عمّق الزلزال المدمّر جراحنا، وزاد في مآسينا وأوجاعنا، لأنه لم يقتل أحبّتنا ويدمر حواضرنا وأوابدنا فقط، بل قتل ثقتنا بالمنظمات الدولية وبالدول التي ترفع شعارات نبيلة عن القيم والحقوق الإنسانية الشاملة. وهذا عزّز قناعتنا بأن حل مشكلاتنا مسؤوليتنا، والتغيير وإقامة العدالة والمساواة بين جميع المواطنين في دولةٍ يسود فيها القانون والمواطنة الحقّة طريقنا الحتمي. رحم الله الضحايا وشفى المصابين وخفف عن المكلومين، وبارك بهمم فرق الإنقاذ، وخصوصاً أصحاب الخوذ البيضاء. … هنا محاولة على طريق وضع لبنات للتغيير المنشود.
شهدت الدول العربية، بما في ذلك سورية، محاولاتٍ وتجارب عديدة للنهوض وتحقيق الاستقرار والازدهار من دون كبير نجاح. وقد ارتبطت النتائج الهزيلة لهذه المحاولات والتجارب باعتماد قادة الرأي والساسة والأحزاب الوطنية والقومية واليسارية خيار تجاهل التطورات والتحولات التي حدثت خلال المراحل الأخيرة من عمر السلطنة العثمانية؛ والنقلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترتّبت عن هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وسيطرة دول الحلفاء، المملكة المتحدة وفرنسا بشكل رئيس، على ما بقي من أراضٍ عربية ضمن كيانها في بلاد الشام والعراق، وما أحدثه الاستعمار فيها من تحوّلات جيوسياسية بتشكيل دول سورية لبنان الأردن والعراق، والبدء بتنفيذ وعد بلفور بالسماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ وما شكّله من أطر ومؤسّسات لإدارة هذه الكيانات الوليدة؛ وحاول زرعه من مفاهيم وقيم سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة عن النمط الذي ساد قروناً طويلة، حيث سعت عملية الزرع لإخراج مجتمعات هذه الدول عن سياقها التاريخي بإيجاد سياق لها من دون كبير نجاح، فقد بقيت النواة التاريخية حاضرة وفاعلة ومؤثرة في حياة الأفراد والمجتمعات؛ وبقيت القيم المزروعة قشرة سطحية لم تمتلك جنان المجتمعات أو تنال قبولها، ما ولّد حالة تنافر وتفاضل عميقة في ضوء المسّ بعصب النواة التاريخية: الإسلام ومفاهيمه وقيمه، وما يمثله لهذه المجتمعات من قيمة تكوينية.
تزامن ظهور علامات الإنهاك والترهل على السلطنة العثمانية التي استنزفت قدراتها وإمكاناتها في غزوات متتالية في أوروبا، وخوض حروب طويلة مع الصفويين والروس، بنهوض دول أوروبية وتقدّمها في مجالات الصناعة المدنية والعسكرية وتعزيز قدرات جيوشها على خوض حروبٍ في مناطق بعيدة؛ وتمدّدها خارج أراضيها، بحثاً عن المواد الخام والأسواق لصناعاتها بإيقاع ثلاثي الركائز: التاجر والمبشّر والجندي، واكتساح جيوشها أراضي السلطنة، حيث تآكلت حدودها الجيوسياسية بفعل قضم الدول الأوروبية الصاعدة مساحاتٍ واسعة منها في أوروبا وشمال أفريقيا، ما دفع السلطنة إلى البحث عن حلٍّ يعيد لها عنفوانها ويجدّد قدراتها على الدفاع عن حدودها ورد الغزو الأوروبي والروسي عن أراضيها، فلجأت إلى استعارة نظم وأساليب عمل أوروبية، وأصدرتها في فرمانات سلطانية، خط شريف كلخانة 1839 وخط شريف همايون 1856، وأدخلتها في هيكلها السياسي والإداري وأسقطتها على المجتمعات المحلية من دون تمهيد أو تحضير أو تكييف وموازنة، ما أوجد للتو حالة اختلاط في المفاهيم والقيم واستقطاب بين المواطنين، في ضوء انقسام اجتماعي بشأن هذه الفرمانات بين مؤيد للاستعارات السياسية والاجتماعية ورافض لها.
لقد فقدت السلطنة العثمانية عوامل قوّتها وتماسكها وتآكل محتواها الثقافي والاجتماعي الخاص، بسبب سيادة الجمود والتقليد والتنميط والتمسّك بالشكل على حساب المضمون وغياب الاجتهاد والتعدّد في وجهات النظر، حتى باتت توصف برجل أوروبا المريض، من جهة، وانخراطها في تجديد سطحي بإصدارها الفرمانات المذكورة أعلاه بمحتواها الغريب، الذي كسر وحدانية المفاهيم والقيم التي حكمت شبكة العلاقات الاجتماعية من دون أن يحظى بشرعية شعبية وعمق اجتماعي، من جهة ثانية، واختراقها بالأفكار والمفاهيم الأوروبية الحديثة، القومية والعلمانية، التي هزّت استقرارها الثقافي والاجتماعي، المرتكز على قيم ومفاهيم ذات جذر إسلامي، من جهة ثالثة، واختراقها بالدعوات القومية، التي أغوت الشعوب غير التركية على خلفية المظالم التي وقعت عليها من سياسات السلاطين، ومساعي التتريك التي مارستها حكومة حزب الاتحاد والترقّي، ما نقل الصراع إلى داخلها وأضعف تماسكها الداخلي وانسجامها الظاهري وقدرتها على جبه التحدّيات، من جهة رابعة. وقد أثار هذا كله جدلاً حول شرعية مرجعية السلاطين ونمط الحكم القائم على خلفية انفراد الترك في القرار السياسي وفساد الولاة وقادة الجيش والمظالم الكبيرة التي طاولت المواطنين، وخصوصاً في أوقات الحروب، فتراجعت قوة السلطنة وتآكلت سمعة السلاطين وممارساتهم القائمة على الظلم والقسوة والتمييز ضد الشعوب غير التركية، من دون أن ينال الوافد الجديد، بمفاهيمه وقيمه وممارساته الشرعية والقبول.
وقد جاء انخراطها في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، وهزيمة المحور في الحرب واقتسام دول الحلفاء أراضيها في بلاد الشام والعراق، ووضع هذه الدول خريطة سياسية جديدة بإنشاء دول جديدة تنسجم حدودها مع هذا الاقتسام (سورية ولبنان لفرنسا، وفلسطين والعراق للمملكة المتحدة) ووضعها تحت انتدابهما بقرارات من عصبة الأمم، وقيام دولة تركية على جزء من أراضي السلطنة بقيادة الجنرال مصطفى كمال أتاتورك، الذي ألغى الخلافة الإسلامية، خاتمة لسياسات متراجعة وفاشلة.
قاد إلغاء الخلافة الإسلامية وإقامة دول جديدة في بلاد الشام والعراق، والبدء بإقامة مؤسسات وهياكل تنظيمية وقوانين جديدة ومختلفة عن المألوف في هذه المجتمعات إلى حالة عدم توازن في المجتمعات التي عاشت في ظل قيم محدّدة قروناً طويلة، انقسمت المجتمعات بين أغلبية رافضة التحوّل الذي حصل، لأنه أخذها على حين غرة، من جهة، ولأنه غريب وخارج تكوينها العقائدي والسياسي والاجتماعي، ويتناقض مع ما اعتادته، من جهة ثانية. وغدا السلوك العام المرتكز على التجربة التاريخية لهذه المجتمعات في نظر الكيانات الجديدة غير قانوني، وغير شرعي، بالتالي، ما رتّب حالة هجينة وفراغاً كبيراً، فالمؤسسات والقوانين الجديدة غريبة عن الأفراد والأطر الاجتماعية الراسخة، ما جعلها غير شرعية، من جهة، وجعلها، من جهة ثانية، ملزمة، بحكم كونها تهيمن وتسيطر على المجال العام، من ناحية قيم وتقاليد عربية وإسلامية قائمة وراسخة في وجدان المواطنين ومشاعرهم وسلوكهم اليومي، ومفاهيم وقيم غربية تعزّزها صناعة وعلوم وفنون وقوة عسكرية… إلخ؛ مغرية، تحتاجها المجتمعات المحلية لما تقدّمه من إمكانات وفرص في حل مشكلاتها اليومية.
