ما السلفيَّة؟

لوران بونفوا*

في العربية، تشير كلمة السلفية بوضوح إلى “السلف الصالح”، الذين يمثلون الأجيال الثلاثة الأولى من المسلمين. وقد جعل التراث الإسلامي من هؤلاء الأفراد رموزا للتقوى، الذين لم تفسد البدع والانقسامات ممارستهم للشعائر الدينية بعد. وينظر إلى تلك الممارسة باعتبارها أصيلة، ويرغب السلفيون المعاصرون من خلالها في العودة إلى أصول الإسلام ومبادئه.

اكتسب مصطلح السلفية في السنوات الأخيرة أهمية إعلامية وسياسية مثيرة للدهشة، كما هو الحال في أوروبا وأميركا الشمالية وأفريقيا وآسيا والعالم العربي. وعلى الرغم من اقتراحات الحظر الهوجاء التي يقدمها المسؤولون السياسيون الفرنسيون إلى الخبراء، الذين يحاولون بدورهم إضفاء الشرعية على خطابهم، غالبا ما يظل استخدام مصطلح السلفية غير واضح أو محدد. فبالنسبة للكثيرين، أصبح المصطلح يستخدم لوصم المعارضين، في غفلة عن التنوع الذي يشير إليها هذا المصطلح.

أحد تيارات الإسلام السني منذ نهاية القرن التاسع عشر

يرجع بروز السلفية كرمز وهدف للعداء وكمادة علمية في أوروبا والولايات المتحدة إلى الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بشكل أساسي. فقبل هجمات نيويورك وواشنطن، لم تكن قضية السلفية مطروحة في الواقع إلا في نطاق محدود، حتى في المجال الأكاديمي الذي كان حتى ذلك الوقت معنيا بشكل خاص بالحركات الإسلامية “المسيسة”، والقريبة بشكل أو بآخر من “الإخوان المسلمين”، والتي تتميز أهدافها وأساليب عملها عن الحركات السلفية.

وإذا كان الباحثون قد تجاهلوا السلفية لفترة من الزمن، فإن وجودها كان بكل تأكيد سابقا على دراستها. فالسلفية تمثل في الواقع أحد تيارات الإسلام السني الذي يمكن التعرف عليه من خلال ممارساته ومرجعياته. وقد أدرك الباحثون تأخرهم عن مقاربته، وشرعوا، منذ خمسة عشر عاما، في صياغة تعريفات علمية متفق عليها إلى حد كبير، باللغة العربية ومختلف اللغات الأوروبية. إلا أن هذا لم يمنع للأسف تواصل الاستخدامات الخاطئة وغير المحددة والواصمة للسلفية.

في نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت السلفية الأولى، ولاقت رواجا بين المؤرخين والمفكرين الإسلاميين “الإصلاحيين”، ولعل أشهرهم الفارسي جمال الدين الأفغاني، والمصري محمد عبده، والسوري رشيد رضا، والذين نادوا بالرجوع إلى أصول الدين مع رغبة في التحديث، في ظل مناخ استعماري كان هو سمة تلك المرحلة. ولأنها كانت ذات طابع نخبوي، اضمحلت السلفية الأولى في أعقاب ظهور جماعة الإخوان المسلمين في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد ظل المؤرخون والعلماء المتخصصون في الإسلام، لسنوات طويلة، يشيرون إلى هذا التيار باستخدام مصطلح السلفية -وهو ما كان يثير أحيانا التباسا في المفهوم.

ثم ظهر شكل آخر من السلفية، مبني على مشروع أكثر حرفية وصرامة وذو تأثيرات متباينة، التقط المسمى تدريجيا، وكون آخر تخيليا. وتعود أصول تلك السلفية، في صورتها الحالية، التي ظهرت في منتصف القرن العشرين، إلى تعاليم تقي الدين أحمد ابن تيمية (توفي في العام 1328) ومحمد ابن عبد الوهاب (توفي في العام 1792) مؤسس التيار الوهابي.

تركيز على العقيدة والفقه

تتميز السلفية بتركيزها الخاص على مسائل العقيدة والفقه، وهي تطمح إلى استيعاب المذاهب الفقهية الأربعة للإسلام السني (المالكية والحنفية والحنبلية والشافعية) بالرجوع إلى الأصول المفترضة، وبتنقية الممارسات الدينية من البدع. وإذا كان لقب “سلفي” ينظر إليه باعتباره شرفا، إلا أن أتباع السلفية يفضلون لقب “أهل السنة والجماعة” أو “أهل الحديث”. ودائما ما يصفهم أعداؤهم بـ”الوهابيين”، في إشارة إلى التأثير الأيديولوجي الذي مارسه محمد بن عبد الوهاب على هذا التيار، ودور المملكة العربية السعودية المعاصرة في هيكلته. إذ تقوم السلفية في الواقع على مرجعيات أخرى مختلفة، فتبدو الوهابية كإحدى مشتقات السلفية، إلا أنها تسمية مرفوضة بشكل عام من قبل أولئك الذين يعدون من أتباعها.

