بيروت: القاضي طارق بيطار الذي قرّر استئناف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، متحديا الضغوط السياسية والقضائية، رجل قانون يبقى لغزاً بالنسبة لكثيرين، لكنه تحوّل رمزاً لمواجهة طبقة سياسية متجذّرة.
بادعائه على مسؤولين قضائيين وأمنيين بارزين، بعد أكثر من عام على تعليق التحقيق جراء دعاوى لاحقته وطالبت بكفّ يده عن القضية، يضع المحقّق العدلي نفسه اليوم في مواجهة جديدة، بعد تجاوزه خطوطاً حمراء في لبنان، حيث تسود ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود.
وبيطار (48 عاماً) قاض معروف بنزاهته واستقلاليته وبابتعاده كلياً عن الإطلالات الإعلامية إلى درجة لم تُلتقط له صورة واحدة منذ توليه التحقيق في 19 شباط/فبراير 2021 في انفجار يُعدّ من بين أضخم الانفجارات غير النووية في العالم.
ومنذ ادعائه صيف 2021 على رئيس الحكومة السابق حسان دياب وطلبه ملاحقة نواب ووزراء سابقين ومسؤولين أمنيين، خشي كثيرون أن تؤدي الضغوط السياسية إلى عزله، على غرار سلفه فادي صوان الذي نُحي في شباط/فبراير من العام ذاته بعد ادعائه على سياسيين. لكنه يبدو حتى اليوم صامدا في مواجهة الضغوط، علما أنه نجح أيضا في منع تسرّب تفاصيل عن تحقيقاته إلى الإعلام. وبالتالي، ليس معروفا إلى أين وصل في تحقيقاته.
اصطدم عمله بتدخلات سياسية عرقلت مهمته، مع اعتراض قوى سياسية عدّة أبرزها حزب الله، على أدائه واتهامه بـ”تسييس” الملف، وصولاً إلى المطالبة بتنحّيه. ورفع مدعى عليهم تباعاً عشرات الدعاوى لكفّ يده عن القضية. وتمّ تعليق التحقيق أربع مرات آخرها في كانون الأول/ديسمبر 2021.
ورغم الحملة ضده، يحظى بيطار بتأييد لبنانيين كثر على رأسهم عدد كبير من أفراد عائلات الضحايا الذين يعلقون آمالاً على عمله ويرون فيه قاضياً نزيهاً لم يستسلم أمام الضغوط السياسية.
وتقول المحامية سيسيل روكز التي فقدت شقيقها في الانفجار، متحدثة باسم عائلات الضحايا، لوكالة فرانس برس، إن بيطار “جريء لدرجة أنه يواجه سلطة كاملة تعرقل التحقيق”.
وتضيف “تنبع جرأته من ضميره الحيّ لأنه يحقق في أكبر انفجار دمّر مدينة، يواجه بشجاعة ويتسلّح بالقانون”.
واستند بيطار في استئناف التحقيق إلى مطالعة قانونية تفيد بأن لا وجود لأي نص قانوني يجيز كفّ يد المحقق العدلي عن عمله في قضية مماثلة. ويمكن له أن يدّعي على أي شخص من دون إذن من أي إدارة أو وزارة.
“لن أستسلم”
قبل تعليق التحقيق، حظي بيطار بتضامن واسع بعد تصعيد خطاب حزب الله ضده وبعد تسريب إعلاميين محليين رسالة وجّهها مسؤول رفيع المستوى في الحزب إليه تضمنت امتعاضاً من مسار التحقيق وهدّدت بإزاحته من منصبه.
وتظاهر العشرات من مناصري حزب الله وحليفته حركة أمل أمام قصر العدل في تشرين الأول/أكتوبر 2021 مطالبين بتنحية بيطار، ووقع خلال التظاهرة تبادل كثيف لإطلاق النار أوقع ستة قتلى، وعلت أصوات محذرة من نزاع أهلي.
وكما يحصل دائما في لبنان المنقسم سياسيا إلى حد بعيد، أحرق متظاهرون صور بيطار أمام قصر العدل في بيروت واتهموه بالتواطؤ مع الأميركيين، بينما تناقل آخرون صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين دعمهم له ومشيدين بجرأته.
ويقول أحد معارف بيطار ممن يلتقونه دورياً وفضّل عدم كشف اسمه، إنه رجل هادئ للغاية، يرفض التخلي عن مسؤولياته رغم كل الضغوط التي تعرض ويتعرض لها.
وينقل عنه قوله إنه “لن يستسلم أو ينهزم أمام الضغوط”، كما أنه يرفض “تسليم ملف التحقيق لأي قاض آخر حتى يعبث به”.
ويستشعر بيطار، وفق مقربين منه، بمخاطر أمنية متزايدة “باتت تطغى على عمله وتحركاته كافة”، لكن يعتبر أنّ أمامه مهمة واضحة تكمن في “إنجاز ما تبقى من تحقيق المرفأ” في اعتبار “يطغى على أي اعتبار آخر”.
ومنذ استلامه ملف التحقيق، يستعين بحماية شخصية أمنية وعسكرية.
ويقول شخص آخر يعرفه رافضا الكشف عن اسمه “ليس لديه أي ارتباط سياسي معروف” في بلد تتدخل فيه السياسة حتى في التعيينات القضائية. ويعتبر عدد من القضاة محسوبين على طوائف وأحزاب سياسية.
ويضيف “هذه تحديداً مشكلة السياسيين مع بيطار: ليس لديهم أي أداة للضغط عليه”.
“جرأته تخيفهم”
وحافظ بيطار المتحدر من شمال لبنان، خلال السنوات الماضية على سمعة حسنة. ويتمتع بثقة عالية في النفس تلامس في نظر البعض حدود الغرور.
وبيطار نادر الابتسام، ولا يقبل دعوات غداء وعشاء وحفلات من سياسيين ويتجنّب المناسبات العامة خشية اتهامه بالارتباط السياسي، وفق المصدر ذاته الذي يقول “عند تكليفه التحقيق، واجهنا صعوبة حتى في إيجاد صورة له”.
ويضيف “جرأته تخيفهم، فهو ظاهرة غير مسبوقة في قصر العدل”.
ويعوّل بيطار على دعم تام من عدد كبير من أهالي الضحايا الذين يتظاهرون بانتظام أمام قصر العدل للتعبير عن دعمهم له ورفضاً لأي تدخلات سياسية بعمله.
ولد بيطار، ولديه ولدان، عام 1974 في قرية عيدمون في منطقة عكار الشمالية. ويحمل شهادة في القانون من الجامعة اللبنانية، وبدأ مسيرته المهنية في شمال البلاد قبل أن يترأس محكمة جنايات بيروت.
وتولى بيطار قضايا عدّة معقّدة، من أبرزها قضية الطفلة إيلا طنوس التي أثارت ضجّة في لبنان، إذ إنه دان العام 2020 مستشفيين خاصين وطبيبين وفرض على المدانين دفع تعويضات مالية ضخمة لعائلة الطفلة التي أدى خطأ طبي إلى بتر أطرافها الأربعة.
ويقول محام عرفه حين كان يرأس محكمة الجنايات “تسلمه قضية مرفأ بيروت كان بمثابة خسارة لنا في محكمة الجنايات، فقد خسرنا قاضياً نزيهاً واستثنائياً”.
المصدر: أ ف ب/القدس العربي