لقد ترتب عن الخريطة السياسية الجديدة التي رسمها الاستعمار الأوروبي وفق أهدافه ومصالحه، والسياسات التي اعتمدها بالعمل على نشر مفاهيمه وقيمه، على الضد من تصوّرات المجتمعات المحلية، تفتيت الاجتماع الإسلامي وإيجاد هويات وطنية ونزعات إثنية ودينية وطائفية متعارضة وزرع دولة إسرائيل في فلسطين كي تحرس مصالحه وتستنزف دول المنطقة وشعوبها ودفع المنطقة إلى الإنهاك والترهل لقطع الطريق على تفاعلاتها الداخلية وتطلعاتها الخاصة.
رغم نجاح الدول الاستعمارية في فرض الخريطة الجديدة سياسياً، إلا أنها لم تنجح في فرض مفاهيمها وقيمها، حيث بقي الولاء للهوية الأصلية: الإسلام، واسعاً وطاغياً على العواطف والمشاعر والممارسة اليومية، وما زاد الطين بلّة أن الغرب والثقافة الغربية السائدة يجعلان من الجزئي من مفاهيمها وقيمها كلياً وثابتاً، وتجعله معياراً ومرجعية كونية، وبقي التحفّظ على الكيانات الجديدة وخريطتها المصطنعة قائماً، وغدا المجتمع مجتمعين، لكل منهما سياقه ومفاهيمه وقيمه مع نسبة من التداخل والتمازج دون تفاعل ايجابي.
لم تتمكّن الأنظمة القومية والوطنية العربية من تجاوز مشكلة الاختلاط والتعارض في المفاهيم والقيم بإيجاد توازن داخلي يتيح انطلاق عملية التنمية والإنتاج، لأن الجديد لم يولد متصالحاً مع القديم، من جهة، ولأنه، الجديد، جاء تحت حراب الدول الاستعمارية وأطماعها، فبقي غريباً ومرفوضاً، من جهة ثانية. كذلك لم تنجح الأحزاب السياسية العربية، بعقائدها وبرامجها الجديدة، في تجسير الفجوة وتحقيق توازن مقبول اجتماعياً، في ضوء تبنّي معظمها مفاهيم وقيماً وافدة ونبذها أو تجاهلها المفاهيم والقيم والسياقات المحلية، فالانخراط في المفاهيم والقيم الوافدة يحفّز رد فعل داخلي، يستمد شرعيته من عمق تاريخي، وترويج مفاهيم وقيم من خارج السياق المحلي يشكل عبئاً يشلّ القدرة على الحركة والإنجاز، ما أبقى الأحزاب القومية واليسارية قوى هامشية في مجتمعاتٍ يهيمن على مخيالها الإسلام وتاريخه، فيما فشلت الحركات والأحزاب ذات الجذر الإسلامي في إقامة توازن بين المفاهيم والقيم المحلية التي استثمرتها في استقطاب قواعد شعبية واسعة، والمفاهيم والقيم الوافدة مع حاجتها لمنجزات الدول الأوروبية من الأدوات والعدد الصناعية ومعارفها في الطب ومناهجها في التعليم، ومقاطعتها مع السياق المحلي؛ فالقطع مع المفاهيم والقيم الوافدة من دون تبصّر، لما فيها من مفاهيم وقيم إيجابية وقابلة للتوظيف لتطوير حياتنا وقدراتنا على الإبداع والإنتاج، مثل المأسسة الشاملة وسيادة القانون والبرلمان والفصل بين السلطات والمواطنة والمجتمع المدني والإعلام الحرّ … إلخ، جعلها تلوك معارف ومناهج قديمة وعاجزة عملياً عن المساعدة في حل مشكلات مجتمعاتنا.
وجود المجتمعات تحت تأثير نمطين من المفاهيم والقيم والمعارف والتقاليد جعل الالتفاف حول فكرة حافزة صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.
المصدر: العربي الجديد