جلال السيد: شذرات من النشأة والمسيرة

مناف الحمد

عادة ما يختزل الحديث عن الأستاذ جلال السيد في تجربته في تأسيس حزب البعث العربي، وهو اختزال لا يعدم أسبابه كون هذه التجربة ارتبطت بحزب حكم بلدين عربيين عقودًا من الزمن، ولأن مساهمة السيد كانت مساهمة في التأسيس ووضع المبادئ الأساسية ودستور حزب البعث العربي.

ولكن تتبع سيرة الرجل منذ البدايات تسلط الضوء على محطات مهمة جرى إغفالها لصالح تضخيم المساهمة في تأسيس حزب البعث. فقليل من المتابعين من يعرفون شيئًا عن نشأة الرجل وعن المؤثرات التي ساهمت في تكوينه الفكري والنفسي.

في المدينة المحاذية للعراق ولد جلال السيد لأسرة متوسطة تنتمي إلى عشيرة من أكبر عشائر المدينة، وهي عشيرة الخرشان التي تعود أصولها إلى قبيلة بني صخر في الأردن. كان أحمد السيد والد جلال رجلًا متعلمًا مكّنته ثقافته الشرعية من أن يصبح قاضيًا شرعيًا في المنطقة أواخر عهد العثمانيين، وقد تولى منصب قائم مقام في إحدى مدن تركيا الحالية الحدودية، وقد فرّ بولديه جلال وسعيد على ظهر حصان عندما سقطت الخلافة ودبت الفوضى في الأراضي التي تحكمها متجهًا إلى مدينته دير الزور لكي يترعرع ابنه جلال في تلك المدينة، ويبدأ بالاطلاع على القانون والتشريع الإسلامي في كنف والده. (مقابلة مع أحد أفراد عائلة السيد عام 2005).

درس جلال في مدارس المدينة، ويروى أنه كان طالبًا نجيبًا وكباقي أبناء المدينة المتميزين تلقى ثقافته التراثية على يد عالم المدينة الكبير محمد سعيد العرفي. كانت فترة الثلاثينيات من القرن الماضي هي فترة بدء تفتق وعيه، وهي فترة اتسمت بانتشار المد القومي في العالم، وهو النزوع القومي الذي أصبح أنموذجًا يتشوف بعض الشباب إلى تمثله والسعي إلى محاكاته، وقد كان المركز الثقافي في المدينة بيت جلال الثاني الذي يداوم فيه لساعات طوال، وفيه اطلع على الفكر الغربي الذي تلاقح مع ثقافة تراثية متنوعة لكي يكوّن مثقفًا مهمًا بمقاييس تلك المرحلة. وفي شهادة على التفوق نشرت بعض الصحف التركية نصوصًا لجلال وهو في مرحلة الشباب الباكر كانت تذيل باسمه موصوفًا بصفة الأديب. (المقابلة السابقة).

أثناء ثورة الريف الفلسطيني في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي يؤكد حازم صاغية نقلًا عن حنا بطاطو أن السيد قد ساهم في تهريب السلاح من مخازن الجيش العراقي عبر سورية إلى المقاتلين في فلسطين. (صاغية، 2000، ص. 125).

ويروي السيد أنه في عام 1942 سافر إلى دمشق بحثًا عن شقيقه سعيد وابن عم له هو عبد الكريم الفرحان الفياض ” وهما اللذان اعتقلتهما السلطات البريطانية لمقاومتهما الحلفاء. وكان مقرهما مجهولًا والشائعات متضاربة حول مكان وجودهما. فمن قائل إنهما نقلا إلى جنوب أفريقيا حيث نقل عدد كبير من زعماء العراق بعد حركة رشيد عالي الكيلاني، ومن قائل إنهما أعدما سرًا، ومن قائل إنهما في إحدى جزر الهند”. (السيد، 1973، ص. 15)

هذا الاقتباس من كتاب جلال السيد:” حزب البعث العربي” الذي يشرع فيه في الحديث عن بداية لقائه برفيقيه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار الذي حصل في تلك الرحلة.

ما يستفاد من دروس من هذه المقدمة عدة أمور:

بيت العلم الذي تشكلت فيه شخصية السيد العلمية، وهو بيت شكل عنصر المكون التراثي في شخصيته، وهو ما يساعد في فهم موقفه المتحفظ من العَلمانية بشكلها المتطرف المعادي للدين.

الطابع القبلي للبيئة وهو طابع ظل ملازمًا لشخصيته، وشكّل مفارقة فيما بعد بين توجهه القومي العابر للانتماءات الضيقة وبين نظرة جلال المختلفة للقبيلة ودورها.

العلاقة مع رجالات بارزين في العراق قبل ثورة الكيلاني وبعدها، وهي علاقة تفسّر قرب بعثيي العراق منه أكثر من قربهم من مؤسسي البعث الآخرين.

وبالعودة إلى المحطة الأساسية التي تعدّ الأهم، والتي بدأت باللقاء المذكور مع عفلق يقول السيد:

” كان هذا اللقاء سببًا في تعطش متبادل للقاء ولقاء. واستمرت الاجتماعات يوميًا وقد تتكرر في اليوم الواحد مرات”. (السيد، ص.15).

ويذكر أن عفلق قد عرّفه على صلاح الدين البيطار الذي يشاركهما توجههما القومي، ويضيف:

“وفي خلال عام 1942، ولا أذكر تاريخ اليوم والشهر قال السيد عفلق، ما دمنا متفقين إلى هذا الحد، وما دمنا قررنا أن الأحزاب السياسية في هذا البلد لا تستطيع في تركيبها الراهن أن تقوم بالواجبات القومية والوطنية، وما دمنا مؤمنين بضرورة إيجاد تكتل من نوع جديد يحمل على عاتقه عبء القضية القومية على طراز أفضل مما نرى، فما قولك بتأسيس حزب جديد نكون نحن نواته والمشرفين على تنظيمه. فأجبته بالإيجاب بلا تردد ولا إعمال نظر، لأن الفكرة كانت مختمرة عندي من قبل وكنت أبحث عن العناصر الشريكة في هذا البناء الذي تصورته ضروريًا لهذا الوطن”. (السيد، ص. 17).

وبعد أيام- حسب رواية السيد- اتفق الثلاثة على أن يكون اسم الحزب: “حزب البعث العربي”.

من الأمور المهمة التي يؤكدها السيد، وهو بصدد روايته عن البدايات أن لبسًا قد حصل لدى البعض فحواه أن زكي الأرسوزي هو مؤسس حزب البعث، وهو لبس مسبّب عن حديث الأرسوزي عن بعث الأمة العربية بمعنى النهضة المأخوذة من المفردة الفرنسية ” رينسانس”، ولكن هذا ظل في حدود البحث النظري المجرد.

وينطوي حديث السيد عن الأرسوزي على ما يشبه التنبؤ بالتيار الذي تحكم بمفاصل البعث لاحقًا، ففي الحديث عن الأرسوزي يقول:

” لا بد أن نعلن أن السيد الأرسوزي لا علاقة له بحزب البعث. وأنه لم يشترك في التحضير له ولم يكن مطلعًا حتى مجرد اطلاع على المباحثات التي جرت بيني وبين السيدين عفلق والبيطار بشأن تأسيس الحزب” (السيد، ص. 17).

ويذكر أنه في تداوله مع رفيقه عرض مبادئ الحزب على السوريين كان يرد اسم الأرسوزي فيستبعد؛ لأنه: ” أقرب إلى التفكير النازي بل إنه أقرب إلى التفكير الروماني في تقسيم الناس إلى عبيد وسادة، فهو يقسم الناس إلى طبقتين: النبلاء والأنذال. وهو فوق ذلك صعب الانضباط، عسير التنظيم. ومع أن عاطفته القومية متأججة فإنه شديد الوطأة على الذين لا يرون رأيه في الحياة”. (السيد، ص.18).

والأهم في رواية السيد والذي أسميناه شبه تنبؤ هو وصف السيد لما يسمى بـ ” جناح الأرسوزي في حزب البعث” حيث يقول:

“كان في حزب البعث جناح للأرسوزي. وأعني بالجناح فئة من الشباب انتسبوا إلى الحزب ولكنهم كانوا متأثرين بمنهج الأرسوزي، مطبوعين بأفكاره، مترسمين خطاه، ومقلدين له بالإرادة والعفوية في كثير من المسالك والأفكار”. (السيد، ص.19)

وغالب جناح الأرسوزي هو من اللوائيين” أي المنتمين إلى لواء الاسكندرون” وقد عزز مركز الأرسوزي في هذه الفئة ” النشاط الذي قام به والجهد الذي بذله في الاستفتاء حول عروبة الاسكندرونة، فقد كان الأرسوزي قائد الجبهة العربية المكافح عن عروبة اللواء”. (السيد، ص.20).

وما يرتبط بشكل متين بما قدمناه هو ما يسوقه السيد بعد ذلك بقوله:

” ويمكن القول بوجه من الوجوه إن تضامن الجبهة التي يرأسها الأرسوزي في اللواء كان له دافع عميق آخر غير الدافع السياسي والقومي. ذاك هو الدافع الطائفي. فالأتراك معروفون في سلوكهم العنيف ضد الطائفة العلوية، والكراهية كانت مستحكمة بين الفئتين السنية والعلوية”. (السيد، ص.20).

ومن الأمور المهمة التي يذكرها السيد في معرض حديثه عن التيارات المختلفة داخل الحزب في البدايات بعض سمات جناح الأرسوزي التي يقول عنها:

” كان يبدو على هذا الجناح شيء من البعد عن الدين بل قل شيء من الاستهتار بالدين، …………..وإذا كان الانطباع عن حزب البعث بأنه حزب ملحد فإن مصدر هذا الانطباع هو الجناح المذكور”. (السيد، ص.36).

وفي نفس السياق عن تيارات الحزب يؤكد السيد أن ذوي التوجه اليساري قد أصبحوا أكثرية داخل الحزب بعد أن تسللوا إليه من دون الإفصاح عن هوياتهم، وهو ما جعل المحافظين داخل الحزب يختنقون بالجو الذي فرضه هؤلاء بعد ردح من الزمن، وهو ما دفعهم إلى الانسحاب من الحزب الذي أصبح من اليساريين على تفاوت في درجة تعصبهم للماركسية. (السيد، المرجع السابق)

كان الإعلان الرسمي عن حزب البعث في السابع من نيسان عام 1947، وقد اختير جلال السيد رئيسًا له، تقديرًا -كما يقول- لقدراته البرلمانية، وفي عرض السيد لمواد الدستور التي أقرت في المؤتمر تأكيد أن اشتراكية البعث مغايرة للاشتراكية الماركسية، فبينما تقوم الأخيرة على دعامتي التفسير المادي للتاريخ والصراع الطبقي لا تعترف مواد دستور البعث بهاتين الدعامتين، فهي تقوم على قيم روحية وعلى عدم اعتراف بالطبقات في سبيل تجميع ما يمكن تجميعه من فئات الشعب العربي. (المرجع السابق، ص.46-47).

وموقف السيد من الاشتراكية يستمد بعض مقوماته من تأصيل إسلامي فقد” ذهب الفقهاء إلى أبعد مما ذهب إليه حزب البعث في دستوره في هذا الميدان. واجتهاد فقهاء الحنابلة وغيرهم من المذاهب قد أعطت الإمام حق الاستيلاء على أموال الرعايا كلها إذا قامت كوارث أو مخاطر تهدد المجتمع، كما جعل هؤلاء الفقهاء المال والملكية وظائف اجتماعية تخدم أهدافًا عامة معينة، فإذا لم تستطع القيام بتلك الخدمات فإن أصحابها يفقدونها وتعود بعد ذلك إلى الدولة”. (السيد، ص. 47).

كل هذه المواقف لرئيس المؤتمر التأسيسي لحزب البعث يجهلها كثير من الناس، وما يجدر ذكره، ونحن بصدد الحديث عن مسيرة السيد هو مساهمته في صياغة دستور الخمسين الذي ينظر إليه كأفضل دستور عرفته سورية عبر تاريخها.

وقد كان النزوع القومي الطاغي دافعًا لدى السيد للوقوف ضد خالد العظم والأكثرية في البرلمان عندما عرض اقتراح الفصل الاقتصادي بين سورية ولبنان:

” في سنة 1950 قامت الوزارة السورية المؤتلفة برئاسة السيد خالد العظم والتي تضم عددًا من الوزراء من حزب الشعب كما تضم عددًا من المستقلين والسيد أكرم الحوراني، قامت بما يسمى بالقطيعة بين سورية ولبنان. فقد فصل النقد السوري عن اللبناني وانفكت العلاقة في شؤون الجمارك…………….ووزراء حزب الشعب والمستقلون كانوا صدى للرغبة الاقتصادية السورية التي كان يمثلها أصحاب الشركات والمصانع………….وقال ممثل البعث ورئيس لجنة الشؤون الخارجية (ويقصد نفسه) إن بيروت عندنا وحلب في منزلة واحدة………….والموضوع المادي لا يصلح أن يكون مرتكزًا للعلاقة القومية”. (السيد، ص.222).

من الأحداث المفصلية في تاريخ حزب البعث هو اندماجه مع الحزب العربي الاشتراكي الذي كان يقوده أكرم الحوراني، وكان معروفًا عن جلال السيد أنه لم يكن مرحبًا بالدمج؛ لأنه كان يرى فيه تضخيمًا للحزب عبر عملية غير طبيعية من التطور الذاتي، هذا فضلًا عن عدم ارتياحه لسلوك الحوراني السياسي، وعندما ازداد الضغط عليه من رفاقه في القيادة وضع شروطًا للدمج ظانًا أنها شروط تعجيزية لا يمكن أن يقبل بها حزب الحوراني، وكانت هذه الشروط كما ذكرها في كتابه الذي نستند إليه في هذه المقالة: (السيد، ص. 103).

دستور الحزب الجديد هو دستور حزب البعث العربي، بلا زيادة حرف ولا نقصان حرف.

النظام الداخلي للحزب الجديد هو المنهاج الداخلي لحزب البعث.

تصبح القيادة رباعية بعد أن كانت ثلاثية وذلك بانضمام الأستاذ أكرم الحوراني إليها.

سائر الأعضاء من الحزب العربي الاشتراكي يتقدمون بطلب انتساب إلى الحزب كل واحد بمفرده. والقيادة تقبل من تقبل منهم وترفض من ترفض إلى الحزب. ولا يمكن قبول أعضاء العربي الاشتراكي في الحزب مجتمعين. بينما هذا الشرط لا يسري على أعضاء البعث العربي فهم أعضاء طبيعيون في الحزب”.

اسم الحزب هو حزب البعث العربي.

وهذا الشرط الأخير لم يكن محل اتفاق مع عفلق والبيطار اللذين خاضا نقاشًا مطولًا مع السيد إلى أن رضخ لرغبتهما بإضافة كلمة “الاشتراكي” إلى اسم الحزب.

وكانت المفاجأة أن حزب الحوراني قد وافق على الشروط التي ظن السيد انها تعجيزية، ولا يمكن أن تكون محل قبول من العربي الاشتراكي، وبناء على هذه الموافقة حصل الدمج بين الحزبين، وأصبح اسم الحزب الجديد: “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

المراجع

السيد، جلال، حزب البعث العربي، بيروت، دار النهار للنشر، 1973.

صاغية، حازم، قوميو المشرق العربي، بيروت، دار رياض الريس للكتب والنشر، 2000.

زر الذهاب إلى الأعلى