في رحيل الكبير عبد العظيم مناف || البوصلة لديه لاتضيع

أحمد مظهر سعدو

كان الرجل الذي لايهدأ عملًا وسفرًا ونشاطًا وكتابة، من أجل العروبة والأمة كل الأمة، لقد رحل في ١٧ آب/أغسطس ٢٠١٦ حيث غيب الموت جسد الكاتب الكبير الأستاذ عبد العظيم مناف عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، لكنه أبدًا لم يرحل فكرًا مستنيرًا ووعيًا وثقافة وإرثًا معرفيًا ناصريًا عروبيًا لاينضب، مازلنا ننهل من معينه ونقتفي آثاره، ونحاول الإمسالك ببعض ماترك لنا، ونتوقف مع أحاديثه وقوة وعمق فكره وعظمة قدراتهالمكافحة من أجل القومية العربية الواعية، التي تعرف تمامًا كيف تحدد توجهات البوصلة، وتمسك بناصية الحق والحقيقة دون مواربة، كانت بوصلته تشير إلى القدس والعروبة، وهي لاتبرح مؤشرها مطلقًا نحو المزيد من الاشتغال الدؤوب على كل ما يخدم العروبة، ويبني عليها، ويناضل من أجلها.

كان يحج دائمًا إلى دمشق وبغداد، ويصر على لقاء كل الأصحاب والأحباب العروبيين المناضيلن، الذين ماانفكوا يحملون الراية، نحو قيامة أمة متماسكة قوية، تدرك مآلات مستقبلاتها، وتخطط لكينونة واقعها، وترسم ملامح عصر قومي ديمقراطي قادم. لم يهن عبد العظيم مناف  أبدًا ولم يتراجع على طول المدى، وكم كانت فرحته كبيرة في مطلع الألفية الثالثة يوم تمكن بجهوده الكبيرة أن يعيد فتح خط بغداد دمشق المغلق منذ أيام حافظ الأسد، ويكون أول القادمين من بغداد إلى عاصمة الأمويين دمشق، رغم صعوبة ذلك وتمترس الدولة الأمنية السورية/ البعثية في محاولاتها للاستمرار في قطع مابين الشعوب العربية. لقد شاهدته يومها فرحًا للغاية، وهو يساهم في فك الحصار، ويفتح الأبواب على مصاريعها، لعلاقة ضرورية بين الشعوب وهي أكبر من الأنظمة وأبقى، إنها العلاقة الوحدوية البينية لدى كل شعوب العرب، بالرغم من ممارسات النظم السلطوية التي تحول دون ذلك.

كم كان مسرورًا عندما أعلمته أن صحيفة (صوت العرب) ستكون أول الفاتحين نحو بغداد عبر دمشق (قلب العروبة النابض)، وأن (صوت العرب) لم يعد مايمنعها من الوصول إلى بغداد من بوابة دمشق، فكان يصر على أن تصل وتوزع مجانًا في كل أنحاء العراق، وصولًا إلى العلاقة العروبية الحقة، ووصل ماانقطع في غير زمان ومكان، كان وصول (صوت العرب) الصحيفة الجميلة الأنيقة ذات النهج العروبي والخط القومي الواضح، والتي كان لي شرف الكتابة فيها، إلى العاصمة بغداد مسألة حياة أو موت بالنسبة للعروبي عبد العظيم مناف، لمايرى في ذلك من قدرة على البناء، وحرصٍ على التماسك بين الشعوب العربية نحو وحدة الأمة.

في لقاءاتنا المستمرة يوم تطأ قدميه أرض الشام، كنت أجد فيه ذاك الرجل المهموم بقضايا الأمة من فلسطين إلى العراق المحاصرة، ومن ثم العدوان الأميركي المستمر عليها، إلى كل قضايا الوحدة العربية، الشغل الشاغل لناصري خرج  من صعيد مصر/ العروبة، ومشى على هدي الناصرية الحقة التي لاتهادن، كان حديثه في لقاءاتنا المتتابعة يحاول فيه أن يفتح باب الحوار مع الشخصيات الوحدوية المعروفة والمشهود لها، كالراحل المحامي الصديق حبيب عيسى، والراحل الكبير القائد الدكتور جمال الأتاسي، والراحل الناصري خالد نعمان، والكثير الكثير من أهل الفكر والثقافة والمواقف العروبية الناضجة والواضحة، التي لا تتراجع عن نهج العروبة مهما كانت قسوة نظم الاستبداد في قمعها وزجها في السجون والمعتقلات الأسدية.

أدرك الراحل الأستاذ عبد العظيم مناف أن الرهان على الشعوب هو الأبقى والأنقى، وأن النظم العربية زائلة لامحالة، لكن الشعب هو المعلم وهو المرشد والموجه، ولايمكن أن تكون الشعوب العربية إلا منتمية إلى مسار ومسيرة الناصرية والعروبة، مما دفعنا وعبر توجيهاته الصحفية المهنية، التوجه نحو التنقيب عن الشخصيات الفنية والفكرية الأصيلة في حيوات السوريين التي كان لها الباع الكبير في بناء مداميك الوحدة العربية عام 1958 بين مصر وسورية، فكان أساريره تتفتح يوم يجد مادة صحفية من دمشق، تؤرخ للوحدة، وفنون الوحدة، وثقافة الوحدة، كاللقاء مثلًا مع الفنان والمطرب الكبير (نجيب السراج) ابن الإقليم الشمالي في دولة الوحدة، والذي راح يتذكر عبر صفحات (صوت العرب) ماكان في مخياله من ذكريات عن الوحدة ودولة الوحدة.

عندما سقطت بغداد على أيدي الأميركان وعملائهم، كان الأستاذ في دمشق، وقد شاهدته حزينًا جدًا، ومطرقًا لايلوي على شيء، وهو الذي أدرك أنها بغداد عاصمة الدولة العباسية وبوابة المشرق العربي نحو همجية الفرس المتربصين بالأمة، وبالصدفة التقينا بشخص عراقي كان قد وصل من العراق للتو، بادر الأستاذ عبد العظيم وأنا معه للاطمئنان على أوضاع العراق العظيم، وكانت المفاجأة كبيرة فهو من عملاء إيران والأميركان، الذين يهللون لسقوط بغداد، علت أصواتنا في الشارع، مع هذا المتشفي بسقوط بغداد، وقد حال الأستاذ بيني وبينه، لأنه يعي أن لاوقت لنقاش وحوار مع  العملاء، ولايجوز أن تعلو أصواتنا، بينما بغداد تحرق وتنهب وتدمر.

لم يكن الأستاذ طائفيًا بأي حال من الأحوال، وكان في كل لقاءاته يحتضن الشخصيات الوطنية السورية ومن كل الطوائف، وهو الكاتب ذو المعطى القومي العربي، الذي لايقبل العودة إلى ماقبل العروبة، أو الالتفات إلى الأمراض الموجودة داخل أسوار وطننا العربي، الأثنية والطائفية، وكان يقول (لايمكن للعروبي أن يكون طائفيًا بأي حال من الأحول) (الوحدوي أكبر وأوعى وأنضج من الهرتقات الطائفية التي يغذيها الأميركان والاستعمار عامة)، لكنه أيضًا لم يضيع البوصلة أبدًا التي تؤشر إلى  أن أعداءنا هم الصهاينة، لكن الفرس أيضًا لهم أطماع في أمتنا، وهم يشكلون الخطر الداهم، ليس على العراق وحده، بل على الأمة العربية كلها، ويبدو أنه في ذلك كان يسبقنا جميعًا، ويستشرف المستقبل،  حيث أدركنا متأخرين صوابية اطروحاته هذه، ثم وعينا كم كانت دولة الملالي في طهران تحفر ضد العرب، وتشتغل على مشروعها الفارسي الطائفي للمنطقة، وهي التي وصلت اليوم إلى دمشق وبيروت، وقبلها بغداد واليمن. إن وعي الأستاذ لحقيقة الخطر الفارسي كان سباقًا فيه على الكثير من أهل العروبة، الذين كانوا يتوهمون خطأً أن إيران يمكن أن تكون مع قضايا العرب بادعاء تحرير فلسطين والقدس، وان ماتقول به من دعم المقاومة كان وهمًا وكذبًا بواحًا، فتحرير االقدس عندها يبدأ من قتل وتدمير حمص والقصير وحلب، والسيطرة على اليمن العربية، لصالح قوى البغي والتخلف المُفوَّت الإمامي المتخلف الذي  قاتلهم عبد الناصر يومًا.

الحديث عن الراحل الكبير عبد العظيم مناف لاينتهي ولا يتوقف، وهو الأستاذ والمعلم، والرجل الرجل، والعروبي الذي كانت لا تنحني هامته، ولا تتوقف همته، ولا عطاءاته، حتى الوصول إلى تحقيق أهداف الأمة في الوحدة العربية المبنية على الديمقراطية السليمة والواعية تاريخانيًا لمهمات مستقبلاتنا كعرب، في ظل نظم القهر والاستلاب والتقهقر، التي تتربع فوق جثث أبناء الامة الذين قالوا يومًا لهذه النظم (بدورها الوظيفي البائس) ارحلي إلى مزابل التاريخ.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى