يتضمن مفهوم المواطنة تحديد علاقة أفراد الشعب بالدولة من حيث الحقوق والواجبات، فالمواطن هو الشخص المقيم على أرض الدولة اقامة دائمة منذ زمن ( يتحدد بالدستور ) والذي له كافة الحقوق وعليه كل الواجبات , وتتمثل أهم واجباته في الدفاع عن الوطن , ودفع الالتزامات المالية من ضرائب وغيرها , والالتزام بالقوانين .وفي المقابل فله كافة الحقوق , ومنها حقه في الانتخاب وفي أن يصل الى أعلى مراتب السلطة .
أدخل ارسطو تعريفا للمواطن في الجزء رقم 3 من ( السياسات ) كالتالي : ( المواطن الصالح يجب أن يعرف ويكون لديه القدرة على أن يحكم هو أو أن يحكم من قبل الآخرين وتلك بالضبط هي الفضيلة في المواطنة )
– المواطنة في التراث الغربي:
“هناك نوعان للمواطنة والصيغ المتباينة للقوانين لدى كل منها كافية لتبرير مثل ذلك التصنيف. المواطنة الاولى استمرت من زمن المدينة – الدولة الاغريقية حتى الثورة الفرنسية . أما المواطنة الثانية فهي تلك التي مازالت مستمرة حتى الآن منذ الثورة الفرنسية ” ( كتاب المواطنة في التراث الغربي من أفلاطون الى روسو لبيتر رايسنبرغ ).
نشأت المواطنة الأولى في الأصل في اليونان , وكانت تمثل امتيازا لطبقة محددة من الشعب , وهي طبقة المحاربين الذين برزوا في المعارك فأعطيت لهم الأملاك , واعترفت بهم الحكومة كنبلاء يستحقون التكريم , وهم وحدهم كان لهم حق التدخل في الأمور السياسية , وعقد الاجتماعات في الهيئة التي كانت أساس الديمقراطية اليونانية (مجلس المدينة) أو: (CIVITAS)
لكن تلك الميزة ( المواطنة ) توسعت بعد ذلك , فشملت كبار التجار الذين اعتمدت عليهم الدولة في تمويل الجيوش , كما أن طبقة ملاك الأراضي توسعت أيضا , فلم تعد تقتصر على المحاربين أنفسهم بل تشمل أولادهم وأحفادهم ..الخ . ومع ان ارسطو سمح بامكانية ان يصبح العامة مواطنين فهم لايمكن ان يصبحوا مواطنين اصليين , فمواطنه الحقيقي ينبغي أن يكون حرا ولديه من الاملاك ما يمنحه الوقت الكافي للمشاركة في الشأن العام .
لقد عملت المواطنة الأولى في بيئة محدودة ووجها لوجه , كما ان المواطنين كانوا اقلية ضمن اجمالي السكان وقد عاشوا ضمن مساحات جغرافية محدودة , كانوا يعرفون بعضهم جيدا , فالمواطنة الأولى كانت دائما نخبوية , ويتناسب ذلك مع الحجم الصغير للدولة – المدينة في ذلك العصر .
ولا يكفي للاحتفاظ بالمواطنة وجود تاريخ ناصع للمواطن في ميدان الحرب , اذ كان العمل السياسي يتكثف بين الفترة والأخرى , ولم يكن الفرد معترفا به كمواطن حتى يشاهد مشاركا بالعمل السياسي , وبصورة نظرية لم يكن هناك مكان لمن يعزف عن الانخراط في العمل السياسي بسبب أن ازدهار المجتمع وبقائه يعتمد على المساهمة الشخصية لكل مواطن من المواطنين الأقلاء فيه . وبين الحين والآخر كانت تلك المساهمة تأخذ طابع العمل العسكري والتضحية بالموت في ميدان القتال .
فاذا انتقلنا نحو المواطنة الثانية التي بزغت مع الثورة الفرنسية وترسخ مفهومها النظري بمؤلفات روسو ومنتسكيو , والتي مازالت حية حتى اليوم .
فمنذ اواخر العصور الوسطى حصل اعادة انتاج لمفهوم المواطن بادخال تغيير للموضوع من شخص فعال سياسيا الى شخص خامل سياسيا , وبالرغم من ان الثورات العظيمة في نهاية القرن الثامن عشر أنجزت تغييرا في مصطلح المواطن بالعودة لمفهوم المواطن الفعال سياسيا , لكن ذلك التغيير كان مؤقتا من حيث الفعالية الواقعية , واستطاعت البورجوازية استبعاد شرائح واسعة من الشعب في وقت لاحق , كما أعادت عمليا للحياة ( ديمقراطية النخبة ) سوى أن النخبة هنا لم تعد المحاربين وملاك الأراضي , بل أصبحت كبار التجار وأصحاب المشاريع الصناعية والبنوك . وعلى أية حال فقد أرست المواطنة الثانية – حقوقيا على الأقل – مبدأ المساواة التامة بين أفراد الشعب , فأصبح الجميع مواطنين دون استثناء , لهم ذات الحقوق كما أن عليهم الواجبات ذاتها . وما قاله أرسطو كتعريف للمواطن من كونه ذلك الذي يحكم ويحكم أصبح يشمل جميع أفراد الشعب وليس فئة محدودة منهم .
