قراءة في رواية : متصل الآن

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول صدرت رواية متصل الآن للكاتبة الواعدة عبير نمر الغزالي، هذا أول عمل روائي اقرؤه لها.

متصل الآن رواية تعتمد أسلوب السرد بلسان الراوي ، المكان سوريا وبدقة أكثر هي العشوائيات والضواحي المحيطة بمدينة دمشق. الزمان ما قبل الثورة السورية التي حصلت في ربيع ٢٠١١م. و ما بعد  لسنوات ايضا…

ملاذ الشخصية المحورية في الرواية وحولها شبكة علاقات من الفتيات والشباب. تعمل مدرّسة في الأحياء الجنوبية لمدينة دمشق، حيث يقطن الكثير من أهل المدن والقرى السورية، كذلك البلدات المجاورة حيث بحثوا كلهم عن فرصة الحصول عن لقمة عيش وإن كانت منغمسة بالتعب. أطراف الشام التي كانت قد استقبلت اللاجئين الفلسطينيين الهاربين من ظلم وجحيم الكيان الصهيوني بعد حربي ١٩٤٨ و١٩٦٧م . هذا غير النازحين السوريين من الجولان المحتل…

ملاذ كبرت في العمر أصبحت على أبواب الأربعين، تعيش حبا يملأ قلبها، تعتقد أن حبيبها يبادلها الحب، لكنه لم يبادر لمصارحتها بحبه ابدا. غير أنه غادر لا نعلم إلى أين والتواصل بينهما شبه معدوم. هي محكومة بعقلية ضرورة مصارحة الرجل للمرأة عن حبه حفاظا على كرامتها ؟!!. تحمل حبها في قلبها وتنتظر أن يأتيها الفرج باعتراف من الحبيب وما يليه من خطبة وزواج وحياة اسرية. لكن مناسبة ما تجمع بين ملاذ وحبيبها ، المشاعر متدفقة وكل يشعر بالآخر، عند ذلك تبادر ملاذ وتعترف بحبها لحبيبها الذي يشاركها المشاعر… لكن لا خطوات تتبع ذلك، حيث كل حب يجب ان يتوّج بزواج… وهذا ما لم يحصل.

 آدم صديق حميم لملاذ منذ التقت به تعاهدا على الصداقة والمودة. إلتزما بذلك كل الوقت، آدم يمثل لملاذ شاطئ الأمان الذي تلجأ اليه في اي وقت، وهو كذلك يعتبرها صديقة عمره .

حول ملاذ شبكة واسعة من الصديقات اللواتي يسكن بعضهم في ضواحي دمشق والبعض في جبل قاسيون العشوائي، تتواصل معهنّ عبر الهاتف وفي لقاءات ثنائية وجماعية ايضا.

الهاجس الأساسي للفتيات هو الحب والعلاقة مع النصف الآخر وتبعات ذلك من زواج وبناء اسرة. لكل فتاة حكاية: حب قيد التشكل، او حب فشل وانتهى، زواج نجح وهذا قليل ما يحصل، زواج يفشل ويؤدي إلى طلاق، مع ما يستجرّه من ألم ومعاناة خاصة للمرأة، وان كان هناك أطفال والأم مسؤولة عنهم فهذا عبئ يجعل حياتها ممتلئة هما وتعبا ومسؤولية، وان حرمت من اولادها فهي مطعونة بأهم عوامل إنسانيتها وهي الامومة. مع ذلك تركض الفتيات باحثة عن حب يتمنين أن يحصل وينجح ويعشن انسانيتهنّ الكاملة، ان امكن. بعض الصديقات تزوجنّ ونجحن في زواجهن والبعض لم يجدن الزوج المناسب والبعض تزوجت وطلقت. البعض استقرّين في سوريا والبعض غادرن مع أسرهم الى خارج سوريا خاصة دول الخليج بحثا عن لقمة عيش.

الحياة العامة وخاصة في جوانبها السياسية  لم تكن تعني لملاذ وصديقاتها. وكأن واقع الحال السوري هكذا هو كقدر لا راد له ويجب عدم الاقتراب منه والتحدث عنه.

استطاعت مجموعة صديقات ملاذ أن يتجاوزنّ تنوعهنّ المجتمعي الطائفي والديني والمذهبي. وقد يحصل حب داخل هذا التنوع ويحصل زواج، البعض ينجح ويتجاوز الاختلاف المجتمعي…

ملاذ تعيش حياتها الروتينية مدرّسة، تعيش مع والدها ووالدتها. غالبا ما تمثل صمام أمان للاهل الذين تعايشوا مع نوع من الصراع والتواؤم واختلاف الطباع الذي يفرض نفسه. وتبقى الاسرة صامدة أمام كل المتغيرات عبر عشرات السنين، وكذلك حال اغلب صديقات ملاذ.