يقوم المشروع السلفي على منطق حرفي، يشكل قطيعة مع الإسلام “الشعبوي”، الذي تميزه عقيدة الأولياء الصوفيين، على سبيل المثال، الذي يستمد جزءا من شعبيته من القدرة على إثبات مقدرة كل شخص على تفسير الرسالة الإلهية وفقا لرؤيته، وانتقاد النخب الدينية التقليدية. وتهدف مطاردة البدع إلى الرجوع إلى أصول الدين كما هي منصوص عليها في القرآن والحديث. كما يفرض منهج السلفية الحرفي الالتزام بالشكليات، والرفض النظري لكل أشكال المواءمة والتفسير وفقا للسياق. ويعد الملبس وطريقة التحية، والتعامل مع غير المسلمين، والتعامل بحذر مع التكنولوجيا الحديثة والتصوير والموسيقا، أهم ما يميز السلفية. ويشدد شيوخ السلفية على التقوى والعقيدة، مؤكدين مبدأ التوحيد في مواجهة مختلف الحركات التي يصفونها بالمنحرفة، خاصة الحركات الشيعية. وهم يعارضون كذلك طموح الإخوان المسلمين، ووسائل الحشد التي يستخدمونها.

لا طاعة إلا لله

في هذا الإطار، يدين المؤمن بولائه إلى الله وحده. وهم ينظرون إلى الهويات السياسية أو القومية أو المحلية بشيء من الارتياب. فأولوية العمل في الحياة الدنيا يجب أن تكرس للدعوة، وليس لفرض نظام سياسي معين قائم على العدالة. فعملية الأسلمة تجري إذن “من أسفل”، من خلال الممارسة اليومية الفردية، وليس “من أعلى” من خلال سلطة الدولة.

هذا المنطق المتسم بالانعزالية، انتشر عن طريق تعاليم عدد من علماء الدين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد لعب محمد الألباني (من أصل ألباني وشامي، توفي في العام 1999) وعبد العزيز بن باز (من أصل سعودي، توفي في العام 1999) ومقبل الوادعي (من أصل يمني، توفي في العام 2001) وأبو محمد المقدسي (من أصل فلسطيني، ولد في العام 1959) دورا محوريا في ذلك، وما يزال تأثيرهم ممتدا حتى اليوم.

في مواجهة هذا المشروع الشامل، انقسمت السلفية في الثمانينيات، كما أنها تكيفت بشكل كبير مع سياقات تطورها المختلفة. وهكذا تجسدت طموحاتها بشكل منقوص، ولعله من المهم قياس انفصال الممارسات السلفية الواقعية عن أيديولوجيا في ظاهرها مترابطة. وإضافة إلى ذلك، فإن عدم الثقة الهيكلية في المؤسسية (التي من شأنها خلق ولاء لمؤسسات من صنع الإنسان)، تجعل من مبدأ التحريم التام شيئا صعبا. وهكذا، فإن السلفية هي مشروع واسع الانتشار والتأثير، أكثر منه جماعة قابلة للحل.

الأقسام الثلاثة للسلفية

حدد الأكاديميون، على الرغم من إقرارهم بوجود تداخلات عدة، ثلاثة أفرع من السلفية المعاصرة. الفرع الأول، وهو السلفية “الدعوية” أو “العلمية”، يحاول تأكيد أهمية الانصراف عن العمل السياسي. وهو يقبل بمبدأ الولاء التلقائي للسلطة السياسية، حتى وإن كانت تلك السلطة ديكتاتورية، في سبيل توفير الطاقة من أجل نشر الدعوة الإلهية. وعلى الرغم من كونه “متطرفا” على مستوى العقيدة، إلا أن هذا الفرع يعد “معتدلا” على المستوى السياسي، وناقدا للجوء إلى العنف السياسي؛ ويتمثل في المؤسسة السياسية السعودية، بما تحمله من إذعان لنظام الحكم.

أما الفرع الثاني للسلفية، فهو يحتفظ بالرغبة نفسها في تطهير الممارسة الحالية للإسلام، ولكنه يرى أن العمل السياسي، حتى ذلك الذي يمارس من خلال الأحزاب، يجعل منه أكثر فاعلية. وقد تكونت هذه السلفية “الحركية” أو المسيسة في الكويت والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، حول مشروع الصحوة، وعقب الربيع العربي، من خلال حزب النور في مصر. ويتسم هذا الفرع بمنطق ينظر إليه باعتباره أكثر براغماتية.

أما الفرع الثالث، السلفية “الجهادية”، فهو يندرج في إطار شكلي كذلك، لكنه يعتبر اللجوء إلى العنف محركا أساسيا. ويتجسد هذا الفرع في استراتيجيات تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، ويمثل قطيعة واضحة مع الأفرع الأخرى. وقد تبلورت أكثر الخطابات الرافضة للعنف فعالية في رحاب السلفية الدعوية على وجه الخصوص. وسيكون إدراك تنوع الفروع داخل المشروع السلفي، وملاحظة كيف أنها تتكيف مع مختلف السياقات وتكتسب دلالات متنوعة، خير علاج لأفكار الوصم والنزعة التجريمية المنفصلة عن الواقع، والمعوقة للإنتاج؛ ذلك أنها تثير الغموض والالتباس.

*لوران بونفوا: كاتب وباحث في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، المركز الفرنسي للأبحاث في شبه الجزيرة العربية، الكويت. الترجمة العربية لـ”أوريان 21″.

المصدر: (أوريان 21) /الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى