كيف سيغير فيروس كورونا العالم؟ لا أحد يعرف بعد. لكننا نعرف أين كنا قبل أن يضرب الوباء: بلغت اللامساواة ذرى تاريخية في جميع أنحاء العالم؛ وظلت النيران مشتعلة في أستراليا لأشهر متتالية؛ وكان الأوتوقراطيون يخنقون الديمقراطية في المجر وفنزويلا؛ واجتاحت موجة من الاحتجاجات ست قارات -من بيروت إلى باريس، ومن هونغ كونغ إلى موسكو.
ثم جاء “كوفيد-19”.
كشف الفيروس عن المستويات الاستثنائية من الظلم واللامساواة في العالم. تم نشر قوائم تضم ما تسمى بالمهن الحيوية في جميع أنحاء العالم، وكانت المفاجأة أن وظائف مثل “مدير صندوق التحوط” و”اختصاصي ضرائب الشركات متعددة الجنسيات” لم تكن موجودة فيها. فجأة أصبح من الواضح تمامًا مَن هم الذين قاموا بالعمل المهم حقًا، في مجال الرعاية الصحية والتعليم؛ في وسائل النقل العام؛ وفي محلات “السوبرماركت”. ويبدو أن القاعدة العامة هي: كلما كان عملك أكثر أهمية وحيوية، قل أجرك، وكانت وظيفتك أقل أمانًا، وكنتَ أكثر تعرضاً للخطر في معركة مكافحة فيروس كورونا.
هناك أولئك الذين يعتقدون أنه لا ينبغي تسييس الوباء. وهناك أيضًا أولئك الذين يقولون إننا بحاجة إلى أن نتحدث. الآن يجري يتم القرارات بشأن مستقبلنا بالأسابيع والأيام والساعات، والتي سيتم الشعور بعواقبها لعقود.
لنكن واضحين: هذه هي الظروف التي يُكتَب فيها التاريخ. في أميركا في ثلاثينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، تم تصوُّر “الصفقة الجديدة” في خضم “الكساد الكبير”. وفي المملكة المتحدة في أربعينيات القرن الماضي، نُشر تقرير بيفيرج -النص الرئيسي لدولة الرفاهية البريطانية- بينما كانت القنابل تسقط على لندن.
ونعم، يمكن أن تسير الأمور أيضاً في الاتجاه الآخر. بعد حرق الرايخستاغ في العام 1933، مُنح أدولف هتلر سلطات واسعة النطاق من أجل استعادة السلام. وجاءت في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 “الحرب على الإرهاب” وما رافقها من إخضاع المدنيين للمراقبة الجماعية من الأجهزة السرية.
ثمة اقتباس قديم لم أستطع أن أخرجه من رأسي في الأسابيع القليلة الماضية. وهو من ميلتون فريدمان، أحد أكثر الاقتصاديين تأثيرًا في القرن العشرين. في العام 1982، كتب: “فقط أزمة -فعلية أو متصوَّرة- يمكن أن تنتج تغييرًا حقيقيًا. وعندما تحدث تلك الأزمة، فإن الإجراءات التي يتم اتخاذها تعتمد على الأفكار المطروحة في الجوار”.
الآن، نحن في خضم أكبر أزمة يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. والتأثير الاقتصادي لـ”كوفيد-19″ أكبر من تأثير “الركود الكبير” للعام 2008، وربما يكون أكبر من تأثير “الكساد الكبير” في الثلاثينيات. وإذا علّمنا التاريخ شيئًا، فهو أن حدوث الأشياء غير العادية ممكن. كل شيء يعتمد على “الأفكار المطروحة في الجوار”.
في العام 2011، كان “المُحتج” هو شخصية العام لمجلة “تايم”. ومنذ ذلك الحين، انتقلت الأفكار التي عادة ما تم رفضها باعتبارها غير معقولة أو غير واقعية إلى التيار الرئيسي. فكِّر بكيف أصبح أكاديمي غير معروف سابقاً مثل توماس بيكيتي عالمًا اقتصاديًا مشهورًا في كل أنحاء العالم. فكِّر بكيف حفز رجل أعمال أميركي آسيوي غير معروف، أندرو يانغ، ملايين الأميركيين بفكرة (دخل أساسي عالمي)، والتي -قبل بضع سنوات- نسُيت تقريبًا. وفكِّر بكيفية قيام الفتاة السويدية، غريتا ثونبرغ، التي ما تزال في السابعة عشرة من عمرها، ببدء أكبر حركة عدالة/ مناخ شهدها هذا العالم على الإطلاق.
في نيسان (أبريل)، نشرت الـ”فاينانشال تايمز”، صحيفة الأعمال الرائدة في العالم، مقالة لهيئة التحرير، والتي أظهرت كم تغيرت الأوقات. قالت الصحيفة إن “الإصلاحات الجذرية -عكس اتجاه السياسة في العقود الأربعة الماضية- ستحتاج إلى طرحها على الطاولة. والسياسات التي ظلت تعتبر منحرفة وغريبة الأطوار حتى وقت قريب، مثل الدخل الأساسي وضرائب الثروة، يجب أن تكون في المزيج”. وبالكاد استطعت أن أصدق ما أقرأ. هل كانت صحيفة “فاينانشال تايمز” (ليست صحيفة يسارية بالضبط) تقول إننا بحاجة إلى فرض ضرائب على الأغنياء وزيادة حجم الحكومة وتقديم أموال مجانية للجميع؟
يمكنك أن تقول: حسنًا، كل هذا مثير جدًا للاهتمام، ولكن ألم تطلع على المذكرة التي تتحدث عن أن الاشتراكي جيريمي كوربين سُحِق في الانتخابات البريطانية؟ ألم تسمع أن بيرني ساندرز “الثوري” خسر أمام جو بايدن المعتدل؟ ألم يخسر الاشتراكيون الديمقراطيون انتخابات بعد انتخابات في أوروبا؟
صحيح. ولكن عند تصغير العدسة، يمكننا أن نرى أن شيئًا أكبر يحدث. ما عليك سوى إلقاء نظرة على النظام الأساسي الذي يديره بايدن “المعتدل”. إن خطته الضريبية هي أكثر جذرية مرتين من خطة هيلاري كلينتون الضريبية للعام 2016. وخطته المناخية التي تبلغ قيمتها 1.7 تريليون دولار تتضمن 30 ضعفًا من الالتزام بالطاقة النظيفة من خطة كلينتون في العام 2016، وهي أكثر طموحًا من خطة ساندرز قبل أربعة أعوام. ونعم، خسر كوربين انتخابات 2017 و2019 في المملكة المتحدة، لكن الإنفاق النهائي على الخدمات العامة للمحافظين كان أقرب إلى خطط حزب العمال منه إلى برنامجهم الخاص.
وفي الوقت نفسه، من المهم أن نتذكر أن ما كانت تُسمى بالأفكار المتطرفة بالأمس، مثل فرض ضرائب أعلى على الأثرياء أو العمل المناخي الطموح، أصبحت تتمتع الآن بدعم الغالبية العظمى من الناس في البلدان المتقدمة. في العام الماضي، أظهر مسح شمل 22.000 شخص في 21 ولاية أن الأغلبية يعتقدون أن الحكومة يجب أن تفرض ضرائب أكثر على الأغنياء من أجل دعم الفقراء. حتى أن استطلاعاً أجرته “رويترز” في كانون الثاني (يناير) أظهر أن ثلثي الأميركيين، بمن فيهم 53 في المائة من الجمهوريين، يعتقدون أن فائقي الثراء يجب أن يدفعوا المزيد من الضرائب.
لقد عرف المؤرخون منذ فترة طويلة أن الأزمة يمكن أن تكون نقطة تحول للمجتمعات. وليس من الصعب تخيل كيف يمكن لهذه الأزمة أن تقودنا إلى طريق مظلم. يمكن أن يكون “كوفيد-19” مثل 11 أيلول (سبتمبر): مأساة مروعة يستغلها أولئك الذين في السلطة بأسوأ طريقة.
ولكن، إذا كان ثمة بديل ممكن، فسيكون بفضل كل هؤلاء المتظاهرين الذين جعلوا ما لا يمكن تصوره قابلاً للتصور. مثلما أعادت أميركا اختراع نفسها بعد “الكساد الكبير”، يمكن أن تؤدي هذه الأزمة إلى شيء أفضل. يمكن أن ينتهي عصر الفردانية المفرطة والمنافسة، ويمكننا أن نفتتح عصرًا جديدًا من التضامن والترابط.
قد يكون من الصعب تصديق مثل هذا الانبعاث عندما تدير جهاز تلفازك وتسمع عن أناس يسرقون ورق التواليت، أو ترى رجالاً مسلحين يحتجّون. في لحظات كهذه، من المغري استنتاج أن معظم الناس أنانيون ومتمركزون حول ذواتهم.
لكن علينا أن نتذكر أن وسائل الإعلام تركز غالبًا على ما هو سلبي، ونحن بحاجة إلى إلقاء نظرة على الصورة الأكبر. عندئذٍ سنرى أنه بينما تتعمق الأزمة، كان التضامن يزدهر في الحقيقة. كان هناك انفجار في الإيثار والتعاون: أناس يغنون من الشرفات؛ جيران يجمعون الطعام؛ متطوعون يحيكون أقنعة الوجه؛ وأطباء وكوادر تمريض وعمال تنظيف يخاطرون بأرواحهم على الخطوط الأمامية.
على مدى الأعوام الخمسة الماضية، درستُ كيف تحول العلماء من مختلف أنحاء العالم في العقدين الماضيين من اعتناق نظرات سوداوية إلى اتخاذ نظرات أكثر أملًا للإنسانية. إنهم يقولون إن البشر لم يتطوروا من أجل القتال والتنافس، وإنما لتكوين الصداقات والعمل معًا. وقد تفسر قدرتنا الفريدة على التعاون نجاح جنسنا البشري.
في وقت يشهد تحديات غير عادية، عندما يبدو “كوفيد-19” وكأنه مجرد بادئة لأزمة مناخ عالمية، نحتاج إلى افتراض الأفضل في بعضنا بعضا. وكمؤرخ، لا أستطيع أن أقول إنني متفائل، لكنني آمِل، لأن الأمل يدفعنا إلى العمل.
*مؤرخ هولندي وكاتب في “كوريسبوندنت”. سيصدر كتابه الجديد “البشرية: تاريخ متفائل” في حزيران (يونيو) المقبل.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Moment to Change the World Is Right Now
المصدر: (مجلة تايم) / الغد الأردنية