رغم عدم اهتمام ملاذ ومن حولها بالسياسة عموما، مع ذلك توقفت مع كثير من صديقاتها أمام الربيع العربي الذي بدأ أواخر عام ٢٠١٠م بعد حرق البوعزيزي لنفسه وبداية الحراك الشعبي الثائر في تونس ثم انتقال هذا الحراك الى مصر وغيرها. كان ذلك ملفتا للكل. تحاور الاصدقاء وماذا بعد ؟. وهل يصل الربيع إلى سوريا ؟. كانت الإجابات متنوعة. خوف وترقب واحساس عميق بالاستحالة. ولكن هناك مظلومية مجتمعية في سورية مسكوت عنها وهناك استسلام لها، وهذا يعني أن احتمال أن يتحرك الشعب السوري وارد، كما تحدثت ملاذ و اصدقائها وصديقاتها، لكن الكل كان يخاف من تبعات ذلك من عنف لن يرحم أحدا…

بالفعل بدأ الحراك الشعبي في الجنوب السوري وانتقل بعد ذلك الى سوريا كلها. تكتفي ملاذ بالتحدث عن تبعات الحراك من انتقاله إلى العنف ومن ثم انتقال الناس من مناطق الصراع الذي أصبح مستهدفا بنار المتصارعين، وهنا لا تحدد ملاذ من المسؤول وحجم المسؤوليات. تتحدث فقط عن تبعات ذلك عليها وعلى أسرتها وعلى صديقها آدم وبعض صديقاتها المتواجدين في مناطق الصراع أو الحرب كما تسميها.

انتقلت ملاذ وكذلك آدم الى احياء اخرى اكثر هدوءا و اقرب لقلب دمشق. بدأ الناس يهربون من مناطقهم البعض ليس لديه قدرة أن يستأجر بيتا أصبحوا مشردين في المدارس الحكومية التي فُتحت لهم تأويهم. بعد أن تركوا بيوتهم  جنى عمرهم كذلك أساس البيت على تواضعه. مع إحساس عميق بأنهم لن يعودوا، وخاصة أن البعض مشرد سابق من اهلنا الفلسطينيين. يدركون معنى أن تخسر بيتك ومن ثم تخسر وطنك.

تستمر الأحوال من سيء لأسوأ وبدأ الناس يفكرون بالهجرة الى لبنان او تركيا وأن يحاولوا الوصول إلى أوروبا: جنة السمن والعسل. رغم قول البعض ممن وصل الى هناك ان ذلك ليس كما تمنوا وأنكروا وجود كل ما كانوا يحملون من أحلام، لكنهم اعترفوا انهم محترمين هناك كبشر لهم كرامتهم وحقوقهم ولقمة عيشهم…

تنتهي الرواية وملاذ تسكن في دمشق تحلم أن تنتهي الحرب وتتجاوز البلاد محنتها، التقت بحبيبها الذي صارحها بحبه بعد ان بادرت وصارحته بحبها له، لكن ذلك لم يتوج بخطوبة او زواج . كذلك حال صديق عمرها آدم الذي استمر يعيش  مع أمه في دمشق رغم كل شيء فهو لن يقبل أن يُقتلع مرة اخرى كما اقتلع سابقا من فلسطين. كذلك هناك إيماءة لواقع المناطق المحاصرة وحياة الجحيم ونقص أسباب الحياة او انعدامها والفاقة والمرض ونقص المواد الغذائية التي جعلت حياة الناس مستحيلة. كذلك اشارة لمن اعتقل وخرج يروي عن جحيم المعتقل وكيف قرر أن يبيع كل ما يملك ليهرب من بلاد ضاقت على أهلها وهدرت أرواحهم…

في التعقيب على الرواية اقول:

أدرك أن الرواية نسويّة بجدارة، فهي رواية المرأة عموما. بكل همومها واشواقها واحلامها ، ما تعيش وما تتمنى ، الظلم الفاضح. الحب بصفته صورة الانوثة والامومة وامل الحياة واستمرارها مع النصف الآخر الرجل…

لقد كان الحديث عن الجانب العام من حياة ملاذ وصديقاتها هامش لحياتهنّ التي دارت حول الحب والرجل الحلم وكيفية صناعة حياة أسرية ممكنة…

الرواية تعتمد التقيّة في سرد واقع المظلومية المجتمعية والسياسية والاقتصادية وفي كل شيء في سوريا عبر خمسة عقود. وبالتالي لا تحمّل مسؤوليات ولا تجيب عن سؤال لماذا حصل ما حصل ؟ ومن يتحمل مسؤولية موت أكثر من مليون سوري ؟. غير المصابين والمعاقين والمعتقلين ؟. وتشريد ثلاثة عشر مليون سوري بينهم فلسطيني سوريا. ومن دمّر نصف سوريا وجعلها بلاد مقسمة ومحتلة…

أدرك أن الكاتبة تكتب من دمشق وهذا يعني أنّها  في فم النظام يلوكها ويلتهمها بأي وقت…

لن تغير أي تقية من واقع حال السوريين وبلدهم سوريا وما أصابها. وكذلك لن يتراجع السوريين عن مطالبتهم باسقاط الاستبداد ومحاسبة المستبدين القتلة وبناء الدولة السورية الديمقراطية محققين الحرية والكرامة والعدالة والحياة الأفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى