كانت الموافقة التركية السريعة على انضمام إيران إلى المباحثات مع النظام السوري مفاجئة، فروسيا تشارك، كما هو مُفترض، باعتبارها ترعى (أو تستضيف) مباحثات التقارب بين أنقرة ودمشق، فيما ستدور المباحثات ثنائية بين الطرفين المباشرين. وقد تغيّرت هذه الصورة الأولية على إيقاع الاندفاع التركي المفاجئ، فقد بادرت طهران إلى طلب المشاركة في هذه المباحثات، وتحرّكت بشخص وزير خارجيتها، حسين عبد اللهيان، لهذا الغرض نحو دمشق وأنقرة وموسكو، إلا أن أنقرة اختصرت على طهران تحرّكاتها، وأعفتها من الانتظار، ومن التباحث في حيثيات المشاركة الإيرانية، وذلك بالموافقة السريعة على انضمامها، وهو ما لا بد قد فاجأ طهران، كما فاجأ غيرها من العواصم المعنية، فقد شاءت طهران العودة إلى صيغة أستانة (مع استبعاد المعارضة السورية هذه المرّة)، وهذه الصيغة عزيزة على قلب الروس، إذ من خلالها جرت ضغوط متتابعة على تركيا ومن خلفها المعارضة المسلحة وغير المسلحة من أجل تقليص الوجود التركي على الأراضي السورية، مع التلميح والتصريح بأنه وجود غير شرعي، وهو ما حدث منذ التخلي عن حلب وما تلاه.
منح محفل أستانة للطرفين، الروسي والإيراني، صفة الضامن للحلول، مع أنهما كانا وما زالا طرفين مباشرين في الصراع، ورفضا أي حلول سياسية، وآثرا الحلول العسكرية والحسم العسكري، ولم يضمنا شيئا سوى إنكار حقوق السوريين وطرح المرجعية الدولية للحلول جانبا. وفي الأصل، ابتدعت موسكو صيغة أستانة بديلا عن صيغة مفاوضات جنيف الدولية برعاية الأمم المتحدة ووفق المرجعية الدولية، وعلى الخصوص قرار مجلس الأمن 2254. وعليه، سوف تتم المباحثات المزمعة على مستوى وزراء الخارجية والخبراء بصيغة أستانة، لا بصيغة جديدة وثنائية بين دمشق وأنقرة، وسوف تكون الأخيرة مدعوّة إلى أن تجلس منفردة أمام ثلاثة أطراف متناغمة ومتجانسة، وحيث يسع كل طرفٍ من هذه الاطراف الثلاثة ممارسة ضغوطه الخاصة على أنقرة، وفقا للموقع الحيوسياسي الخاص بكل طرف. وقد بدأت هذه الأطراف بممارسة “ضغوط” نفسية ودعائية، حتى قبل أن تبدأ المباحثات، من قبيل القول إن انبعاث صيغة أستانة سوف يسهم في إنجاح الرئيس التركي، رجب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، و”بما يقطع الطريق على المحاولات الأميركية لتفويز المعارضة التركية في هذه الانتخابات”، وذلك وفق ما نقلته “العربي الجديد” عن صحيفة الوطن، الصادرة في دمشق، في سياق تقرير عن مباحثات روسية إيرانية، جرت في طهران قبل أيام، وبما يعني أنه سيعود الفضل للثلاثي، الروسي والإيراني والسوري، وليس للناخب التركي في إنجاح أردوغان وحزبه في حال نجاحه، وهو ما لا بد أن يقابله الطرف التركي بالامتنان، وبتسهيل المفاوضات وتلبية الطلبات الروسية والإيرانية والسورية، مقابل التضييق على الوجود الكردي المسلّح في شرق الفرات، وقريباً من الحدود مع تركيا.
