأركان حكمه”.
من جهتها، تراقب المعارضة السورية في الخارج الأوضاع في مناطق النظام عن كثب. وبينما يذهب بعض أطرافها بعيداً في التعويل على خلاف الأسد – مخلوف، والتوهم بأن روسيا تستعد للتخلي عن رئيس النظام، في انعكاس واضح لعدم قدرتها على قراءة السياسة بشكل صحيح وعقلاني، فإن فئة أخرى من المعارضة لا تتوقع انفجاراً شعبياً عارماً في المدى المنظور.
وفي هذا الإطار، يقول عضو هيئة المفاوضات التابعة للمعارضة السورية، يحيى العريضي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “كلّ السوريين تيقنوا بعد ما جرى بين رامي مخلوف والنظام، أن هناك آلة إجرامية مستعدة لطحن كل شيء من أجل البقاء في السلطة”. ويشير العريضي إلى أن “العصابة الحاكمة بدأت تأكل بعضها بعضاً، ومن ثم فهي لا تكترث للسوريين ومآسيهم، ومستعدة للفتك في حال لمست أن الاستياء يمكن أن يتحول إلى حراكٍ ثوري معلن”.
ويعرب المعارض السوري عن اعتقاده بأن الخوف “لا يزال هو الطاغي من عصابة إجرامية سقطت أخلاقياً قبل سقوطها السياسي والعسكري”، داعياً لأن “يدرك السوريون على أيّ ضفة سياسية كانوا”. ويرى العريضي أن مهمة إنقاذ سورية واستعادتها تقع على عاتق كل السوريين، وليس على عاتق المعارضة فحسب، لافتاً إلى “ضرورة ألا تؤخذ الطائفة العلوية بجريرة عصابة، فخوف العلويين من العصابة الحاكمة مباشر”. ويناشد العريضي المجتمع الدولي التدخل بشكل جاد وصارم من أجل إنقاذ السوريين من المآسي التي يعيشونها في الداخل، مضيفاً أنه “آن الأوان لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، لوضع حدٍّ لما يجري في سورية”.
المصدر: العربي الجديد