المواطنة في التراث الاسلامي :
– عقد المدينة:
في السنة الأولى للهجرة عقد الرسول مع يهود المدينة معاهدة أهم بنودها :
1 – “أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم” ، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف ..الخ ..
والعبارة الأولى هامة للغاية ( أن اليهود أمة مع المؤمنين ) أي أن اليهود مع المؤمنين وفق أسس هذه المعاهدة يشكلون وحدة اجتماعية – سياسية ( أمة ) وهذا يطابق في المفاهيم الحديثة مصطلح ( الدولة ) فدولة المدينة التي وضعت المعاهدة دستورها ليست دولة المسلمين ولا دولة اليهود بل هي دولة مواطنة للمسلمين واليهود معا , فهي ترسي مبدأ دولة المواطنة التي تتسع لأديان ومذاهب مختلفة بحيث تتحدد علاقة الفرد فيها ( المواطن ) بالدولة بناء على ( الدستور ) أو كما كان في عصر النبوة ( المعاهدة ) .
2- ” أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ” وهو شيء يشبه الادارة الذاتية لكل جزء من أجزاء الدولة .
3- أن الدفاع عن المدينة مسؤولية مشتركة للمسلمين واليهود معا , وهذا يؤكد أننا أمام دولة مواطنة واحدة لها نظام دفاعي واحد يشمل دفع تكاليف الحرب والمشاركة فيها ضد أي اعتداء خارجي .
تلك هي أهم بنود المعاهدة و تكفي تلك المعاهدة للاستنتاج بأن الاسلام لايعادي دولة المواطنة , بل يقرها عندما يكون البلد متعدد الأديان , والعبرة هنا في الواقعة ذاتها ولايغير من قيمتها ماحدث بعد ذلك من انهيار لتلك الدولة – المعاهدة .
يقوم مفهوم المواطنة الحديث على مبدأ المساواة التامة للمواطنين الأحرار , وقد قرر الاسلام ذلك المبدأ قبل الثورة الفرنسية بنحو الف ومئة من السنين , في القرآن الكريم ” يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ” والخطاب هنا للناس كافة وليس للمسلمين فقط .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله من أكرم الناس قال أتقاهم “
فاذا جئنا للمواطنة حسب تعريف أرسطو من أن المواطن هو الفرد المعرض أن يكون حاكما أو محكوما , فاننا نجده ( المواطن ) في مفهوم العقد الاجتماعي في الاسلام وتطبيقه في الشورى والبيعة في زمن الخلافة الراشدة وتراث الخليفة عمر بن عبد العزيز . ونعود هنا لخطبة أبي بكر ” اني قد وليت عليكم ولست بخيركم ” يعني بذلك أنه قد يكون بينكم من هو أحق مني بالولاية , فهو هنا مقر بأن الولاية من حق أي رجل من المسلمين يصلح لها , وفي حوار عمر بن عبد العزيز مع وفد الخوارج قال عاصم : مانقمنا سيرتك ، انك لتتحرى العدل والاحسان ، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر ، عن رضا للناس ومشورة ؟ أم ابتززتم أمرهم ؟ فيجيب عمر بن عبد العزيز: ما سألتهم الولاية عليهم ، ولا غلبتهم عليها ( لم آخذها غصبا بالقوة ) ……الخ ..كما ورد سابقا, فهو ينفي تلك التهمة عن نفسه , فهو ضمنا يعود الى أصل الحكم في الاسلام كما بينه أبو بكر في خطبته . ويلقي ذلك مزيدا من الضوء على النقاش الدائر حول مفهوم الاسلام للمواطنة كونها تؤهل أي فرد للحكم ان كان صالحا له دون استثناء .
ولأن عمربن عبد العزيز مقر ضمناً بذلك , فهو يجادلهم بأحقيته في الحكم ليس من كونه ورثه عن سليمان بن عبد الملك ولكن من كون الناس قد رضوا به طواعية من جهة , وأيضا من كونه يقيم العدل فهو رجل صالح للحكم بغض النظر عن أي اعتبار آخر .