جرى التمهيد لهذه المباحثات في ظروف غير مواتية، وفي بيئة سياسية شائكة ومعتمة، فروسيا تواصل حربها على أوكرانيا، وترفض الإصغاء للطلبات الدولية بوقف الحرب واللجوء إلى التفاوض، وتؤكّد أن “عمليتها العسكرية الخاصة” ماضية إلى أن تحقق أهدافها، وإيران تنكّل بشعبها وتقمع الاحتجاجات الشعبية منذ سبتمبر/ أيلول الماضي بعنف مفرط، وترفض أي إصلاح داخلي يحقّق الحد الأدنى من المطالب الشعبية، فيما المفاوضات بشأن ملفها النووي متوقفة، بينما تواجه دمشق أزمة اقتصادية مستفحلة، يكاد ينعدم فيها الأمن الغذائي لغالبية السوريين، فيما تثور الاتهامات وتتوالى التقارير بشأن إنتاج المخدّرات وتصديرها إلى دول الجوار.
في هذه الظروف الشائكة، يتم التقرّب التركي لهذا الثلاثي، وإطلاق سيناريوهات مفترضة ومتفائلة، من قبيل القول إن الآفاق سوف تكون مفتوحة أو على الأقل ممكنة لعودة آمنة وطوعية للاجئين السوريين إلى ديارهم، علماً أن سلوك الأطراف الثلاثة قد أدّى إلى اقتلاع هؤلاء المنكوبين من وطنهم بالتدمير المتواصل لمظاهر الحياة والعمران 11 عاما، ودفعتهم نحو اللجوء، كما دفعت أعدادا كبيرة أخرى إلى النزوح والتشرّد داخل وطنهم، وها هم وقد استبدلت بيوتهم الآمنة بخيام يتعرّضون شتاء بعد شتاء لويلات الثلوج والصقيع والجوع والمرض.
تحتاج عودة اللاجئين الآمنة والطوعية إلى حلول سياسية تهيئ فرصةً لإعادة الإعمار بما يحفز اللاجئين على العودة في ظروف آمنة وكريمة، مع إرساء حياة طبيعية على جميع المستويات، وهو ما يتطلّب بذل جهود إقليمية ودولية متسقة، لحمل الأطراف المعنية على ولوج أبواب الحلول الجديّة. ولا شيء يشير إلى أن مكوّنات أستانة يمكن أن تكون منشغلة بوضع حلول أو التساوق مع أي حلول، فيما سيكون إنهاء الوجود التركي على الأراضي السورية هو الشغل الشاغل للأطراف الثلاثة مقابل الضغط على الكيان الكردي المسلح. أما مأساة اللاجئين السوريين فلن تجد حلا ضمن هذه المعطيات، وسوف يتم تحميلهم مسؤولية عدم العودة إلى الخرائب والأنقاض وإلى المخاطر الأمنية في وطنهم، الذي تتعسّر فيه كل أوجه الحياة، بما في ذلك حياة الكفاف، كما تشير إلى ذلك التقارير شبه اليومية الصادرة من كل حدب وصوب.
ليست الظروف مواتيةً لنجاح مغامرة التقارب التركي والسوري، وذلك مع استنكاف الأطراف الثلاثة عن أية مراجعة لمواقفها الدائمة بشأن سد الطرق أمام أي حلول سياسية للأزمة السورية، إذ من شأن هذه الحلول وحدها أن تنعكس بالإيجاب على ممكنات العلاقة الرسمية بين دمشق وأنقرة. ويكفي الأخيرة، في هذه المرحلة، أنها أبدت حسن نياتها، واستعدادها للنظر إلى المستقبل في رسم السياسات وصوغها، على أن الواقعية تقتضي القول إن المقدّمات هي من تحدّد النتائج، وأن القفز في الظلام غير مأمون النتائج، إذ يبدو الجانب التركي الطرف الوحيد المؤمن بأهمية الحلول السياسية للأزمة، والمستعد لبدء مرحلةٍ جديدةٍ تصب في صالح الدول والشعوب .. بينما يعرف القاصي والداني نظرة الأطراف الثلاثة إلى شعوبها، وسبل التعامل معها، وعداءها المديد والثابت لحل سياسي للأزمة، واستخدامها الورقة الكردية حسب الظروف واتجاه الرياح السياسية الموسمية، مع الاحتفاظ بهذه الورقة في كل مرحلة.
المصدر: العربي الجديد