العالم العربي عند نقطة انعطاف‏

جون ألترمان*‏    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏‏خلال فترة الأعياد، تناولت الغداء مع أحد الشخصيات البارزة في السياسة العربية. وهو ثوري سابق، كان قد أمضى عقودًا في العمل مع القادة العرب ونظرائهم من غير العرب. وما يزال حاد الذهن، لكنه تحول إلى التأمُّل. وخلال تناول الغداء، كان لديه اعتراف صارخ: “كل الخيارات الاستراتيجية التي اتخذها العرب كانت خاطئة”.‏

‏وشرع في سرد القائمة. أثبتت الاقتصادات العربية أنها ضعيفة بشكل دائم. وسرعان ما تحولت الحكومات المستقلة حديثًا إلى قمعية. وأثبت العداء المستمر تجاه إسرائيل أنه كان عامل إلهاء مكلف. وأصبحت المنطقة عالقة بطريقة فريدة في الحرب والإرهاب، بينما واصلت مناطق أخرى في العالم المضي قدُمًا. وأصبح إرث جيله لأبنائه هو: منطقة كان يَتوقع أن تتمكن من التغلب على صراعاتها منذ عقود، وإنما التي أصبحت صراعاتها أكثر استعصاءً على الحل اليوم. بعد كل شيء، كان الرجل قد صعد في حياته المهنية وسط موجة من التفاؤل. وتوقع جيله أن يُنتج عالم ما بعد الاستعمار الحرية والازدهار والقوة والاحترام. لكنه لم يفعل الكثير من هذه الأشياء. ومع النمو السريع لأعداد السكان العرب، وتحول الطاقة الذي يلوح في الأفق، وإخفاقات الربيع العربي التي ما يزال الدخان يتصاعد من رمادها، تبدو التوقعات الخاصة بالمنطقة على المدى المتوسط أكثر إحباطًا.‏

ومع ذلك، سيكون من الخطأ التستر على حقيقة أن العالم العربي يقف مرة أخرى عند نقطة انعطاف. الآن تتخذ قيادات المنطقة مجموعة من الخيارات الاستراتيجية المهمة مثل تلك التي اتخذها أسلافها في وقت سابق من مهنة الحكم. ولدى المنطقة فرصة لاتخاذ خيارات استراتيجية أفضل بكثير من تلك التي كانت قد اتخذتها في الماضي، وثمة دلائل على أنها شرعت في فعل ذلك– ولو أن ذلك ليس في كل الحالات.‏

من الناحية الاقتصادية، ابتعدت الحكومات عن الاقتصادات الموجهة، وهي تصبح أكثر تفكيرًا في الصناعات المملوكة للدولة. وقد استغلت حكومات الشرق الأوسط (وجيوشها) لفترة طويلة قدرتها على الوصول بسهولة إلى رأس المال لكي تُنافس القطاع الخاص. بل وأصبح التوازن أكثر اختلالاً بسبب الأنظمة المصرفية الهزيلة المصابة بفقر الدم، التي جعلت الحصول على رأس المال الخاص أكثر صعوبة. وأصبحت رأسمالية المحسوبية شكلاً متفشيًا من أشكال الفساد، حيث أمَّنت القادة السياسيين المحليين بينما خنقت الاستثمار. وثمة فهم متزايد في جميع أنحاء المنطقة لفكرة أنّ الشركات الصغيرة والمتوسطة تحتاج إلى أن تكون محركات للعمالة النمو الاقتصادي، وتهتم الحكومات بشكل متزايد بتهيئة بيئات تفسح المجال لمثل هذه الأنشطة.‏

سوف تكون إدارة الانتقال صعبة. فالاقتصادات العربية مثقلة بأعباء الدعم –حوالي 70 في المائة من المصريين مؤهلون للحصول على الخبز المدعوم بكثافة– وفي الدول الأكثر فقرًا، بالكاد تحول هذه الإعانات دون وقوع الطبقة الوسطى المطرد في براثن الفقر. ويركز صندوق النقد الدولي، مُحقًّا، على توفير شبكة أمان دائمة للفقراء، لكنَّ الطبقات المتوسطة الهشة تشكل أعدادًا مماثلة في العديد من الحالات، ومن المرجح أن تكون نشطة سياسيًا أكثر من الطبقات اليائسة اقتصاديًا حقًا. ومن المتوقع أن يزداد تغريب ونفور هذه الطبقات المتوسطة بشكل عميق، خاصة وأن الحكومات التي ليست لها أي رسالة إيديولوجية أو سياسية تقدم مكافآت ضخمة للأثرياء مُسبقًا.‏

تتطلب إحدى الطرق لتحقيق هذه الغاية إحراز تقدم سريع نحو نوع أفضل من الحوكمة. وفي حين أن الخدمات الحكومية تتحسن بشكل عام، إلا أنها غالبًا ما تكون من قاعدة منخفضة. الإجراءات مرهقة ومستهلكة للوقت، ويمكن أن تكون النتائج غير مؤكدة. ويمكن قول أن جهود الرقمنة المستمرة ستسهل النتائج وتسرعها، كما توفر طريقًا نحو الإنصاف، حيث تصنع بصمات أصابع عندما يتلقى أفراد معاملة استثنائية أو غير عادية. ومع ذلك، وكما يمكن لمستخدمي المواقع الحكومية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى أن يشهدوا، فإن التنفيذ الضعيف يمكن أن يعيق حتى المستخدمين المتعلمين تعليمًا عاليًا، بينما يُهمِّش في الوقت نفسه المستخدمين الفقراء والأميين. كما أن كل حكومة لن ترحب بفكرة أنها يجب أن تكون مستجيبة للمواطنين أيضًا، وتميل الكثير منها إلى رؤية الدعوات إلى المساءلة كتحديات وجودية.‏

تحقيقًا لهذه الغاية، من المقلق أن نرى الحكومات العربية وهي تضخ الموارد في الجهود الرامية إلى مراقبة وإدارة النقاش العام. ما تزال محطات البث المملوكة للدولة قبل 50 عامًا موجودة، لكنها تصبح غير ذات صلة باطراد. بدلاً من ذلك، تركز الحكومات جهودها على حملات وسائل التواصل الاجتماعي المنسقة، والمراقبة واسعة النطاق للاتصالات الإلكترونية. ويستطيع المرء أن يجري نقاشًا حول ما إذا كانت السياسات الانتخابية تعزز الإجماع أم الاستقطاب، وما إذا كانت تدفع الساسة إلى تبني الإنفاق الذي لا يمكن تحمله على برامج الاستحقاقات على حساب الاستثمارات الاستراتيجية. ولكن يبدو من غير القابل للدحض أن من الصعب تحقيق تميز حكومي عندما يُنظر إلى اقتراح على أنه فتنة، أو عندما يؤخَذ نقد كدليل على عدم الولاء. وليس اللجوء إلى المراقبة مجرد علامة على افتقار الحكومات إلى الثقة في نفسها فحسب؛ إنه يولد ثقة خطيرة بالنفس من جانب الحكومات ويزرع الخوف بين مواطنيها. وسوف تتراكم التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لهذه الاستراتيجية بمرور الوقت.‏

‏سوف يتعين على المنطقة أن تتصدى للتفاوتات المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، داخل البلدان وفيما بينها. وتصبح القناعة بأن الأغنياء يزدادون ثراء بينما الفقراء يزدادون فقرًا شيئاً يصعب الحفاظ عليه عندما يكون أولئك الذين يشعرون بأنهم يزدادون فقرًا يعرفون القراءة والكتابة والتنقل ومتصلين ببعضهم البعض، ويوحدهم شعور مشترك بالظلم. وتستكشف دول الخليج الأكثر ثراء الآن القيام باستثمارات أكبر في بلاد الشام وشمال أفريقيا، وهذا اتجاه إيجابي. ومن المهم أن تكون فوائد هذا الاستثمار محسوسة على نطاق واسع.‏

من الصعب الحكم على ما إذا كانت المنطقة ستكون قادرة على الابتعاد عن إرثها الأقرب زمانيًا من العنف. فمع استمرار الحروب الأهلية وحركات التمرد في الاشتعال، ووجود مجموعة من الوكلاء الذين يعملون بدعم من داخل المنطقة وخارجها، وشعور دائم بالحرمان من الحقوق، تبدو مصادر العنف دائمة. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي للمرء أن يقلل من أهمية قيام السلطات الدينية بتضييق نطاق العنف المشروع. وكانت هذه الخطوة ظاهرة أكثر ما يكون في منطقة الخليج، لكن تأثيرها امتد إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا.‏

غالبًا ما يتم التعرف إلى نقاط الانعطاف في التاريخ بعد اجتيازها فقط. ثمة التفاصيل الصغيرة التي تخلق أنماطًا، وتتجمع الأنماط لصنع اتجاهات، لكنَّ من الصعب رؤيتها في الوقت الحالي. ولكن، حتى مع ذلك، يبدو كما لو أن ثمة نقطة انعطاف تنتظر قريبًا في الأمام. وقد رأى الثوري المسن أن رؤيته لم تتحقق بعد امتلاكه السلطة. ورأى ثوار العام 2011 أن رؤاهم لم تتحقق بعد حرمانهم من امتلاك السلطة. ولكن، ما الذي سيفعلونه الآن، وأي عالم هو الذي سيورثونه لأبنائهم؟‏

*جون ألترمان Jon B. Alterman: نائب الرئيس الأول، ويشغل كرسي زبيغنيو بريجنسكي للأمن العالمي والجيواستراتيجي، ومدير برنامج الشرق الأوسط، في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” CSIS في واشنطن العاصمة. والمركز مؤسسة خاصة معفاة من الضرائب تركز على قضايا السياسة العامة الدولية. أبحاثها غير حزبية وغير مملوكة. ولا يتخذ مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أي مواقف سياسية محددة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Arab World at an Inflection Point

المصدر: الغد الأردنية/ (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى