متى ما ملك العراق قراره السياسي المستقل يمكنه أن يؤسس لعودته الطبيعية إلى محيطه العربي من غير أي عائق، حتى وإن كانت عُقد الماضي القريب لا تزال تضرب على أوتار حساسة في أذهان البعض ممّن لا يثقون بأن المستقبل صناعة بشرية وليس مخططاً قدرياً مرسوماً بمعزل عن إرادة الأفراد. ولكن كل معطيات الواقع العراقي الراهن تؤكد أن ليس كل ما يريده العراقيون يجد أمامه الطريق سالكة للتنفيذ.
لا تزال المسافة القائمة ما بين الواقع السياسي وما يرغب العراقيون العاديون فيه طويلة، ولا يمكن أن تُختصر بمجرد أن يقوم رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بزيارات مكوكية لعدد من دول الجوار العربي، ولقاءاته مع عدد من زعماء تلك الدول وتصريحاته الوطنية المتفائلة. فالمسألة العراقية لا يمكن تبسيطها أو اختزالها في سياق خلافات جانبية. ذلك لأن العراق بعد الكارثة التي ضربته منذ عشرين سنة مع الغزو الأميركي، فقد القدرة على إدارة سياسته إدارة واضحة بسبب التدخلات الأجنبية التي كان التدخل الإيراني أكثرها وضوحاً. وليس من باب التشاؤم القول إن العراق في المرحلة الراهنة ليس في الوضع الذي يؤهله لإدارة سياسة مستقلة على صعيد علاقته بمحيطه العربي. فتحالف الإطار التنسيقي الذي تعد الحكومة التي يتزعمها السوداني واجهة له، هو في حقيقته عبارة عن مجموعة الأحزاب الموالية لإيران.
وسيط هو جزء من المشكلة
في ظل عجز العراقيين عن تصريف شؤونهم السياسية بإرادة مستقلة، فإن الخروج من عنق الزجاجة الإيرانية يبدو صعباً ما لم ينجح الحوار السعودي – الإيراني الذي كانت بغداد ولا تزال تستضيف جلساته. غير أن ما لا يوحي بسلامة النتائج أن الطرف الراعي للحوار أو الوسيط هو جزء من المشكلة. فليس في إمكان الجانب السعودي أن لا يرى في الهيمنة الإيرانية على العراق نوعاً من التهديد لأمنه الوطني، نظراً إلى أنه يعتبر استقرار العراق واحدة من دعامات الأمن القومي، فيما يتخذ الجانب الإيراني من العراق ممراً إلى العالم العربي، لا من أجل الوصول إلى حالة توازن إقليمي بل من أجل فرض خياراته التي أقلها ضرراً أن يكون العراق منطقة حياد تفصل بين إيران والعرب. وهو ما يعني تحويل خزانة العرب التاريخية على مستوى حضاري إلى مجرد ديكور إيراني، يكون “طاق كسرى” في المدائن هو رمزه في حوار لن يكون العرب ممثلين بالمملكة العربية السعودية في حاجة إليه. في أوقات سابقة كانت للمملكة تجارب مضنية في محاولة فهم اللغة التي يستعملها الإيرانيون في مفاوضاتهم. وهي لغة مبهمة ومنافقة لا يمكن التفريق بين الحق والباطل من خلالها. وهو ما خبره أيضاً الأوروبيون في حواراتهم مع النظام الإيراني.
تفاؤل في غير محلّه
خرج رئيس الحكومة العراقية السوداني من كل اللقاءات التي أجراها مع القيادات الخليجية متفائلاً. تفاؤل لا يمكن التشكيك بصدقه وبالنية الحسنة التي تقف وراءه. لا يرغب الرجل الجالس على كرسي صدام حسين في أن يكون صانع أوهام، ولا يرغب في أن يكذب على نفسه. غير أن عراقه هو غير عراق صدام حسين. العراق اليوم لا يقوى على تدبير شؤون مصيره داخل المنظومة العربية، الخليجية منها بالذات. فهو دولة تتجاذبها الطوائف والأعراق في ظل احتلال إيراني مستتر يعمل وكلاء الولي الفقيه على تأثيثه بكل عناصر الاختلاف التي تضع العروبة في موقع المساءلة انطلاقاً من عقدة فارسية تاريخية. ولكن ما لا يفهمه السوداني أن تلك العقدة قد تحولت إلى سياسة صار عليه أن يروّج لها من غير أن يدري. فحين يتحدث عن علاقات تاريخية ودينية تجمع بين العراق وإيران، فإنه يسوّق فكرة إيران السياسية عن العراق. وهي فكرة لا ترى في العراق دولة ذات سيادة بل هو مجرد ولاية تابعة للجمهورية الإسلامية ذات المنطلقات الطائفية. تلك هي الفكرة نفسها التي تنظر أحزاب الإطار التنسيقي من خلالها إلى علاقة العراق بمحيطه العربي.
عروبة العراق وهي مسألة تاريخيّة ودينيّة
ليس صحيحاً ما يُقال عن ارتباط العراق بإيران تاريخياً. فتلك العلاقة لم تكن حسنة عبر التاريخ. كما أن العلاقة بين الشعبين على المستوى الديني غير قائمة اليوم على أسس صحيحة. فالمنظور الطائفي الذي تنظر إيران من خلاله إلى علاقتها بالشعب العراقي يحط من مكانته حين يُخضعه لنظرية ولاية الفقيه كما اخترعها الخميني. ولو كانت المقاربة الطائفية هي القياس، وهي ليست كذلك بالنسبة إلى العراقيين، فإن مرجعية النجف (الشيعية) التي يُفترض تاريخياً أن تكون هي المرجعية الأم لشيعة العالم، صارت في إطار المنطق السياسي الذي فرضته إيران وأحزابها العاملة في العراق تابعة لمرجعية قم. وحين أوصى المرجع الديني الإيراني كاظم الحائري بعد اعتزاله العمل الفقهي أتباعه في العراق، وهم يعدون بالملايين، باتّباع علي خامئني، فإنه أكد أن البساط كان قد سُحب سياسياً من تحت قدمي السيستاني منذ سنوات.
ليست هناك علاقة دينية سوية بين إيران والعراق، وليست محاولة تطبيع تلك العلاقة إلا نوعاً من القفز على حقائق الواقع. فالعراق في حقيقته ليس بلداً شيعياً. فلو وضع الأميركيون حين أرسو قواعد النظام الطائفي الأكراد في الميزان الطائفي لما حصل الشيعة على نسبة الأغلبية المطلقة. ولكن تلك مشكلة ثانوية إذا ما التفتنا إلى حقيقة أن شيعة العراق لم يكونوا عبر تاريخهم خاضعين لمرجعية قم. وبالرغم من أن مرجعية النجف كانت دائماً فارسية، غير أنها كانت تحرص دائماً على استقلالها.
أما حين يستسلم رئيس الحكومة السوداني لمسلمات “حزب الدعوة” في الترويج لعلاقة تاريخية ودينية زائفة تربط العراق بإيران، فإن ذلك يعني أن الرجل قد أصابته عقيدة الحزب الذي ارتبط به عائلياً حتى عام 2019 بالعمى الذي يمنعه من رؤية عروبة العراق التي تجمع التاريخ والدين في سلة واحدة.
المصدر: النهار العربي